تركض "أم هشام" وسط الظلام الذي تُنيروه مصابيح الهواتف، وفوق ركام المنزل المدمرة، فيما تتساقط مياه الأمطار على ممتلكاتها لتغرق وأطفالها، وبينما يرتجف جسدها من شدة البرد، تُمرر أناملها الناعمتين فوق أجساد أطفالها الصغار علها تمدهم بالدفء، وفجأة تطلق صرخة مدوية صوب زوجها: "الحجارة تتساقط فوق رؤوسنا"، أجابها بحزن عميق: "وين نروح؟!".
كانت عقارب الساعة تُشير إلى العاشرة ليلا حينما التجأ الزوجين وأطفالهم إلى زاوية داخل الشقة المدمرة، حُصروا جميعًا لساعات عدة في زاوية تملؤوها الرطوبة؛ لكنها تحميهم من الأمطار التي يصاحبها عواصف رعدية تثير الرعب، تتحسس "أم هشام" أطفالها الصغار فتجد ملابسهم وقد تبللت بالمياه، في تلك اللحظة أغمضت عينيها وتقول لزوجها: "من وين أجيب ملابس؟ الأولاد سيصيبهم البرد والمرض!".
حكاية أم هشام نصير
حكاية "أم هشام نصير" هي واحدة من بين الحكايات المرعبة التي تعيشها عشرات الآلاف من الأسر في قطاع غزة بسبب استمرار تداعيات حرب الإبادة التي لم تتوقف حتى الآن، فأم هشام تعيش في نصف شقة آيلة للسقوط تُحيط بها جدران وطبقات من الباطون المدمر بفعل صواريخ الاحتلال، كأنها تعيش داخل كهف أو قبر يكاد يطبق على أبنائها في أية لحظة.
الخطر الذي يحيط بعائلة "أم هشام"، أنها تعيش في الطابق الثاني من مبنى وزارة المالية المدمر غرب مدينة غزة، فالطوابق العلوية مدمرة بالكامل وهي متراكمة فوق الطابق الثاني، بينما تدخل أم هشام وزوجها وأطفالها إلى الشقة عبر الصعود فوق الركام أولًا ثم السير بطريقة التوائية وسط الحجارة والقضبان الحديدية وصولًا إلى النافذة -الشباك-.
ما أن تضع قدماك داخل الشقة في الطابق الثاني بعد معاناة الصعود، حتى تُصاب بصدمة وحالة من الذهول والدهشة، فهل يعقل أن تعيش أسرة مكونة من 5 أفراد جميعهم أطفال في هذا المكان؟"، لم تتوقف الإثارة عند هذا الأمر؛ لكن عندما تتقدم عدة خطوات باحثا عن غرفة أو مكان للنوم في مساحة لا تتجاوز 90 مترًا تجد غرفتين معتمتين عبارة عن دورات مياه صغيرة ومكتب نصفه مدمر والنصف الآخر آيل للسقوط، ومكتب ثانِ آيل للسقوط، وساحة صغيرة تحتوي على مقتنيات "أم هشام".
ما أن هدأت الأمطار الغزيرة حتى بدأت "أم هشام" بنشر الملابس المبللة بالمياه علها تُصاب بشعاع من أشعة الشمس ليجففها، تقول وهي ترتجف من البرد: "هذه ليست حياة، أنا أعيش في قبر، كل يوم أستيقظ فيه هو بمثابة يوم جديد من المعاناة والألم والقهر والذل والإهانة".
تكاد الكلمات تخنق "أم هشام" وهي تروي جزء من معاناتها وتقول بصعوبة بالغة: "لجأت إلى هذا المكان بعدما تقطعت بي السبل، لا يوجد لي مكان، نزحت من بيت حانون شمال القطاع عدة مرات خلال حرب الإبادة، حتى وصلت إلى هذا المكان الذي يشبه في كل تفاصيله "القبر".
تُشير بيدها اليُمنى إلى مدخل الشقة والغرف المدمرة والجدران المتهالكة والسقف المشقق، بينما تمسح بيدها اليسرى ما انهمر من وجنتيها وهي تقول: "أخشى سقوط الحجارة على الأطفال الصغار وهم نائمون، كما حدث مع جيراننا الذين استشهدوا وأصيبوا خلال سقوط جدار على خيمتهم بفعل المنخفض الجوي الأخير".
معاناة المياه والطعام
تروي "أم هشام" جزًا بسيطًا من معاناتها اليومية التي لا يمكن وصفها بالكلمات، لتعبئة جالونات المياه فتقول: "عندما أسمع صوت سيارة المياه أهرول بسرعة عالية من فوق الركام وفي كل مرة أسقط أرضًا وأصاب بجروح نتيجة وعورة المكان وصعوبة النزول والصعود للشقة، وفي بعض الأيام لا أحصل على مياه تكفي أطفالي ليوم واحد".
تتوقف أم هشام عن الحديث برهة من الوقت ثم تذرف دموعا كالنهر بين وجنتيها، وتلفت بصوت يهز القلب ويُرجف الجسد: "أبوي استشهد واخواتي اثنين استشهدوا في الحرب راحوا الغوالي وما في حدا يدور علينا، قبل ساعات أوقعت على الأرض، حتى بناتي وأولادي أصيبوا بجروح مختلفة بعد سقوطهم على الركام، مش قادرة أمشي ولا أعيش في هيك مأساة".
تدور بعينها يُمنةً ويُسرةً باحثة عن أطفالها الصغار، ثم تحتضنهم وتُقبل جبينهم فيما تهمس بآذانهم: "الله يحميكم يا أولادي"، لحظات مؤلمة قبل أن تدير وجهها لمراسل "شمس نيوز" واحمرت عينيها من البكاء: "أخشى على أطفالي من الموت، أخاف من سقوط الجدار المتهالك على رؤوسهم، وأشعر بالرعب كلما تذكرت جيراني الذين استشهدوا بعدما سقط عليهم مبنى متهالك من عدة طوابق، متسائلة "هل سأستيقظ في يوم من الأيام وأطفالي تحت الركام المتهالكة؟، وفي حال سقطت الحجارة عليَّا من سيحمي أطفالي من بعدي؟، أسئلة تشعرنا بالنقص والألم والوجع.
للأسف لا مكان آخر
وفي زاوية أخرى من الشقة المتهالكة يقف "أبو هشام" مشدوهًا أمام جدار غرفة يكاد يسقط من شدة الرياح والأمطار، يقول لمراسل "شمس نيوز": "للأسف الشديد لا يوجد أماكن في قطاع غزة، هذا المكان الوحيد الذي لجأت إليه بعد عودتنا من الجنوب، لاعتقادي بأنه يحمي من سقوط الأمطار والرياح؛ لكن بعد تجربة المنخفض الجوي الأخير أدركت أنني وقعت في الفخ".
يحتضن أبو هشام إحدى بناته وهو يتمتم بكلمات مؤلمة وموجعة: "سامحيني يا ابنتي لم أستطيع توفير مكان آمن لكي ولأمك ولإخوتك، حياتنا أصبحت بلا طعم كلها ألم ومعاناة"، أزاح أو هشام عينيه تجاه مراسلنا، يقول: "لن أغادر هذا المكان مطلقًا، إلا إذا توفرت لي خيمة أو مكان قريب من مدينة بيت حانون".
وعن حالة الخوف والرعب التي يعيشها أطفاله، يشير إلى أن أطفاله فقدوا الرهبة والخوف من المكان في أول أسبوع؛ لكن الجديد هو مياه الأمطار والرياح والخشية من سقوط الحجارة، هذا الأمر مرتبط بالحالة الجوية وأنا لا أملك أي شيء للانتقال لمكان آخر يحمني وأسرتي من المنزل الآيل للسقوط".
لا يملك أبو هشام عملًا ثابتًا أو وظيفة تدر عليه مصدر رزق، إنما يخرج كل يوم مما أطلق عليه -القبر- ليبحث عن عمل جديد عله يستطيع توفير بعض الطعام لأطفاله، وأثناء تلك الساعات يوصي أقاربه وجيرانه على أطفاله خشية من سقوطهم على الأرض، وكل ما يخشاه هو سقوط سقف الباطون فوق عائلته.
رسالة وإحصائية
ووجه "الزوجان نصير" رسالة للعالم الذي يشاهد أصناف وألوان من الموت يوميا في قطاع غزة، مرة عبر صواريخ الاحتلال وأخرى بسبب قلة الدواء والعلاج وثالثة لعدم السفر للخارج والحصار ورابعة بسبب البرد القارس والأمطار الغزيرة: "أيها العالم الحر تحرك وتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في غزة، نحن لا نريد منكم إلا حمايتنا والدفاع عن الإنسانية والكرامة.
وأمام الوقع المأساوي الذي تعيشه عائلة أبو هشام نصير، يحذر المتحدث باسم الدفاع المدني في قطاع غزة محمود بصل من المنازل الآيلة للسقوط، لافتًا إلى أن طواقم الدفاع المدني سجلت وفاة 17 ضحية بفعل سقوط الجدران والحجارة المتهالكة فوق خيام النازحين، بينما انهار نحو 17 مبنى بالكامل خلال المنخفض الجوي الذي ضرب قطاع غزة لثلاثة أيام متواصلة.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
