قائمة الموقع

هل أطلقت السلطة الفلسطينية رصاصة الوطنية الأخيرة؟

2025-12-26T17:52:00+02:00
قوات أمن السلطة - شرطة رام الله
بقلم: محمد علي

لم يعد السؤال اليوم إن كانت السلطة الفلسطينية قد أخطأت، بل إن كانت ما تزال تقف أصلًا في الخندق الوطني. فالأخطاء تُغتفر، أما التحوّل الوظيفي فلا يُبرَّر، ولا يُغلف بخطاب سياسي مهما تجمّل بالمصطلحات.

قرار السلطة الفلسطينية إلغاء مخصصات عائلات الشهداء والأسرى والجرحى ليس مجرد إجراء مالي أو “إصلاح إداري” كما يُسوَّق له، بل هو إعلان سياسي صريح بالتخلّي عن أحد آخر الثوابت التي شكّلت الحد الأدنى من الإجماع الوطني الفلسطيني. إنه قرار ينزع القداسة عن دم الشهداء، ويحوّل الأسرى من عنوان كرامة وطنية إلى “عبء” يجب التخلص منه لإرضاء المانحين والوسطاء.

الأخطر من القرار نفسه، هو توقيته وسياقه. ففي لحظة يتعرض فيها شعبنا لحرب إبادة مفتوحة في غزة، وتجريف وتهجير في الضفة، وتجويع ممنهج، يأتي هذا القرار ليقول بوضوح: إن السلطة لم تعد ترى في المقاومة وأهلها جزءًا من معادلتها، بل عقبة في طريق بقائها السياسي.

لقد سمع الفلسطينيون طويلاً خطاب “الدولار الأخير”، لكن الواقع أثبت أن هذا الدولار كان مشروطًا، وأن الالتزام لم يكن مبدئيًا بل ظرفيًا، يسقط عند أول موجة ضغط أمريكي–إسرائيلي. وهنا لا نتحدث عن زلة لسان، بل عن سقوط كامل للخطاب أمام امتحان الفعل.

منذ سنوات، والسلطة تنزلق تدريجيًا من مربع التمثيل السياسي إلى مربع الوظيفة الأمنية. التنسيق الأمني لم يعد تفصيلًا مثيرًا للجدل، بل أصبح جوهر العلاقة مع الاحتلال. وما جرى في مخيم جنين ليس استثناءً، بل نموذجًا: سلطة تطارد المقاوم، تمهّد الطريق للاحتلال، ثم تقف متفرجة على الاجتياح والقتل والتدمير.

وفي الضفة الغربية، بات الفلسطيني يُلاحق مرتين: مرة من جنود الاحتلال، ومرة من أجهزة يفترض أنها وُجدت لحمايته. اعتقالات سياسية، قمع للحريات، ملاحقة للمقاومة، وكل ذلك تحت عنوان “فرض النظام”، بينما الفوضى الحقيقية هي هذا الانفصال المتزايد بين السلطة وشعبها.

أما في لبنان، فالمشهد لا يقل فجاجة. صراع نفوذ داخل حركة "فتح"، تسليم سلاح المخيمات تحت وعود تحسين الأوضاع، ثم لا تتحقق الوعود، بل تُسحب ما تبقى من حقوق العمل والعيش الكريم. هنا لا تبدو السلطة عاجزة فقط، بل شريكة في وهم سياسي ثبت فشله مرارًا.

وتزداد الصورة قتامة مع تصاعد الحديث عن شبهات فساد، وبيع ممتلكات عامة، وحصر أملاك منظمة التحرير تمهيدًا للتصرف بها بعيدًا عن أي رقابة وطنية حقيقية. وبين الاتهامات المتبادلة، يضيع السؤال الأهم: من يحاسب؟ ومن يملك الحق في التصرف بما هو ملك للشعب الفلسطيني؟

وفي تطور خطير، أثيرت شبهات حول تحركات ياسر عباس في لبنان، حيث تتهمه أوساط فلسطينية بالإشراف على عملية حصر أملاك منظمة التحرير الفلسطينية تمهيدًا لبيعها. وقد تفجّرت القضية بعد رسالة منسوبة للسفير السابق أشرف دبور، تحدث فيها عن «صفقة مريبة» لبيع مبنى تابع لمنظمة التحرير في منطقة كورنيش المزرعة في بيروت.

وكشف دبور، في بيان لاحق، عن عرض مبلغ 500 ألف دولار عليه كـ«عربون صمت» من أصل ثمن عقار تُقدّر قيمته بملايين الدولارات، متسائلًا عن مصير الأموال، وعن غياب الرقابة والشفافية، وهل أُودعت في الخزينة العامة أم في حسابات خاصة.

روايتان متناقضتان… والحقيقة الغائبة

في المقابل، نفت منظمة التحرير الفلسطينية هذه الاتهامات، واعتبرت دبور مطلوبًا للقضاء الفلسطيني في قضايا فساد، متهمةً إياه بسوء إدارة مالية، ورفض المثول أمام القضاء، ما أدى – بحسب بيانها – إلى صدور مذكرة توقيف بحقه عبر الإنتربول. وبين الروايتين، تبقى الحقيقة ضائعة، فيما تتآكل ثقة الفلسطينيين بمؤسسات يفترض أنها تمثلهم وتحمي أموالهم وحقوقهم.

المشكلة لم تعد في شخص أو قرار، بل في بنية كاملة فقدت مبررات وجودها الوطنية. سلطة بلا سيادة، بلا مشروع تحرري، بلا تمثيل حقيقي، وتعمل وفق سقف مرسوم خارج الإرادة الفلسطينية، لا يمكنها الادعاء بأنها ما زالت “وطنية”.

إن أخطر ما تواجهه القضية الفلسطينية اليوم ليس فقط الاحتلال، بل استمرار وجود سلطة تُدار بمنطق إدارة الأزمة لا مواجهتها، وبمنطق احتواء الغضب لا تمثيل الشعب، وبمنطق التنسيق لا الاشتباك السياسي الحقيقي.

نحن أمام سلطة فقدت سبب وجودها الوطني، وتعمل ضمن سقف مرسوم في واشنطن وتل أبيب، لا في رام الله ولا في مخيمات اللجوء.

سلطة بلا سيادة، بلا مقاومة، بلا تمثيل، وبلا تفويض شعبي، لا يحق لها الحديث باسم فلسطين، ولا باسم شهدائها، ولا باسم أسراها.

وعليه، فإن السؤال لم يعد:

هل أطلقت السلطة الفلسطينية رصاصة الوطنية الأخيرة؟

بل: كم رصاصة أُطلقت، وكم بقي من الوقت قبل أن يُعاد بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس جديدة، تُعيد الاعتبار للدم، وللأسير، وللشعب، لا للوظيفة ولا للمانحين.

التاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، ومن يختَر أن يقف خارج شعبه، سيُكتَب خارج معادلة الوطن، مهما طال الزمن..

اخبار ذات صلة