غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

بالصور "ليسوا أرقامًا".. الكاتبة ياسمين عنبر توثّق الذاكرة من قلب الإبادة

الشهداء ليسوا أرقامًا
شمس نيوز - مطر الزق

لم تتوقع الكاتبة ياسمين عنبر أن تواصل حمل عبء توثيق قصص الشهداء الفلسطينيين وحمل الأمانة وهي في غربتها الموحشة في تركيا؛ إلا أن أحداثًا مفجعة هزت قلبها، وكلمات مزلزلة مرت على شريط ذاكرتها دفعتها لحمل الأمانة واستكمال الرسالة التي بدأ الشهيد الدكتور رفعت العرعير نسج خيوطها بمبادرة "ليسوا أرقامًا".

فمنذ بداية حرب الإبادة في السابع من أكتوبر 2023 تجمد قلم الكاتبة عنبر ولم تكتب حرفًا واحدًا حزنًا وقهرًا وعجزًا لما وصلت إليه الأوضاع الإنسانية في القطاع؛ فكانت أعداد الشهداء تتسابق على شريط الأخبار ثم تختفي لتزاحم الأحداث، إلا أن الثامن من ديسمبر من العام نفسه أيقظ فيها حس الكتابة وبدأت تستعيد نشاطها لتوثق جزءًا من جرائم الاحتلال.

فمع بداية غروب الثامن من ديسمبر أعلنت وسائل الإعلام عن ارتقاء الشاعر والأكاديمي والمترجم الفلسطيني رفعت العرعير مع العديد من أفراد عائلته في غارة إسرائيلية على منزل شقيقته شمال غزة، تلك الحادثة المفجعة دفعت الكاتبة عنبر لإيقاد القلم من جديد، وتمسكت برسالة الدكتور العرعير وإكمال مبادرته لتوثيق قصص الشهداء.

وقالت الكاتبة عنبر لمراسل "ِشمس نيوز": "حين استُشهد الدكتور رفعت العرعير، الذي بدأ بمبادرة الشهداء "ليسوا أرقامًا"، شعرت أن رسالته الأخيرة هي رسالة لكل الأقلام الحرة في العالم، وتوثيق قصص الشهداء لا بوصفه مشروعًا أدبيًا، بل واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا".

وأثناء توثيق أول القصص الإنسانية مر شريط الذكرة أمام الكاتبة عنبر وعاد بها لعام 2018 حينما كانت في غزة توثق قصص شهداء مسيرات العودة، إذ وثّقت خمسين قصة لشهداء سقطوا وهم يحلمون بالعودة إلى قراهم ومدنهم.

الشهداء ليسوا أرقامًا
 

واستذكرت الكاتبة عنبر وعدًا قطعته على نفسها لأم الشهيد الطفل ياسر أبو النجا الذي استشهد في مسيرات العودة، حينها قالت والدة الشهيد للكاتبة عنبر: "كان ياسر طفلًا له حلم… ثم صار رقمًا" شكّلت هذه المقولة لأم الشهيد نقطة تحوّل في مسيرة الكاتبة عنبر، إذ دفعها ذلك للاستمرار في كتابة قصص الشهداء حتى في الغربة الموحشة.

واختارت الكاتبة أن تُروى قصص الشهداء بضمير المتكلم، ليكون الشهيد هو الراوي، مخاطبًا القارئ مباشرة، دون وسيط، تقول عنبر: "إن هذا الخيار كان محاولة لكسر المسافة بين القارئ والشهيد، وإشعاره بأن القصة تُحكى من داخل التجربة لا من خارجها.

وصدر الجزء الأول من الكتاب في شهر يناير 2024 موثقًا 10 قصص فقط، تقول: "كنت أخجل من نفسي بأن أدرج هذا الكتيب البسيط ضمن إنجازاتي أو نجاحي، لا سيما أن الفكرة بدأت لإكمال رسالة د. رفعت العرعير، وتنفيذًا لوصية أم الشهيد ياسر أبو النجا، وتوثيق لأحلام مفقودة، وتخليد لأمنيات حرقت لأن لكل شهيد له عائلة تحبه ويحبها".

 

أقسام الكتاب

الشهداء ليسوا أرقامًا
 

اعتمدت الكاتبة منهجية تقوم على الدمج بين السرد الصحفي الدقيق والحس الأدبي الإنساني، فقد حرصت الكاتبة أن تبقى كل قصة حقيقية وموثّقة قدر الإمكان، وأن تُعرض المعلومة كما هي، دون مبالغة أو تغيير، ولكن بروح إنسانية تعيد للشهيد اسمه وملامحه وظلّه وصوته.

ويتضمن الكتاب قسمًا خاصًا بالأطفال الشهداء، عن قصصهم القصيرة، أحلامهم الصغيرة، تفاصيل من بيوتهم ومدارسهم، وما قالته عائلاتهم عن آخر أيامهم، هذا القسم يذكّر القارئ أن الأطفال لم يكونوا طرفًا في الحرب، بل ضحاياها الأكبر

وقسم عن الأطباء والمسعفين، يتناول حياتهُم اليومية قبل الحرب، مناوباتهم، تعبهم، الأدوار التي قدموها خلال القصف، واللحظات التي لامسوا فيها الموت لإنقاذ غيرهم، وهذا القسم يكشف الجانب الإنساني والبطولي لهم بعيدًا عن الخطابات الرسمية

وضم الكتاب قسمًا آخر عن الصحفيين، يوثق قصص صحفيين حملوا الكاميرا حتى اللحظة الأخيرة، وكيف استمروا في العمل رغم الخطر، وكيف وثقوا الحقيقة، وما تركوه وراءهم من أثر على عائلاتهم وزملائهم.

كما ضم قصصًا لعائلات أُبيدت كاملة، وهذا القسم يسلط الضوء على البيوت التي اختفت، وعلى الصور العائلية التي أصبحت الشاهد الوحيد على حياة أُطفئت بالكامل.

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

300 يوم من الكتابة

في بداية المشروع وثقت الكاتبة عنبر قصص الشهداء في كتيّب ضم عشر قصص فقط، قبل أن تفتح مؤسسة القدس الدولية أبوابها للكاتبة، فتوسّع المشروع ليشمل مئة قصة لشهداء الإبادة من فئات مختلفة: أطفال، أطباء، مسعفون، صحفيون، وعائلات أُبيدت بالكامل".

واستغرقت الكاتبة في توثيق جرائم الاحتلال في كتاب حمل عنوان "ليسوا أرقامًا" نحو 300 يوم من البحث والتواصل الشاق مع أهالي الشهداء، في ظل انقطاع الاتصالات في قطاع غزة وصعوبة الوصول إليهم.

وبعد صدور الكتاب تفاجأت الكاتبة بردود فعل أهالي الشهداء، فقد عبّر كثيرون عن امتنانهم لأن أبناءهم كُتبوا في كتاب يوثّق للتاريخ، واعتبروا العمل تجسيدًا عمليًا لعبارة طالما سمعوها: «الشهداء ليسوا أرقامًا».

تم إصدار الكتاب وتوزيعه بدعم من مؤسسة القدس الدولية، التي تولّت الطباعة والنشر، وجرى توزيع نسخ منه على مشاركين من أكثر من 40 دولة خلال مؤتمر العهد للقدس الذي عُقد في إسطنبول في السادس من ديسمبر.

ويأتي هذا العمل امتدادًا لمسار بدأه الدكتور رفعت العرعير واستشهد، ثم واصلته الكاتبة آمنة حميد التي استشهدت بدورها، لتكمله ياسمين عنبر بوصفه أمانة ثقيلة ومسؤولية تجاه الذاكرة الفلسطينية.

«الشهداء ليسوا أرقامًا» ليس كتاب رثاء، بل وثيقة ذاكرة، ومحاولة لقول الحقيقة كما هي: "أن وراء كل اسم حكاية، ووراء كل رقم حياة كاملة، وأن ما كُتب هنا ليس نهاية القصص، بل بدايتها في وعي العالم".

وقدمت الكاتبة ياسمين عنبر الشكر إلى مؤسسة القدس الدولية، التي فتحت الأبواب لقلمها ليرى نور الشهداء، وقدّمت الدعم والتيسير في مراحل الطباعة والنشر والتوزيع، إيمانًا منها بدور الكلمة في حماية الذاكرة وتخليد الحقيقة.

 

ثلاثة قصص

الشهداء ليسوا أرقامًا
 

وعن أكثر القصص تأثيرًا على الكاتبة، قالت الكاتبة عنبر لمراسل "شمس نيوز": "أصعب سؤال أنتظره من جميع القراء، ما هي القصة التي أثرت فيكِ كثيرًا"، ومع ذلك أجابت الكاتبة بكل ثقة أن كل القصص أثرت فيها بشكل مختلف.

وتستذكر الكاتبة قصة الأصم هاشم غزال تقول: "هاشم هو أبو الصم فقد كان يُعلم أبنائه الأشغال اليدوية وفتح لهم مناجر ليدمجهم مع المجتمع؛ إلا أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف بيته ليستشهد هو وزوجته المترجمة للصم وأولادهم، كلهم ماتوا لم يسمعوا صوت الصواريخ التي سقطت على منزلهم وما زالوا تحت الأنقاض".

وأصعب كلمة وثقتها الكاتبة عنبر في تلك الحادثة المؤلمة أن عائلة الشهيد هاشم غزال الأصم لم يتمكنوا من الصراخ أو ارسال إشارات لرجال الدفاع المدني لإبلاغهم عن مكانهم تحت الأنقاض، فيما ترى الكاتبة أن المأساة الحقيقية تكمن بأن واحدة من البنات الصم تكسرت وتقطعت أصابعها التي تستخدمها في لغة الإشارة".

تقول الكاتبة عنبر: "شعرت أن المآسي في قطاع غزة عنقودية والألم عبارة سلسلة مركبة ومعقدة"، لا سيما مع قصة بنت خالتها الشهيدة فاطمة جراد.

تُشير الكاتبة إلى أنها تحدثت مع فاطمة قبل يومين من استشهادها، إذ أعربت فاطمة عن رغبتها بان تصبح أُمًا بعدما ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة الأجنة في مركز البسمة للإخصاب فقد قتل نحو ٥٠٠٠ من الأجنة المجمدة ووأد فيها حلم آلاف الشباب والبنات بالإنجاب".

تبين الكاتبة عنبر أن الاحتلال قتل فاطمة دون أن تعيش حلم الأمومة باستهداف منزل نزحت إليه دون أن تنزف قطرة واحدة فقط، إذ تفجرت أحشاء جسدها من قوة الصواريخ.

وعن القصة الثالثة التي أثرت كثيرًا في الكاتبة عنبر، قصة صديقتها أشواق جندية، تقول: "استشهدت أشواق في الشهر الأول من الحرب؛ ولم تكن تعلم استشهادها بسبب انقطاع الإنترنت والكهرباء عن قطاع غزة".

لم تتمكن الكاتبة عنبر من توثيق قصة صديقتها على مدار أيام الكتابة، وقبل تسليم الكتاب بساعتين فقط استجمعت الكاتبة عنبر قواها وكتبت قصة صديقتها؛ لأنها فعلا كما تقول: "قصتها تستحق أن تُروى فكانت آخر صفحة في الكتاب كمسك الختام"

 

نموذج من توثيق قصص الشهداء في كتاب "ليسوا أرقامًا" للكاتبة ياسمين عنبر:

عناقُ البحر والجبل قصة الشهيدة أحلام علاونة

الشهداء ليسوا أرقامًا
 

تعانق إحداهما البحر، والأخرى تعانق الجبل.. غزة وجنين، صورتان لوطن لا ينكسر، في قلبي نبض واحد لهما.. تتبادلان العزة والدم والصبر، فكنت كلما شدني الحنين إلى بحرها ترنمت باكية: "جنين.. يا حجارة عزة، يا توأم غزة".

زوّجت ابنتي في غزّة، كأنني أودعتُ قلبي هناك، أردتُ أن يكون لي فيها موطئُ قدمٍ، بابٌ أطرقُه يومًا إن ضاق بي الشوق إلى الوطن.. ومنذ ذلك الحين، كنتُ كلّما سنحت لي الفرصة أزورها، أتنفّس هواءها المشبّع بملح البحر وعبق الصبر، كان يسحرني بحرها الأزرق لا سيما حين يعانق الغروب، وتأسرني طيبة أهلها الذين يبتسمون رغم الحصار!

أما في البلدة القديمة بغزة، كانت تدهشني بساطة الحياة في أزقتها، تمتزج العتاقة هناك برائحة الخبز، بائع "الذهب الأحمر"، ذاك الرجل الذي يصدر الفراولة إلى العالم منذ ثلاثين عامًا، وفي زاويةٍ أخرى، تجلس عجوز تجاوزت السبعين، تبيع الجبنة البيضاء البلدية بابتسامةٍ نقية تشبه غزة، بيدين نقشت عليها خبرة السنين وشقاء الأيام، ودكاكين قديمة تشبه أصالة الوجوه هناك، وحجارة تشهد على حضارات لا تعد مرت على هذه الأرض.

ولأول مرةٍ في حياتي.. ترددتُ في المجيء إلى غزّة، كان في قلبي شعور الخوف فقط، وثقل غامض أثقل خطواتي نحوها على غير العادة، لم أرتح لمغادرة جنين هذه المرة، لكنّ الحنين لغزة كان أقوى من الخوف، كيف لا؟! وهي غزة.. سكنُ روحي ومسكنُ فؤادي.

وصلتُها أواخر سبتمبر، وكانت الأيام تركض سريعًا، وبعد أسبوعين فقط، اندلعت حرب الإبادة على غزّة! رأيتُ هناك ما لم يخطر على عقل بشر، كأنّ أهوال يوم القيامة حلّت على الأرض!

مقابر جماعية لعائلاتٍ رحلت زمرًا وأُبيدت دفعةً واحدة وشيعت في كفن واحد، آلاف الجثامين تنتظر انتشالها من تحت أنقاض البيوت، وليالٍ تخبئ أكثر من عشرين مجزرة في ساعاتها، رجالٌ يزلزل القهر الأرض من تحت أقدامهم، ونساء مكلومات يشيعن أطفالهن وأمومتهن وضحكات عمرهن كلها في تابوت واحد!

وفي ليلةٍ من الليالي الحالكة، طالتنا صواريخ الحقد الصهيوني، قصفوا بيتًا مجاورًا لبيت ابنتي، سقطت الجدران فوق رؤوسنا، فقررت ابنتي النزوح بأطفالها إلى الجنوب، لكننّي رفضت، قلتُ لهم: "سأبقى في الشمال حتى يُفتح معبر إيرز، فالعودة إلى جنين تنتظرني، وأوراقي جاهزة!"

نزحتُ إلى بيتٍ آخر علّه يكون مأمنًا، لكنّه ما لبث أن قُصف هو أيضًا، فبدأتُ رحلة نزوحي الطويلة نحو المستشفى المعمداني، وهناك كنتُ أبيع أذكار الصباح والمساء للنازحين، كأنّي أوزّع على القلوب طمأنينةً من السماء، أربّت على أكتاف الأمهات المكلومات، أمسح دمعة طفلٍ تائهٍ في الزحام، أبتسم للصحفيين الذين أنهكتهم الحقيقة والتغطية، وأطمئن الخائفين.

كان الرابعُ من نوفمبر موعدَ عودتي إلى جنين.. هيّأتُ نفسي للسفر ضمن قافلةٍ لمنظمة الصحة العالمية إلى الأردن، بعد أن حصلتُ على تحويلةٍ طبيةٍ طال انتظارها، وقبل موعد السفر بثلاثة أيام، كنتُ أعود من مشواري اليومي في شوارع غزّة، أبيع كتب الأذكار وأزرع بها السكينة في القلوب المرهقة.

حتى مررتُ قرب سوق فراس…

وما هي إلا لحظات، حتى دوّى القصف! تبعثرت الأجساد، وتناثرت الأرواح، وأصابتني شظايا الغدر، فارتقيتُ شهيدة على ترابٍ غزة، قتلني الاحتلال قبل أن أعود إلى جنين، وما بين عناق البحر والجبل، كان اسمي ضمن قوافل الشهداء، الذين أوصلوا السلام إلى شهداء غزة، من أبطال جنين، أنا الشهيدة، أحلام علاونة

الشهداء ليسوا أرقامًا
 

رحلة طويلة من العمل

وفي السياق ذاته أكدت الكاتبة أن كتاب "ليسوا أرقامًا" هو نتاج رحلة طويلة من العمل الصحفي والإنساني خاضتها الكاتبة، ابنة غزة، ياسمين عنبر خلال أصعب مراحل الإبادة التي عاشها القطاع.

تقول الكاتبة في مقدمة كتابها: "الكتاب لم يكن مشروعًا أدبيًا فقط، ولا مجرد تجميع لقصص؛ بل كان واجبًا أخلاقيًا وشخصيًا شعرت به الكاتبة، وهي ترى الوجوه من حولها تُمحى وتتحوّل إلى أرقام في تقارير رسمية وبيانات عاجلة".