الحاجة أصبحت ملحة لإعادة النظر في ترتيب الأولويات بين معارك النظام ومعركة المجتمع، لكي نتجاوز أوهام الأزمة إلى ملامسة حقائق الواقع.
(١)
سأل الإعلامي الشاب ضيفه: هل أنت مدرك لحجم المؤامرة على مصر؟.. لم يتح لنا أن نستمع إلى إجابة السؤال، لأن الحلقة التي تابعنا بعض عناوينها في حملة الترويج لها لم تبث تلفزيونيا. لكن سؤال المؤامرة ليس جديدا، لأن الإشارة إليها تكررت مرات عديدة خلال الأشهر الماضية من خلال معلومات ظلت المصادر السيادية مصدرها الوحيد.
ومن يتابع أخبار الصحف المصرية خلال العام الأخير لا بد أن تثير انتباهه الملاحظة. إذ قرأنا كثيرا عن تآمر أجهزة مخابرات الدول الغربية مع بعض الدول العربية وتركيا لإسقاط النظام المصري تارة، ولحرق مصر في قول آخر.
وفي بعض الأحيان فإن المختلف مع النظام المصري أصبح يصنف على الفور جزءا من المؤامرة أو منتسبا إلى الطابور الخامس. وهي التهمة التي لاحقت الدكتور محمد البرادعي ووائل غنيم ونشطاء ثورة ٢٥ يناير وحركة ٦ أبريل، إضافة إلى المنظمات الحقوقية وممثلي الإخوان الذين أصبحوا فصيلا ثابتا في كل مؤامرة.
أفرق بين التجاذبات والصراعات الحاصلة بين المحاور المختلفة في العالم العربي، وبين المؤامرات التي تدبرها أجهزة مخابرات الدول الكبرى، وتشارك فيها دول أخرى متجاوزة بها تناقضاتها مثل تركيا وإسرائيل.
التجاذبات الأولى لا تسرنا لا ريب وتحزننا بكل تأكيد، لكنها صارت إحدى سمات الصراعات العربية التي تصاعدت مؤشراتها في ظل انهيار النظام العربي، وبعدما فقدت الدول العربية الكبرى عافيتها وهيبتها والبوصلة الهادية لها، إلى غير ذلك من الأجواء التي فتحت الباب واسعا لتدخلات اللاعبين الجدد الذين حاولوا لعب الأدوار وتبوؤ صدارة المشهد.
وإذ أزعم أن قدرات أولئك اللاعبين الجدد وممارساتهم أقل من أن توصف بأنها مؤامرات (ربما كانت كلمة مشاغبات أدق وأصوب)، فإن الكلام عن “حجم” المؤامرات يشير ضمنا إلى دور للدول الكبرى التي ما برحت تسريبات الأجهزة السيادية المصرية تشير إليها في حديثها عن اجتماعات لأجهزة استخباراتها في إحدى القواعد العسكرية بألمانيا أو في بعض العواصم الأوروبية الأخرى.
أسلم ابتداء بأن الدول الغربية ليست منزهة عن التآمر، لكنها تلجأ إليه حين تدرك أن الطرف الآخر يعارض مصالحها أو يهددها. ولا أظن أن ممارسات أو سياسة النظام المصري يمكن أن تصنف تحت أي من العنوانين. وكل التباينات أو الخلافات بين مصر الآن وبين أية عاصمة غربية، بما فيها واشنطن، لم تمس جوهر العلاقات أو المصالح. من ثم فالتآمر غير وارد ومفتعل.
لذلك أزعم أن المؤامرة الغربية في حقيقتها ليست سوى شائعة أطلقتها المؤسسة الأمنية وروجت لها أبواقها للإيحاء بأن النظام القائم له قامته ومشروعه الذي يتحدى به الغرب ويهدد مصالحه. وهو ما يدفع عواصمه للتآمر عليه والسعي لإسقاطه. وهدفها من ذلك هو استنفار الرأي العام المصري وحثه على الالتفاف حول النظام بدعوى حمايته من تلك المؤامرات.
(٢)
إذا صح ذلك التحليل، فإنه يستدعي على الفور السؤال التالي: ماذا عن دعم بعض الجهات الغربية وواشنطن بوجه أخص لجماعة الإخوان؟
هذا السؤال أجاب عنه آلان جريش خبير الشؤون العربية المخضرم ورئيس تحرير مجلة “لوموند ديبلوماتيك” السابق، وكنت قد سمعت رأيه في لقاء سابق معه، لكنه فصل فيه خلال حوار أجراه معه الزميل محمود القيعي ونشره موقع “رأي اليوم” في ٩ يونيو/حزيران الحالي. وقد عرض وجهة نظره في النقاط التالية:
– الأصل أن الدول الغربية مع مصالحها بالدرجة الأولى. وهي مع الديمقراطية ومستعدة للترحيب بها في العالم العربي إذا جاءت بأي طرف يحافظ على تلك المصالح ويخدمها. وإلا فلتذهب الديمقراطية إلى الجحيم. أستثني من ذلك الدول الأسكندنافية التي لا تزال أكثر تشددا في الدفاع عن الديمقراطية.
– في الوقت الراهن الذي تزايد فيه نفوذ التنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، فإن الدول الغربية أصبحت مستعدة لمساندة الأنظمة الدكتاتورية ودعمها، كما أنها تفضلها على الإسلاميين خصوصا أن الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) متجذرة في المجتمعات الغربية.
– الغرب يتعامل مع مصر من باب القبول بالأمر الواقع، ذلك أن سياسات الدول لا تقوم على المبادئ وحدها. وفي الحالة الأميركية خصوصا وعلى عكس الشائع في الإعلام المصري، فالترحيب أكبر والعلاقات أقوى مع النظام المصري بأكثر مما كانت عليه في ظل حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك. إذ إن هناك تحالفا حقيقيا بين مصر وإسرائيل. والدور المصري في سيناء يمثل تأمينا لإسرائيل ترحب به وتؤيدها في ذلك الدول الغربية وواشنطن.
– فكرة الحرب على الإرهاب طرحها نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل في السبعينيات، وكان يستهدف بها منظمة التحرير الفلسطينية. لكنها اتخذت بعدا جديدا بعد احتلال الأميركيين العراق في عام ٢٠٠٣. وإحدى مشكلات الفكرة أنها مفتوحة وبلا حدود، وهي أقرب إلى إعلان الحرب على شبح الإرهاب الذي لم يعد له أي معنى سياسي، فضلا عن أنه أصبح مدخلا لقتل آلاف المدنيين الأبرياء.
– القول إن الإعلام الأوروبي منحاز إلى الإخوان كلام فارغ. وهو ما أبلغت به المسؤولين المصريين، ردا على تساؤلاتهم، والحقيقة أن ١٠٠% من الإعلام الأوروبي ضد الإخوان، كما أن النسبة ذاتها تنتقد الرئيس السيسي. أما الدول الأوروبية فمواقفها متناقضة. ذلك أنها تحت ضغط الخوف من الإسلاميين أصبحت أقرب إلى تأييد الدكتاتوريات العربية.
– رغم أن الدول الغربية تتعامل مع مصر انطلاقا من التسليم بالأمر الواقع، فإن مواقفها متفاوتة إزاء طريقة التعامل مع الإخوان، وهذا التفاوت ظهر أيضا في سياسة حلفائها مثل السعودية والإمارات، ولا يستطيع أحد أن ينكر أو يتجاهل دور الإخوان في الحياة السياسية، فلن تحل مشكلة سوريا إذا استبعد الإخوان، كما أن مشكلة اليمن لا حل لها دون حزب الإصلاح الذي يمثل الإخوان (وذلك حاصل في ليبيا أيضا).
(٣)
ثمة التباس آخر يلفت النظر إليه الباحث الفرنسي أوليفيه روا صاحب الدراسات العديدة حول حركات الإحياء الإسلامي (له عدة كتب ترجمت إلى العربية مثل الجهل المقدس، وإخفاق الإسلام السياسي، ونحو إسلام أوروبي.. إلخ). ذلك أنه نشر مقالة في مجلة اسبرى (عدد ٣٠/٥/٢٠١٥) أشار فيها ضمن أمور أخرى إلى أهمية التفرقة بين الحركات الجهادية وبين الإسلام السياسي، معتبرا أنهما ليسا شيئا واحدا، فالأولى ولدت من العولمة في حين أن الثانية تمثل صياغات إسلامية حداثية ووطنية.
درس الرجل تجربة الإسلام السياسي في أربع دول هي: مصر والهند وإيران وتركيا، وخلص إلى أن الجماعات الإسلامية الكبرى التي نشطت في تلك الدول لم تتبن سياسة العنف والغلو الذي عبرت عنه تيارات التشدد الأخرى. وذكر أن عبد الله عزام الذي اعتبر أحد قادة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان هو ابن الإسلام السياسي وأحد أبرز الداعين إليه. لكن الرجل قتل هناك في ثمانينيات القرن الماضي لأنه عارض اتجاه العنف وكراهية الغرب الذي قاده أسامة بن لادن وجماعته.
في رأيه أن الإمارات الإسلامية على شاكلة دولة “داعش” في سوريا والعراق ليس بينها وبين الدولة الإسلامية التي يتطلع إليها دعاة الإسلام السياسي شبه أو صلة. فسمتها الأولى تتمثل في افتقارها إلى أبنية دولة، وتقوم في مناطق تغلب عليها القبائل، وتربطها صلة وثيقة بانحلال الأنظمة القبلية وتجددها في باكستان وأفغانستان واليمن وأفريقيا جنوب الصحراء، من ثم فهي من مظاهر العولمة العابرة للحدود والمتجاوزة للهويات. وهو ما يعني أن حيزها الجغرافي الإستراتيجي لا يشبه من قريب أو بعيد حيز الحركات الإسلامية الوطنية، التي تعد حركة حماس في قطاع غزة من نماذجها.
في تحليله لا يدافع الرجل عن الإسلام السياسي وإنما دعا إلى التمييز بينه وبين الحركات الجهادية التي تتوسل بالعنف في تحقيق أهدافها. وفي رأيه أن طريق الإسلام السياسي قد ينتهي بالتفاعل مع الديمقراطية كما هو الحاصل في تركيا وتونس، وقد ينتهي إلى الدكتاتورية التي اعتبر أنها متمثلة في إيران.
(٤)
طوال السنتين الأخيرتين تقريبا، ظلت هذه المعارك الوهمية والمثيرة للغط ضمن العناوين الرئيسية للفضاء المصري. وصارت الشاغل الرئيسي الذي من أجله استنفر وحشد الرأي العام، وعُبِئ المجتمع واستنزفت طاقاته. في هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن الجهد التعبوي الكبير الذي بذل حوَل تلك العناوين إلى مسلَمات وثوابت لا تقبل المناقشة أو المراجعة. حتى بات الإقدام على مغامرة من ذلك القبيل مخاطرة كبرى تكلف صاحبها ثمنا باهظا ليس من جانب السلطة فحسب، وإنما أيضا من جانب بعض شرائح المجتمع التي دخلت في السياسة بعد الثورة ولوث البث التلفزيوني التعبوي إدراكها.
ومن المفارقات أن فرصة الباحث للتعرف على خرائط الواقع السياسي المصري في ظل تلك الأجواء أصبحت متاحة له من الخارج بأفضل منها في داخل البلاد. والشهادتان اللتان أوردتهما للفرنسيين آلان جريش وأوليفيه روا تعبران عن ذلك التفاوت. ذلك أنهما يقدمان قراءة مناقضة ومختلفة تماما لما يبدو أنها “مسلَمات” في الخطابين السياسي والإعلامي بمصر.
اهتزت الصورة في الآونة الأخيرة. ذلك أن انفجار قضية انهيار الخدمات الصحية في المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية كان بمثابة جرس إنذار نبه إلى عمق مشكلة انهيار عموم الخدمات التي تقدمها الدولة في مختلف المجالات. وأهمية هذا الجرس أنه بمثابة دعوة إلى الإفاقة، لفتت الانتباه إلى أن المعارك المشهرة عناوينها في الفضاء السياسي هي معارك النظام بالدرجة الأولى، وأن المجتمع له معاركه المختلفة، ولأن الأخيرة تتعلق بالصحة والتعليم والإسكان والتنمية الاقتصادية وغيرها، فهي ما ينبغي أن يحتل الأولوية وصدارة الاهتمام، الأمر الذي لا يتطلب إعادة النظر في الأولويات فحسب، ولكنه يقتضي أيضا إعادة النظر في وجهة التفكير ومحوره.
إن أخشى ما أخشاه في ظل استمرار تهميش دور المجتمع وتغييب مؤسساته الفاعلة أن تستغرقنا وتستنزفنا -وتنهكنا- معارك النظام التي تشغل الناس بالأزمات الوهمية والافتراضية، بحيث تصرفنا عن الاهتمام بمشكلات المجتمع الحقيقية. ولا سبيل إلى تصحيح ذلك الوضع إلا بفتح الأبواب للاستماع إلى صوت المجتمع لأنه وحده التعبير الصادق عن الحقيقة. ولأن ذلك الصوت مغيب ومحبوس، فليتنا نرفع عاليا في عام الرئاسة الثاني شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المجتمع”.