إعداد: خالد بشير
“إن مأساة فلسطين لطخة سوداء في تاريخ القرن العشرين، وجرح مقيم في قلب الإنسانية، حتى يعود الحق لأهله بمزيد من (الدم والدموع والعرق والعناء)“. صالح صائب الجبوري.
تعد نكبة فلسطين عام 1948 من أبرز الحوادث الكبرى الفاصلة وأخطرها في التاريخ العربي المعاصر؛ حيث تغير واقع المنطقة بعدها بشكل جذري، ولم يعد كما كان قبلها أبدًا. ورغم كل ما كتب عنها إلا أنها لا تزال مجهولة، ولا يزال الغموض يلفها، ولا تزال أكثر حقائقها محجوبة، غير مكشوفة بعد. وقد جاءت هذه المذكرات محاولة للإضاءة على الحقيقة التاريخية، لتكوين وعي صحيح بتلك الحقبة الفاصلة من تاريخ العرب.
يشتمل هذا الكتاب على مذكرات الفريق الأول الركن صائب صالح الجبوري (1898 – 1993). رئيس أركان الجيش العراقي خلال حرب فلسطين، عام 1948.
التحق الجبوري بالجيش العراقي منذ تشكيله في 6 كانون الثاني 1921، مع عدد كبير من الضباط العراقيين السابقين في الجيش العثماني. علّم في دار التدريب في المدرسة العسكرية العراقية، وشارك في عمليات الجيش العراقي في الثلاثينيات، وأحيل إلى التقاعد بعد إخفاق الانقلاب العسكري الأول الذي قاده الفريق بكر صدقي، لكنه ما لبث أن أعيد إلى الخدمة. وفي عام 1941 تخرج في كلية الأركاني، وتسلّم في آب 1941 -إثر فشل حركة رشيد عالي الكيلاني في أيار 1941- منصب قائد فرقة، فغدا من أبرز قادة الجيش العراقي بعد مواجهته القاسية مع البريطانيين، وتولى من أواخر عام 1944 حتى عام 1951 منصب رئيس أركان الجيش العراقي (وهي الصفة التي شارك فيها في حرب عام 1948)، وشغل بعد تقاعده من الجيش حتى قيام ثورة 14 تموز 1958، مناصب وزارية عدة.
كان الجبوري قد شرع بعد تقاعده في كتابة مذكراته، وانتهى منها عام 1965، غير أنها لم تصدر إلا في عام 1970، في بيروت. واليوم، يعيد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نشر هذه المذكرات ضمن سلسلة (مذكرات وشهادات) حيث يحكي الفاعلون السياسيون والاجتماعيون العرب تجاربهم.
الكتاب وأهميته
لقد كتب الكثير من الضباط والساسة العرب ممن شاركوا في الحرب أو عاصروا أحداثها ووقائعها المزلزلة مذكراتهم وشهاداتهم، لكن ما يميز هذه المذكرات استنادها، بحكم منصب صاحبها، إلى معرفة وثيقة عسكرية سياسية بالمجريات والخلفيات والوثائق. إضافة إلى الصوت العسكري، الدقيق، المحلل، الناقد والمحتج دومًا على الانحراف. وقد اهتم الجبوري في مذكراته بتوثيقها برسائله وبرقياته ومخاطباته، الموجهة إما للقيادة العسكرية على جبهة القتال في فلسطين، أو موجهة لرؤسائه وزير الدفاع أو رئيس الوزراء. وقد ملأت هذه النصوص صفحات الكتاب بشكل لا يترك عند القارئ أي شك بصدق الرواية ودقتها.
ويضم الكتاب 34 فصلًا، ومجموعة من الملاحق، تشتمل على نبذة تاريخية وافية عن قضية فلسطين وعن الصهيونية واليهود والانتداب البريطاني، وعرضًا مسهبًا للوقائع السياسية التي سبقت اندلاع القتال في فلسطين غداة قرار التقسيم في سنة 1947، ثم تفصيلات الحرب والحركات العسكرية للجيش العراقي والمعارك التي خاضها حتى توقيع اتفاقيات الهدنة وتسليم المناطق الفلسطينية إلى الجيش الأردني. ويحتوي الكتاب، إلى ذلك كله، فصولًا عن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 وحرب حزيران 1967، وتقارير وملاحق وخرائط إيضاحية.
التشتت وفقدان القيادة العامة
لعل أهم ما يميز مذكرات الجبوري هو سيادة نفس الحسرة والنقد واللوم.. وأكثر ما ينقده الجبوري معتبرًا إياه السبب الأساسي في الهزيمة هو ضعف التنسيق بين الجيوش العربية وتشتت القرار وصدوره عن قيادات مختلفة، في مقابل وحدة القرار ومركزيته عند الصهاينة؛ حيث لم ترتبط الجيوش العربية بقيادة عامة فعلية لتوحيد الحركات وتوجيهها الوجهة الصحيحة، ولم تلتزم الجيوش بتنفيذ الأوامر والوصايا الصادرة إليها من القيادة العامة.
ويُعيد الجبوري التشتت والتفرقة إلى كون العرب يؤلفون عدة دول، مصالح بعضها متضاربة مع بعضها الآخر، وعلاقاتها غير مأمونة، وهو يقول في ذلك: “لقد ظهر لي من اتصالاتي الشخصية مع رجال السياسة للدول العربية ومن حضوري بعض الاجتماعات بأن وجهة نظر الدول العربية غير موحدة في حل قضية فلسطين، فمنها المندفع لبذل كل مجهود حسب الاستطاعة، ومنها من هو متردد في أعماله ولم يستخدم إمكانياته كاملة، ومنها من يبدي علائم الاندفاع ظاهرة في أقواله ولكن إمكانياته محدودة، ولم تظهر له أعمال تذكر، ومنها ما هو مشترك في المباحثات والقرارات، ولكن ليس لقواته أثر في ميدان القتال أو له رغبة في الاشتراك الفعلي”.
وهو يشدد ويكرر النقد إلى عدم اشتراك جميع الحكومات العربية في قبول سيطرة القيادة العامة، وعلى الأخص الجيش المصري والجيش الأردني، وبقاء الجيشين اللبناني والسوري في حالة دفاع مستكن. ومما يقوله في ذلك: “تكونت لدي فكرة من الاجتماعات المختلفة والاتصالات بأن الجيش المصري لا ينوي الاشتراك بحركات موحدة مع الجيوش العربية الأخرى، ولا الدخول تحت قيادة موحدة، كما أنه لا ينوي أن يعين قائدًا مصريًا تسلم إليه إمرة الجيوش الأخرى. وكذلك كانت الحكومة الأردنية وقيادة جيشها غير راغبتين في استئناف القتال وتبديان شتى الأعذار”.
و يرى الجبوري بأنه لا معنى لإلقاء أسباب الهزيمة على المعونات التي تلقاها الصهاينة من الحلفاء، وأن تلك المعونة لم تكن لتثمر ثمرتها المرجوة لو أن الدول العربية دخلت معركة فلسطين موحدة أهدافها واتجاهاتها وأعمالها، عاقدةً النية الخالصة على إنقاذ فلسطين من براثن اليهود دون أي اعتبار.
نتائج مقررة سلفًا
ويرى الجبوري في شهادته بأن الجيوش العربية لم تشارك في الحرب لإجهاض قرار التقسيم (تشرين الثاني/ 1947)، كما كان الهدف المعلن؛ بل إنها كانت تعمل ضمن حدود القرار؛ ويرجع ذلك إلى واقع الدول العربية المشاركة في الحرب؛ حيث كانت ما زالت في ذلك الحين فتية سياسيًا، ولو أنها كانت من الناحية الشكلية (مستقلة)، فتبعيتها لبريطانيا كانت ما زالت قائمة، مما انعكس إلى حد بعيد على مستوى وطبيعة أداء جيوشها في الحرب؛ حيث يمكن رؤية شبح بريطانيا بشكل خاص في خلفية القرارات السياسية الأردنية والمصرية في الحرب، على وجه التحديد؛ فهي تارة تحرك جيشها عسكريًا بطريقة مريبة، وباستقلال عن إرادة القيادة العامة، وتارة تعلن الهدنة مع إسرائيل دون التشاور مع الدول الأخرى.
المشاركة العراقية
يخصص الجبوري جزءًا هامًا من المذكرات للتفصيل في مشاركة الجيش العراقي في حرب عام 1948. وهو المتوقع بحكم طبيعة منصبه في قيادته. وهو يرى بأن الجيش العراقي كان الجيش الوحيد الذي دافع عن فلسطين وكأنها جزء من ترابه الوطني دون مراوغة أو مماطلة أو تخاذل أو تآمر من قبل قيادته السياسية، وأنه كان الوحيد من بين جيوش الدول الأخرى الذي نجح في الحفاظ على الأراضي التي التزم بحمايتها والدفاع عنها في وجه القوات الصهيونية المتقدمة دون هوادة؛ الأمر الذي جعل القوات اليهودية تحسب حسابه لدرجة أنها كانت تتحاشى الاشتباك معه مباشرة ولجأت إلى الإيقاع به من خلال الجيوش العربية الأخرى عن طريق استغلال تبعيتها البنيوية لبريطانيا. وبخاصة بعد معركة جنين الفاصلة التي يفصّل المؤلف في ذكر وقائعها وتفاصيلها، والتي استطاع العراقيون فيها وقف تقدم الصهاينة.
ولا شك بأن صمود الجيش العراقي ودوره المهم في الحرب، هو الذي صان الضفة الغربية من الاحتلال الصهيوني، والتي ركز الصهاينة أعظم جهودهم عليها في محاولة لضرب القوات العراقية وخذلانها واحتلال ما كان يسمى المثلث العربي أو مثلث الخطر (جنين – طولكرم – نابلس)، و فضل تلك التضحيات تم حفظ حدود الجغرافيا المسماة (الضفة الغربية)، والتي تتم كل المفاوضات اليوم على أساسها في إطار مشروع (حل الدوتين).
ويعيد الجبوري أسباب المشاركة المؤثرة للجيش العراقي إلى الاستقلال المبكر نسبيًا للعراق وما رافقه من تأسيس الجيش، مقارنة بحداثة استقلال وتأليف الجيشين السوري واللبناني (بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946)، وإلى عدم وجود النفوذ البريطاني المسيطر على الجيش الأردني وقيادته الأجنبية، وكذلك الجيش المصري.
القيادة الأردنية ونواياها
في مواضع عدة من الكتاب، يحمّل اللواء الجبوري قيادة الجيش الأردني (غلوب باشا) مسؤولية كبيرة في الهزيمة، إلى درجة وصف غلوب باشا بأنه كان يعمل بحسب الخطة الواردة إليه من بريطانيا، لا الصادرة عن القيادة العامة؛ حيث لم تتقيد القيادة الأردنية بالخطة وأكثر الأوامر الصادرة إليها من القيادة العامة.
ويرى الجبوري بأن أخطر تلك المخالفات تمثلت في إحجام القيادة الأردنية عن إشراك القوات الأردنية في القتال في الجبهة الشمالية، إلى جانب القوات العراقية؛ حيث لم يتم إرسال أي قوة أردنية إلى جسر الشيخ حسين في بيسان، ولا إلى جنين والعفولة، كما كان متفقًا عليه مسبقًا، وهكذا لم تنصع القيادة الأردنية إلى الأوامر الصادرة إليها، وهو ما يصفه الجبوري بأنه: “أول انتكاسة منيت بها الجيوش العربية وضربة قوية في الصميم”. ويعلل الجبوري سبب تلك الانتكاسة، بقوله: “إن عدم إرسال قوة أردنية من جنين باتجاه العفولة لإشغال قوات الصهيونيين في تلك المنطقة فسح للصهاينة مجال حرية العمل لنجدة منطقة (كيشر)، وصد القوات العراقية عن التقدم. كما أن عدم تحرك قوة أردنية من جسر الشيخ حسين باتجاه بيسان – العفولة، جعل جناح القوة العراقية مفتوحًا ومعرضًا للخطر من كلا الجانبين”.
و يؤكد الجبوري في مواضع مختلفة من الكتاب على عدم إمكان التفاهم مع قيادة الجيش الأردني، التي يصفها بأنها تكافح كل مسعى، أو مجهود لربطها بقيادة عليا، وبأنها منذ ابتداء الحرب لم تنفذ أمرًا للقيادة العامة؛ بل هو يذهب إلى التشكيك في نوايا تلك القيادة وأهدافها المستورة بالنظر للنفوذ الأجنبي المسيطر عليها؛ حيث يرى بأن السياسة البريطانية إذا لم يكتب لها النجاح في تسيير وتوجيه الدول العربية إلى ما تستهدفه في قضية فلسطين، فإن القيادة العسكرية الأردنية تنفذ ذلك حتمًا وتجعل الحكومات العربية وجيوشها في موقف يؤدي بهم إلى عين المقصد والنتيجة التي تتوخاها السياسة البريطانية، كما حدث عند استئناف القتال بعد الهدنة الأولى (9/6/1948) من ضغط، عندما رفضت الدول العربية تمديد الهدنة الذي أوصت به الحكومة البريطانية عن طريق سفرائها ووزرائها المفوضين في الحكومات العربية، فسلمت قيادة الجيش الأردني موقعي اللد والرملة المهمين إلى الصهاينة دون أي مقاومة، وكانت على استعداد لتسليم أماكن أخرى أيضًا فيما لو استمر القتال، حتى ولو لم تتدخل هيئة الأمم المتحدة في الأمر وتفرض الهدنة الثانية.
وبالطبع يؤكد الجبوري بأن خيانات القيادة لا تعني إنكار التضحيات الكبرى التي قدمها الأفراد والمجندون من الجيش الأردني وخاصة في الدفاع باستماتة في منطقة القدس، في معارك باب الواد واللطرون.
خلاصات
1- يقظة إسرائيل
يؤكد الجبوري بأنه لا يمكن التعامل مع المشروع الصهيوني باعتباره محض صنيعة استعمارية؛ بل هذا المشروع هو الذي أثبت نفسه وفرض على المستعمر أن يجد فيه الخيار والسبيل لتفرقة العرب والسيطرة عليهم، وهذا ما يظهر في يقظة إسرائيل الدائمة وعدم استنامتها، وهو ما يرى فيه الجبوري درسًا وخير درس يجب أن تتلقاه الدول العربية منها؛ فهي على الرغم من ثقتها بمعاونة الحلفاء لها، ووقوفهم بالمرصاد للدول العربية في سبيل الحيلولة دون أن تسلح تلك الدول وتجهيزها وتقوية جيوشها، ما زالت جاهدة في إعداد عدتها لمقابلة الجيوش العربية التي قد تفكر في استئناف القتال. وهي في سبيل دفع هذا الاحتمال ترصد الجزء الأكبر من ميزانيتها، وتفرض الحرمان الكثير على شعبها، لكي تهيئ المال اللازم لتقوية جيشها وتوسيعه.
2- الإيمان بالحل العسكري
يرى الجبوري بأن الصهاينة قد فرضوا الواقع الذي أرادوا بالقوة العسكرية، من دون لجوء إلى مؤتمرات وهيئات، والتي لم يكونوا يرون فيها إلا مؤخرًا لمشروعهم، خلافًا لحال العرب، وهو ينكر على العرب هذا النهج والمساعي؛ حيث يقول: “كنت على الدوام غير مؤمن بالمنظمات الدولية، وعندما كان كثيرون في العراق يطالبون برفع قضية فلسطين إلى مجلس الأمن، كنت متشبثًا برأيي من قضية فلسطين لا تحل إلا في فلسطين. وأن تجاربي السابقة واشتغالاتي لدى عصبة الأمم كانت على الدوام تبرهن لي عقم الاعتماد والثقة بأمثال تلك المنظمات الدولية”.
3- كارثة النكبة وعموم أثرها
يحذر الجبوري بأن عدم نجاح الدول العربية عسكريًا بالقضاء على القوات الصهيونية، وبقاء الموقف مترجرجًا سيهز الأقطار العربية هزة عنيفة يُخشى من نتائجها، كما أنه سيحط كثيرًا من قيمة هذه الدول عسكريًا وأدبيًا وسياسيًا في نظر العالم، بدرجة أنه لا يمكن التعويض عن هذه الخسائر بأي شكل أو ثمن، وسيجعل هذه الدول أيضًا نادمة على عملها غير المبني على بعد في النظر.
المذكرات ودورها اليوم
الجبوري كتب مذكراته بانضباط العسكري، والتزام القائد الحربي بالتحليل الموضوعي والوصف الدقيق؛ لذا جاء الكتاب مصححًا للكثير من المعلومات غير الدقيقة والشائعة جدًا في الكتابات العربية عن دور الجيوش العربية في حرب فلسطين. وهو ما يجعله مصدرًا لا يمكن العدول عنه للمؤرخ الباحث في القضية الفلسطينية، بمختلف تشعباتها المحلية والإقليمية والدولية، ومساهمة مهمة في إعادة صياغة مسارها وتفاصيلها، على نحو علمي بما يسهم في بناء رواية عربية موضوعية عن هذه الحرب ما زالت المكتبة العربية تفتقدها.