شمس نيوز/ سماهر البطش
مازالت رائحة الدماء وآثار الركام شاهدة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي الذي استهدف الحجر والشجر والأطفال والشيوخ ووأد الأجنة في أرحام أمهاتها، ولم تسلم منه دور العبادة والمشافي، ولا حتى الطيور والبهائم.
في تمام الساعة الواحدة فجرا، خلال أحد أيام عدوان 2014 على غزة، وصلت تعزيزات عسكرية إلى شرق حي الشجاعة، بعد قوة نارية هائلة من الطائرات الحربية، ضربت شارع البلتاجي بصورة عشوائية، ودمرت بيوت المدنيين على رؤوس ساكنيها، لتنتشر رائحة الموت في كل زاوية، ويبدأ الناجون بالبحث عن كل طريق يوصلهم إلى بر أمان بعيد عن دائرة الموت.
لحظات عصيبة عاشها الناس هناك، وحسب أحد الناجين، فقد كانوا أثناء فرارهم من النيران يقفزون عن عشرات الجثث المنتشرة على جنبات الطرق، لمواطنين حاولوا الخروج من بيوتهم والنجاة بأنفسهم، إلا أن حمم القذائف كانت أسرع منهم.
بعد أن انجلى الغبار، وبدأت المنطقة تلتقط أنفاسها، ظهر حجم الدمار وتكشفت آثار المجزرة.. عشرات الجثث بلا رؤوس، أشلاء ودماء في كل مكان، أكوام من الحجارة كانت بيوتا قبل دقائق فقط.. وحسرة وغصة لا زالت توجع القلب في الذكرى الأولى للجريمة.
كانوا هناك..
حامد الشيخ خليل (40 عاما) يصف ما حدث لشارع البلتاجي، ليقول متحدثا لـ"شمس نيوز": منذ هبوط الليل وحتى أذان الفجر لم نذق طعما للنوم, كان صوت الطائرات مدويا يعقبه أصوات الدبابات والقذائف وهى تسقط قريبا منا، حيث انفجرت قذيفة في منزل أحد الجيران، وبدأ صراخ الأطفال والنساء, ترددت في مغادرة المنزل بداية، إلا أنني لم أجد مفرا من هذا الخيار بعد أن طفح الكيل، واقتربت النيران جدا من بيتي".
ويتابع بالقول: خرجنا 15 شخصا، بدأنا النزول على درجات المنزل، وما إن وصلنا إلى باب الخروج فإذا بقذيفة تسقط أمامنا، فرجعنا للوراء، لتسقط قذيفة ثانية، فقررنا الاختباء أسفل الدرج لعلنا نبتعد عن القذائف".
وأضاف الشيخ خليل: تواصل القصف العشوائي على منزلنا والمنازل المجاورة، وسقطت قذيفة ثالثة علينا، ولكنها كانت هذه المرة بين أفراد العائلة , فرأيت زوجتي و أولادي وأخواتي يغرقون بالدماء، وأنا أصبت في يدي، وكنت أحتضن ابنتي سامية التي تبلغ عامين وهى مصابة في رأسها, لم أعرف ماذا أفعل؟ فخرجت في الشارع وأنا احمل سامية حتى وصلت مفترق الشجاعية، لا أدري كيف وصلت المستشفى".
ويصر الشيخ خليل على البقاء مزروعا في أرضه، رغم ما أصابه، وما ابتلي به من فقدان أسرته "باقون على أرضنا ولن نتركها، سنعيش في بيتنا فوق الركام والدمار ولن نستسلم".
عائلة أبو شنب
تنقلنا بين أطلال البيوت المدمرة، واقتربنا من منزل عائلة أبوشنب، التي عاشت أحداث مجزرة الفجر في" شارع البلتاجي"، وكان لها حكاية...
عاشقة القران الكريم، لم تترك حلقة من حلقات التحفيظ في المسجد القريب من منزلها إلا وعمرتها بحضورها، الشهيدة الحاجة عزيزة أبو شنب "أم أكرم"، سبعينية العمر..
يقول حفيدها محمد أبو شنب لـ"شمس نيوز": حضرت جدتي لمنزلنا في زيارة رحم خلال شهر رمضان، كنت في البيت أنا وأبى وأعمامي، أما باقي أفراد العائلة فخرجوا خوفا من اجتياح برّى.. اشتد القصف تقريبا الساعة الواحدة ليلا وسقطت قذيفة على منزلنا، لم نمتلك حينها إلا الدعاء ورفع الأيادي إلى السماء".
ويكمل محمد بالقول: جلسنا في ممر المنزل ظنا منا أنه أكثر أمنا، فإذا بقذيفة تسقط على الغرفة المجاورة، وتناثرت الشظايا، وجدتي تجلس تلهج بالدعاء والاستغفار، كانت جدتي تخاف علينا أكثر من خوفها على نفسها، إلى أن قررنا الخروج متفرقين في عده شوارع حتى لا يسقط ضحايا من بيننا، واتفقنا أن يكون الاجتماع عند مفترق الشجاعية".
بعيون حزينة يواصل حديثه: حملت جدتي ومشيت بجانب البيوت، والقذائف تتساقط، حتى وقفت عند المسجد الذي كانت تصلي فيه وتحفظ القرآن، فإذ بشظايا تخترق جسدها وهى بين يدي، نتيجة سقوط قذيفة على المسجد، فاستشهدت على الفور، رحلت جدتي ورحل مسجدها في آن واحد".
عائلة حبيب.. 15 شهيدا
حكاية ممزوجة بالخوف والفخر لم تنشر فصولها في أي دراما تلفزيونية ولا روائية.. أبطال تلك الرواية عائلة "حبيب" التي ارتقى من أبنائها 15 شهيدا، في مجزرة الشجاعية يوم 20/7/2014.
كان لنا لقاء مع أم محمد حبيب التي قاست مرارة تلك الليلة، لتقول: كان الوضع صعبا للغاية، والقصف كثيفا، كنا في المنزل تقريبا عشرين فردا, بينهم عدد من كبار السن, في تلك اللحظات كنا نسمع الاشتباكات بين قوات الاحتلال والمقاومين, وألسنتنا تلهج بالدعاء لهؤلاء الأبطال، وبعد ذلك اشتد القصف بالمدفعية وتطايرت القذائف، فخرجنا من المنزل وتفرقنا في الشوارع".
عادت بذاكراتها للوراء لتتحدث عن تفاصل مشهد الموت الذي رأته بأم عينيها، لتضيف: أخذت أولادي وخرجت للشارع والقذائف تتساقط يمينا وشمالا, والأولاد يصرخون من شدة الخوف, ناديت على زوجي ولكن لم يجب, كنا نجرى في الشارع كالمجانين، رأيت الأشلاء متناثرة هنا وهناك , وقعت ابنتي على الأرض وأصيبت بكسور.. لقد خرجنا من دائرة الموت بأعجوبة".
وبلهجة حزينة تختم شهادتها على العصر: كل شي تدمر، البيت والذكريات، أصبحنا بلا بيت ورحل الأحباب".
عائلة العرعير
أما عائلة العرعير، والتي ودعت خمسة من أبناءها، فالتقينا عند زيارتها مع أم الشهداء والدة الشهيد محمد وزوجة الشهيد حسن العرعير.
تقول أم محمد لـ"شمس نيوز": كانوا يسكنون في أمان وسلام، إلا أن بطش وغطرسة الاحتلال جاءت لتفرقهم بلا ذنب اقترفوه, حيث كنا نسكن بجوار منزل عائلة شمالي المهدد بالقصف، وعندما سقط الصاروخ من طائرة إف 16، كان أولادي وزوجي جالسين أمامي، فاخترقت الشظايا أجسادهم ومزقت ملامحهم".
وواصلت حديثتها: فقدت الحياة طعمها ولونها، فقدت سندي وأولادي، وحتى هذه اللحظة لم استوعب ما حل بنا".
ومن جهته، يصف الحاج أبو حمد عياد، ما حدث في مجزرة شارع البلتاجي بالقول: لم يحدث في حروب عاصرتها في حياتي مثل هذه المجزرة".
ويردف بالقول: هربنا من المنزل قبل اشتداد القصف بنحو ساعة , كانت رحلة شاقة، قذائف الموت تحيط بنا وتحاصرنا من كل جانب".
ويصف أبو أحمد المعركة بينا وبين الاحتلال بأنها "ليست بالتشريد وهدم البيوت, المعركة مع الاحتلال صراع حياة ودين وعقيدة".
هكذا كان المشهد في حي الشجاعية "شارع البلتاجي" دمار , خراب , تجريف , تحطيم , شهداء , جرحى.. ولا زال هناك من سيبقون شهودا على "الفجر".
جدير بالذكر أن مجزرة الشجاعية في العشرين من يوليو 2014، أسفرت عن استشهاد أكثر من 60 مواطنا وإصابة العشرات، والقضاء على كل ملامح الحياة في المنطقة التي صنفت بأنها "منكوبة".