غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

خبر دول تتحدث بلغة القرن الحادي والعشرين وأفعالها تلائم قرونا مضت

فورين بوليسي 

روسيا تعود إلى القرن التاسع عشر. تنظيم الدولة الإسلامية يريد إعادة عقارب الساعة 1000 سنة إلى الوراء. واليابان عالقة في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. كم من الجغرافيا السياسية اليوم هي في الواقع من العصور الماضية؟

في عام 2014، انتقد وزير الخارجية الأمريكية جون كيري استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم قائلًا: “أنتم في القرن الحادي والعشرين وتتصرفون وكأنكم في القرن التاسع عشر من خلال غزو بلد آخر بحجة ملفّقة تمامًا”. بغض النظر عن أن تعليق كيري ينطبق بنفس القوة على غزو العراق من قِبل إدارة جورج دبليو بوش، يوضح التعليق الفكرة المألوفة بأن العالم قد تجاوز “الحسابات الانتقادية لسياسة القوة المطلقة”، كما وصفها بيل كلينتون ذات مرة. المشكلة في وجهة نظر كيري هي أنّ زعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يحصلوا على مذكرة السلوك الصحيح في القرن الحادي والعشرين، حتى إنّ بوتين لم يحمل نفسه على قراءتها أو الاتفاق مع رسالتها.

تذكرت تعليق كيري خلال رحلتي الأخيرة إلى أوروبا؛ حيث حضرت مؤتمرات في اليونان وفرنسا وتحدثت مع مجموعة كبيرة من الأكاديميين والخبراء في مجال السياسات من أوروبا وآسيا. على وجه الخصوص، أدهشني كم الناس الذين يتبنون رأي كيري -على الأقل خطابيًا- ويشعرون بالقلق من أنّ العالم يبتعد عن التقدم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ويتجه إلى بيئة أكثر تنافسية من العصور الماضية.

هذه الملاحظة جعلتني أتساءل: “أي قرن تعيش فيه البلدان المختلفة الآن؟”. نحن جميعًا نعيش في القرن الحادي والعشرين، بالطبع، ولكن يبدو أن وجهات النظر العالمية التي تتبناها الدول المختلفة تأتي في كثير من الأحيان من عصور مختلفة، ويبدو أن بعض البلدان ملتزمة بشكل مريح بوجهة نظر القرن الحادي والعشرين عن العالم، في حين لا تزال دول أخرى محجوبة في وجهات النظر العالمية التي تعود إلى قرون مضت.

إذن، أي البلدان تُعدّ النموذج المثالي عن “التفكير بطريقة القرن الحادي والعشرين” اليوم؟

أولًا وقبل كل شيء، الاتحاد الأوروبي، الذي يتبنى الجزء الأكبر من أعضائه الوصفة الليبرالية الكاملة لتسيير السياسة الدولية. مع بعض الاختلافات الطفيفة، تهرب النخب الأوروبية الآن من الحقائق القاتمة للقوى السياسية وتعتقد أن الديمقراطية، وسيادة القانون، والمؤسسات القوية العابرة للحدود يمكنها إضعاف أو القضاء على التنافس بين الدول؛ وبالتالي ضمان الاستقرار والهدوء. على الرغم من أزمة منطقة اليورو، وانتقادات المملكة المتحدة لسياسات المنطقة، واستعادة القومية اليمينية لنشاطها في جميع أنحاء أوروبا؛ إلّا أنّ العديد من النخب في القارة ما زالوا يعتقدون أنّ التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي داخل أوروبا أضعف الولاءات الوطنية الرجعية وعزز تطوير الوحدة الوطنية الأوروبية في مرحلة ما بعد الحداثة، وما بعد الوطنية.

شجعت هذه القناعات (بالإضافة إلى استمرار الحماية الأمريكية) الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للسماح بضمور قدراتهم العسكرية. إذا عمل الجميع وفقًا لمبادئ القرن الحادي والعشرين، فلن تكون القوة العسكرية الخطيرة ضرورية؛ وسيكون إنفاق الكثير من الأموال عليها هو مجرد إسراف. كما أنّ الجيوش الوطنية القوية ستجعل الدول المجاورة تشعر بانعدام الأمن وتعيد فتح الباب لأمراض ذات نزعة عسكرية ساعدت على إنتاج الحروب الأوروبية السابقة. يتعين على الاتحاد الأوروبي التأكيد على الدبلوماسية وغيرها من أشكال القوة الناعمة بدلًا من ذلك، وينبغي أن يتجنب القوة العسكرية والدفاع عن المصالح الجيوسياسية التقليدية.

ويترتب على ذلك أنّ النخب في أوروبا في “القرن 21″ تعزو المشاكل السياسية المعاصرة إلى مثيري الشغب من غير الليبراليين مثل الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش أو بوتين. ولكنّ المشكلة هي أن القادة الليبراليين أمثال ميلوسيفيتش وبوتين من غير المرجح أن يتأثروا بالحجج المعيارية أو العقوبات الاقتصادية؛ مما يترك الاتحاد الأوروبي مع قدرة ضئيلة على تشكيل سلوك تلك الدول التي لا تزال تعمل وفقًا لوجهة نظر تقليدية في السياسة العالمية.

أي الدول تدور في ذهني الآن؟ الأمثلة الأكثر وضوحًا هي روسيا والصين؛ حيث تعكس سياساتهما الخارجية بعض المخاوف التقليدية بشأن السيادة الوطنية ووحدة الأراضي وقدرات الدولة، وميزان القوى. تدافع روسيا عن منطقة نفوذها في “الخارج القريب” بقوة وتتحدى الفردية الليبرالية التي تدعم المؤسسات الغربية الأساسية، وعلى استعداد أيضًا لاستخدام قوات بالوكالة وأدوات عنيفة أخرى لحماية ما تعتبره مصالحها الجوهرية. وإذا كان هذا الهدف يتطلب الاستيلاء على الأراضي أو الترويج لحروب أهلية في أي مكان آخر -الممارسات الأثيرة في تاريخ أصول الحكم- فلا مانع من ذلك. يمكن للقادة الغربيين الإعلان بأنّ أفعالهم لا تشكل أي تهديد لروسيا، لكنّ موسكو لا تصدقهم (لها أسبابها بالطبع).

وبالمثل، تبنت الصين العولمة باعتبارها تذكرة وجبة اقتصادية، ولكنها لا تتبنى وجهة نظر القرن الحادي والعشرين في السياسة العالمية. على النقيض من ذلك، وبعد قرنين من الإذلال، تريد الصين أن تكون دولة غنية وقوية بدرجة كافية لإحباط الضغوط الخارجية، سواء الآن أو في المستقبل؛ وهذا الهدف يتطلب استمرار النمو الاقتصادي، وزيادة القوة العسكرية، والجهود الحثيثة الرامية لاستعادة السيطرة على الأقاليم أو المناطق التي تعتبرها جزءًا شرعيًا من الصين (مثل تايوان). تريد الصين أيضًا تأسيس نفسها كقوة إقليمية مهيمنة في آسيا من خلال دفع الولايات المتحدة للخروج من المنطقة وتشجيع جيرانها لتكييف أنفسهم مع السلطة الصينية. ورغم كل شيء، فهذا يشبه إلى حد كبير ما فعلته الولايات المتحدة أثناء صعودها لتصبح قوى عظمى عالمية.

روسيا والصين ليستا الدولتين الوحيدتين اللتين تعيشان مع رؤية في السياسة الخارجية تعود إلى القرن التاسع عشر؛ فهناك إسرائيل أيضًا؛ حيث يجسّد اقتصاد التكنولوجيا الفائقة (وارتفاع عدم المساواة) توقعات القرن الحادي والعشرين. ولكن، كما أكّد المؤرخ الراحل توني جودت قبل أكثر من عقد من الزمن أنّ الحمض النووي السياسي لإسرائيل -الصهيونية- هو في جوهره مجرد قومية إثنية أوروبية تعود إلى القرن التاسع عشر. وعلاوة على ذلك، فإنّ الحملة الطويلة لإنشاء “إسرائيل الكبرى” في الضفة الغربية هي مجرد مظاهر متبقية من “الاستعمار الاستيطاني” في القرن التاسع عشر. ويتساءل المرء ما إذا كان جزءٌ من “التناغم” المزعوم بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبوتين هو توقع يعود إلى القرن التاسع عشر يضع التوسع الإقليمي قبل السلام على قائمة الأولويات الوطنية.

قد تكون الصين وروسيا وإسرائيل عالقين في وجهة نظر معينة من القرن التاسع عشر -على الأقل من حيث السياسة الخارجية- ولكن يبدو أن بعض الدول الأخرى محاصرة في القرن العشرين. لقد تم تقسيم كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية بسبب صراع قوي يعود إلى عام 1950، ولم تستطع كوريا الجنوبية واليابان تجاوز الإرث السام للاستعمار الياباني والفظائع التي حدثت في الحرب العالمية الثانية. وعلاوة على ذلك، فإنّ النظم السياسية والاقتصادية لليابان تبدو غير قادرة على التحرر من الإجراءات المؤسسية التي غذت معجزتها الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولكنها شلت اقتصادها منذ انفجار هذه الفقاعة الاقتصادية في عام 1990.

ولكن، دعونا لا نتوقف هنا. بعض الدول والحركات السياسية لديها وجهات نظر عالمية لا تعود إلى القرن التاسع ولكن إلى فترات سابقة. تنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية وحركة طالبان، والوهابية السعودية؛ جميع هذه التنظيمات تستخدم التقنيات الحديثة بدرجات متفاوتة، لكن نماذجها السياسية تعتمد على المبادئ التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي. عندما يقول شخص ما إنّه يريد استعادة الخلافة فهذا رفض واضح لنموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان والأسواق وسيادة القانون، وغير ذلك، الذي اعتقد المتفائلون في السابق أنّه السبيل الوحيد لتنظيم مجتمع متقدم في القرن الحادي والعشرين.

وماذا عن الولايات المتحدة؟ يروق للأمريكان التفكير في أنفسهم باعتبارهم متطلعين للمستقبل، وتقدميين، يلتزمون بنفس القيم الليبرالية لحلفائهم في أوروبا، وفي بعض الأحيان يعتقدون أنّهم اخترعوا تلك القيم. باختصار، يعتقد الأمريكان أنهم التجسيد المثالي لرؤية العالم في “القرن الحادي والعشرين”. هناك بعض الحقيقة في ذلك، بقدر الوقت الذي تمضيه الولايات المتحدة في استدعاء المثل الليبرالية والشعور بالرضا عن نفسها بسبب الدفاع عن تلك القيم. ولكن في الواقع، الولايات المتحدة اليوم هي عبارة عن مزيج من مثالية القرن الحادي والعشرين وسياسات القوة في القرن التاسع عشر. يمجد الخطاب الأمريكي الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، والأسواق المفتوحة، والسمات البارزة الأخرى في نموذج القرن الحادي والعشرين، لكنه سرعان ما ينتقد منافسين مثل روسيا والصين بسبب تقصيرهم في هذه الأبعاد.

لكن الولايات المتحدة تحتفظ أيضًا بوجهة نظر تعود إلى القرن التاسع عشر وهي سياسات القوة. تريد واشنطن الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، ولا تزال على استعداد للدفاع عن مجموعة من الحلفاء غير الديمقراطيين في جميع أنحاء العالم. ومثل القوى العظمى السابقة، لديها موقف مغلوب تجاه القانون الدولي والمؤسسات الدولية؛ فهي تحتضنهم عندما يكونون في مصلحتها، وتتجاهلهم عندما يقفون في طريق الشيء الذي تريد أن تقوم به. لا تستحي الولايات المتحدة من استخدام قوتها العسكرية للهجوم على دول أخرى، إما بجرعات كبيرة (العراق وأفغانستان) أو بجرعات صغيرة (ليبيا، الصومال، اليمن، باكستان، صربيا، بنما، وغيرها). يمكن للمرء القول بأنّ واشنطن تتحدث مثل شخص مثالي من القرن الحادي والعشرين، ولكن أفعالها من الطراز القديم لدرجة لا تريد أن تعترف بها.

ما أهمية كل ذلك؟ أولًا: الدول التي تعكس “برامج تشغيلها” مختلف العصور ستجد صعوبة في فهم بعضها البعض، وستميل كل دولة إلى اعتبار تصرفات الأخرى بأنّها غير مفهومة أو غير شرعية أو هما معًا. هذه المشكلة هي بالضبط ما يربك العلاقات بين الشرق والغرب بشأن أوكرانيا؛ فالغرب يعتقد بأنّ الشرق رجعي، والشرق يعتقد أنّ الغرب مستبد ومتبلد الشعور.

ثانيًا: سوف تؤثر نظرة الدولة أيضًا على القدرات التي تستحوذ عليها، وبالتالي قدرتها على التأثير على سلوك الآخرين. عندما تتفاعل الدول ذات وجهات النظر العالمية المختلفة، فإنّها قد تجد نفسها غير قادرة على الكلام أو الفعل بلغة تفهمها الدول الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: “السلطة المدنية” التي تتباهى بها أوروبا ليس لها أي قيمة في التعامل مع موسكو، ولا تعطي أوروبا الكثير من القدرة على صياغة الأحداث في المناطق العنيفة مثل سوريا أو ليبيا. ولكن، وعلى نفس المنوال، عدم رغبة روسيا في التطور واعتمادها على صادرات الطاقة في سوق هابط منعها من فرض النفوذ الاقتصادي الذي من شأنه أن يسمح لها بتشكيل السياسة العالمية خارج منطقتها المباشرة.

عندما كنت طالبًا في الدراسات العليا، كان السؤال الدائم في امتحان الدكتوراه بجامعة بيركلي: “هل الطبيعة الأساسية للسياسة الدولية تغيرت في السنوات الـ400 الماضية؟”. لم يتفق أعضاء هيئة التدريس في ذلك الوقت على هذا الموضوع؛ لذلك كانت صياغة إجابة تقبلها لجنة التقييم صعبة بعض الشيء. المشكلة نفسها الآن تواجه القادة السياسيين في جميع أنحاء العالم: كم من السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين جديدة ومختلفة؟ وكم منها قديمة ومكررة؟ ربما يمكنك تخمين كيف أجبت عن السؤال في ذلك الوقت، وسوف أقدم نفس الجواب الآن.

المقال يعبر عن وجهة نظر المجلة