في كل مرة أمسك فيها القلم والكتاب وبالأخص حينما تجرني ذاكرتي إلى الوراء قبل سنوات قلة أتذكر فيها "شهيدا صديقا صدوقا طيب القلب حسن الخلق"، ولو كتبنا الكثير من الصفات التي كانت بـ "عزت ضهير" لانتهت الكلمات ولم تنته صفاته، لا أعلم لماذا أمتنع من استحضار بعضاً من الذكريات القلائل التي جمعتني بهذا البشري الملائكي؟!
لكن قاومت نفسي هذه المرة وحاولت أن أستجمع ولو قليلاً من صفات حسنة وأخلاق جمة رأيتها ولامستها أنا وغيري من الزملاء الذين عرفوا الشهيد عزت سلامة محمود ضهير..
"عزت" سنذكرك أيها البطل.. سنذكرك وفي القلب اشتياق لك.. سنذكرك في الصباح والمساء.. سنذكرك في الليل والنهار.. سنذكرك في كل وقت وحين.. ونحن نقول "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
لقد اصطفى الله تعالى منذ الزمن الأول لبعث الرسالة السمحاء رجالاً عمالقة ذادوا عن حماه، اجتباهم ربهم من بين الكثيرين، ورباهم على عينه، فطهرت قلوبهم من رجس الدنيا وقويت عزائمهم برضى الله، وبنور منه شقوا دروب الحياة، ووهبهم من فيض عطاياه، أحبهم وأحبوه وإلى أن حان اللقاء بذلوا الغالي والنفيس لنيل رضاه، فنقشت أسماؤهم على صفحات التاريخ، واستحقوا عن جدارة وصف خالقهم والعالم بحالهم "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
الشهيد "عزت" الأخ الأصغر " آخر العنقود" والفتى المدلل لعائلته المكونة من والديه وستة أشقاء وأربعة شقيقات حيث يقطن في قلعة الجنوب رفح، حيث تعلم واجتهد فكان نعم الطالب المتفوق في الابتدائية والإعدادية والثانوية، ليكمل مشواره التعليمي ويلتحق بجامعة الأقصى عام 2009 حيث بداية التعارف مع "عزت"، حينما درس بكلية الإعلام وتخصص الصحافة آنذاك، ليحمل على عاتقه أداء رسالة الحقيقة وكشف جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبه.
لم يكن "عزت" طالباً عادياً قط في الجامعة، بل شهدناه الطالب النشيط خفيف الظل سريع الحركة، مشاركاً في أي فعالية تنظمها شؤون الطلبة، وأذكر أنه كان أميراً للرابطة الإسلامية في الجامعة أيضاً، محبوباً للجميع يحاول التقرب من جميع الطلبة الذين ينتمون إلى غير حزبه "الجهاد الإسلامي" الذي انتمى إليه، كطلبة في حماس والجبهة الشعبية وفتح وغيرهم.
صوته الرنان الذي ما زال يصدح في أذني حتى الآن، في فعالية تضامن مع الأسرى كان مشرفاً عليها داخل الجامعة، حيث أقنع الكثير من الطلاب للمشاركة فيها، وكانت مقولته لنا حينما دعا لها " أستحلفكم بالله أن تقفوا بجانب من ذاق مرارة الفراق من أجلكم.." (قاصدا الأسرى).
"عزت".. لم يكن كأي طالب في مرحلته الجامعية، ففي أول فصل جامعي له أراد أن يثري أفكاره ومعلوماته، فبدأت رحلته بالتطوع داخل المؤسسات الإعلامية، فمن صحيفة إلى إذاعة إلى تلفزيون، ولم ييأس حينها عندما طرده البعض تحت بند "الواسطة"، وكان من أشد كارهي الواسطة، لنقول له ممازحين " بدك واسطة بتدخل أي مؤسسة"، ويرد علينا " واسطتي الله ثم عملي ثم اجتهادي".
تخرج الفارس "عزت" من جامعة الأقصى لينتقل بعدها إلى المعترك الإعلامي بجهده وجهاده يرسم حلمه في مهنة الصحافة والإعلام، والتحق فيما بعد بعدد من الدورات الإعلامية التخصصية دون كلل أو ملل، لحبه الشديد لمهنة الصحافة، فعمل ضمن الطاقم الإعلامي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بإقليم رفح، وبرز دوره كمراسل وصحفي في الأحداث الميدانية لبعض الإذاعات ليصدح بالحقيقة بصوته العذب، إلى أن التحق بركب الشهداء بعد إرسال آخر رصد ميداني للأحداث التي تدور بمدينة رفح عبر إحدى الإذاعات الفلسطينية.
في آخر أيامه عمل شهيدنا عزت مراسلاً لإذاعة الحرية التي تُبث من الضفة الغربية، خصوصاً في ظل الحرب الشرسة والعدوان الهمجي الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، ليخوض "عزت" معركته الحقيقية من خلال نقل الحقيقة عبر هذه الإذاعة، وعمل ليل نهار في رفح وخان يونس من أزقة المخيم إلى عتبات المستشفيات، وحتى آخر يوم في حياته.
فجر التاسع والعشرين من أغسطس/آب، وقبيل استشهاده بساعات قليلة، خرج "عزت" مع تلك الإذاعة ببث مباشر لينقل أحداث الساعة، لتقول له المذيعة في آخر الحديث " شكراً لك مراسلنا عزت، ونلتقيك بعض قليل"، ليرد عليها الشهيد متبسماً "بالتأكيد سنلتقي بالجنة"، وكأنه يعلم أن الموعد قد حان وأن ريح الشهادة قد فاح في آخر ساعات عمره.
الفاجعة الكبرى كانت ثاني أيام عيد الفطر المبارك، حينما استشهد "عزت" هو وثمانية عشر شهيداً كانوا جميعاً تحت أنقاض بيتهم رسموا أحلامهم وعاشوا طفولتهم فيه, فطائرات الاحتلال لم ترحم أحداً عندما أطلقت في فجر يوم التاسع والعشرين من شهر أغسطس/آب، صواريخ موتها وحقدها على منزل الشهيد "عزت ضهير" وتحيله إلى ركام فوق رؤوس من فيه, ويكون "عزت" من بين الشهداء التسعة عشر الذين ارتقوا في هذه المجزرة البشعة، والتي لم تبقَ من العائلة إلا ثلاثة أخوة كانوا خارج البيت وطفلة صغيرة قذفها ضغط الانفجار إلى خارج المنزل ونجت بأعجوبة.