منذ كامب ديفيد، تتواصل المفاوضات بين العرب وإسرائيل، وقد مرت طيلة العقود الماضية بتجارب غير مجدية وغير مكتملة كمدريد وواي بلاينتشن وغيرها.
وتبقى العقدة الأساسية مرتبطة بما جرى ويجري بشكل متقطع بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتطرح الأسئلة بشكل متواصل حول أمل ما بالوصول إلى حلول "الحد الأدنى" التي تتلاءم مع أحكام القانون الدولي في هذا الإطار.
إنني لست مقتنعا بأن القانون الدولي عاجز كليا عن إيجاد الإطار العملي لحلول تشكل بداية معقولة لنتائج ملموسة على أكثر من صعيد, كي لا تعود لغة العنف إلى الواجهة إذا ما سلمنا جدلا بأن القانون الدولي لم يعد له مكان ولا قدرة على التأسيس لمرحلة من الحلول عن طريق السلام العادل والدائم والمتوازن في مراحله ونتائجه.
ولكن لا يمكننا أن نغفل أن السياسة الدولية تعيق التطبيق ولو النسبي أو الجزئي للقانون الدولي, وما القول أو الإشارة إلى أن أحد مفاتيح الحل هو "اعتراف معين" بيهودية دولة إسرائيل إلا تأكيد واضح بأن مبادئ العدالة لم تزل بعيدة المنال في ظل "تكابر" و"تجاهل" دوليين لأحكام القوانين الدولية ذات الصلة.
- ماذا تعني يهودية دولة إسرائيل؟
بالإضافة إلى كونها تحديا طبيعيا لمشاعر العرب مسلمين ومسيحيين, فإنها تستحق التوقف عندها لا لدراسة نوايا إسرائيل ومخططاتها بل لغاية البحث القانوني والسياسي.
أهي إشارة إلى الهوية السياسية لدولة إسرائيل ذات الأغلبية اليهودية أم ترجمة قانونية للتحديد الصهيوني الذي يجعل من إسرائيل وطنا لليهود من كل الأقطار؟ هذا التحديد حول الشعب اليهودي قد رفض في القانون الدولي ومن قبل الولايات المتحدة خاصة سنة ١٩٦٤.
وبين الوجهتين المذكورتين، تبنى نتائج سياسية وقانونية خصوصا على مستقبل المفاوضات ومآلها، بمعنى أن الوجهة الأولى تعني فيما تعني مفهوما مبطنا للمعيار الديني للدولة الإسرائيلية, أما الوجهة الثانية أي التحديد الصهيوني، فإنه يشكل إشارة قوية إلى المشروع الإستراتيجي الذي يتخطى في حدوده الدولة الإسرائيلية ليلامس السيطرة الكاملة وبطرق شتى على الدول المحيطة بها، مع ما لذلك من نتائج خطيرة على كل الصعد.
- ولكن السؤال الذي لا بد منه يتمحور حول تحديد ماهية مبادئ القانون الدولي التي ترعى الحقوق الفلسطينية:
أبرز تلك الحقوق وأكثرها جدلا هو حق العودة إلى "الأرض"، وهو مبدأ طبيعي وأساسي في القانون الدولي وفي المسألة الفلسطينية خاصة, لأن حق العودة هو طريق مكرّس وطبيعي للسلام العادل والمتوازن.
وقد كرسته القرارات الأممية المتتالية، وهو يتعلق عضويا بحق اعترف به ولكنه بقي "معلق" التطبيق، أي حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير, وقد اعترفت به وأقرته القرارات الدولية ذات الصلة منذ بداية السبعينيات بعد أن كانت مسألة اللاجئين تتصدر السياسة والقانون الدوليين دون اعتراف واضح وصريح بحق الشعب في تقرير مصيره أي تحديد خياره في وطنه ورسم مستقبله وفق إرادته الحرة.
وفي هذا السياق, يبقى المستند الأساسي في القانون الدولي هو قرار التقسيم وما تلاه حتى تاريخه, مما يشكل وحدة قانونية قادرة في حال اعتمادها أثناء المفاوضات على إيجاد الأرضية الصالحة لاتفاق مجدٍ وجدي في آنٍ معا.
أمّا الوضعية القانونية للقدس فتبقى مسار جدل عقيم حتى اليوم بفعل رفض الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ العام ١٩٨٠ لقرار إسرائيل القاضي باعتبار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وذلك خلافا للقانون الدولي الذي قسّم القدس إلى قسمين. وقد انطلقت مطالبات وطروحات عديدة تدعو إلى تدويل المدينة "المقدسة" وجعلها مفتوحة منزوعة السلاح تحت سلطة الأمم المتحدة بوضعية قانونية دولية خاصة.
هذه المواضيع الخلافية هي جزء بسيط من أزمات أخرى وكبرى ومعقدة، ولا يمكن إغفال الواقع الذي يشير بكل موضوعية إلى أن المشكلة لا تكمن في الخيارات وخطط العمل بل في الإرادة الفعلية لتطبيق القرارات الدولية بروحية السلام لا في سبيل كسب الوقت وتمييع المسائل حتى يصبح الستاتيكو الممتد لعقود هو عملية تطبيع فعلي.
- من هنا تطرح التساؤلات حول مرجعية مدريد إطارا للشرعية الدولية، إذ لم نزل نرى المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية تعاود البحث في النقاط عينها، وكأنه لا مرجعية يستند إليها في مقاربة المسائل العالقة.
ومرجعية مدريد هي تكريس لكل ما اعتمد في القرارات الدولية:
* القرار ١٨١ الصادر عن مجلس الأمن حول التقسيم, وهو القرار-الإطار الذي رفضه العرب لعقود ثم طرحوا مبادرات تتلاءم مع بعض أحكامه على أن يعطى الشعب الفلسطيني جزءا من حقوقه.
* القرار ١٩٤ الصادر عن الجمعية العامة حول اللاجئين، وهو قرار مهم لما يحمله من نصوص لا تحتمل الاجتهاد القانوني والسياسي حوا مسألة تعد بمثابة القلب في القضية الفلسطينية.
* القراران ٢٤٤ و٣٣٨ بعيد حرب ١٩٦٧ وما تلاها من تغيرات على الأرض.
* القراران ٢٦٤٩ و٢٦٧٢ الصادران عن الجمعية العامة في العام ١٩٧٠ التي كرسّت حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
أما المستوطنات فهي مشكلة تستعصي على الحل في كثير من الأحيان إضافة إلى قضية الأسرى التي لم تجد حلا نهائيا حتى تاريخه.
أما مسألة الرفض الإسرائيلي المستمر للانسحاب من الأراضي المحتلة واستمرار تمركز جيشها في الأردن فإنه يشكل إخلالا واضحا بموجبات القانون الدولي بكل مواثيقه وقراراته، لأنه ينسف روحية السلام ويجعل المفاوضات تقفز من فشل إلى آخر دون قدرة فعلية من جانب الولايات المتحدة على خرق الجدار.
إذ إن وزير خارجيتها لم يستطع النجاح بأي خطوة قد رعاها ليس لعدم قدرة شخصية أو أميركية على فرض الحلول, بل لأن التبني الأميركي لجوهر المطالب الإسرائيلية والتمسك بالدفاع عنها، يجعل الدور الأميركي راعيا شكليا دون إمكانية إيجاد اتفاق ما يخرج المفاوضات ومعها الوضعيتان السياسية والقانونية من الدوامة القاتلة.
في هذا السياق، يطرح التساؤل عن جدوى استمرار الفلسطينيين بالتمسك بالقانون الدولي ومقتضياته.
في الواقع لا يمكن لهؤلاء إلا القيام بذلك مع تحريك المفاوضات وتوسيع مروحيتها المطلبية وإقناع الإدارة الأميركية والقوى الفاعلة في العالم بضرورة القيام بخطوات عملية تخرج الواقع الفلسطيني من الستاتيكو الذي يمكن أن يتطور إذا ما أصبحت المبادرة العربية للسلام ساقطة بحكم الزمن وتطور المسائل النزاعية إلى حدود تجعل الجميع أمام خيارات لا طائل منها.
مسألة المفاوضات هي إطار سياسي دولي وإطار قانوني دولي، لن يفضي إلى نتيجة إلا بتوافق الإطارين.. وهذا ما ليس محسوبا ومحسوما في الفترة المرتقبة