يوم القيامة لم يقم بعد، لكن منظمة التحرير الفلسطينية قامت قيامتها مرارا حتى الآن، لأن هناك من يخرجها من بين الأموات كلما أراد ذلك.
الناظر لمنظمة التحرير الفلسطينية يدرك أنه لا دور لها على الساحة الفلسطينية، لا من الناحية النضالية ولا من الناحية السياسية الإدارية، وهي غائبة تماما عن الواقع الفلسطيني، وغائبة أيضا عن وعي جماهير الشعب الفلسطيني. وغيابها ليس حديثا، ولم يبدأ مع ظهور السلطة الفلسطينية، وإنما طالما كانت غائبة، وطالما كانت مجرد شخص واحد وهو رئيسها الذي تحكم دائما بأموالها ومجالسها المختلفة، حيث كان يضمن دائما اتخاذ القرار الذي كان يراه هو مناسبا.
كان من المفروض أن تكون منظمة التحرير المؤسسة الفلسطينية الأولى التي تمثل الكل الفلسطيني، وتقوده نحو تحرير فلسطين، فإذا بها تغرق وتُغرق معها الشعب الفلسطيني في الانحرافات الوطنية والفساد، والاستهتار بالقضية الفلسطينية ومكانتها العالمية. زاغت منظمة التحرير كثيرا، حيث أصبحت أي شيء عدا منظمة تحرير.
والآن، هناك محاولات من قبل رئيس السلطة الفلسطينية لبعثها من موتها من جديد من أجل البحث عن صيغة تأتي للشعب الفلسطيني بخليفة لرئاسة الشعب الفلسطيني يكون أداة طيعة بيد الكيان الصهيوني. رام الله الآن تشكل خلية من الدبابير المنهمكين في البحث عن سبل وأساليب استمرار تورط الشعب الفلسطيني في التنازل عن حقوقه الوطنية الثابتة التي دفع ثمنها التضحيات الجسام.
منذ البدء، عمل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية على المحافظة على أغلبية له ولحركته -والتي هي فتح- في مجالس منظمة التحرير الفلسطينية. بالنسبة للمجلس الوطني، اعتمدت الفصائل الفلسطينية بعد استقالة أحمد الشقيري من رئاسة المنظمة نظام المحاصصة، أي توزيع مقاعد المجلس وفق محاصصة فيما بينها، وتركت عددا من المقاعد لمن كانوا يصنفون مستقلين.
لكن رئيس منظمة التحرير كان يتحكم -عادة- في أعداد المستقلين، بحيث يكون أغلبهم من المؤيدين له ولخطواته السياسية، ولم يكن يتقدم بأي اقتراح أو مشروع للمجلس إلا إذا ضمن أن اقتراحه أو مشروعه سيفوز بالأغلبية الضرورية للتمرير. هكذا كان الأمر بالنسبة للمجلس المركزي وللجنة التنفيذية؛ ولهذا لم تكن مجالس منظمة التحرير يوما صاحبة قرار، وإنما كانت أداة رئيس المنظمة لتمرير ما يشاء من قرارات. ونلاحظ أن مجالس منظمة التحرير فقدت كل هيبتها بعد قيام السلطة الفلسطينية، ولم تخرج عن كونها معولا بيد رئيس المنظمة يتحكم به كيفما يشاء.
عدد من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني توفي، وعدد منهم أصبح طاعنا في السن، ولا أحد يدري تماما حتى الآن كيف يتم ملء الشواغر، والأمر متروك لذمة رئيس المنظمة. حتى أن أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية يتم التلاعب به من قبل رئيس المنظمة الذي هو الآن رئيس السلطة الفلسطينية. تم تعيين ياسر عبد ربه سابقا أمين سر المنظمة دون أن يدري أحد لماذا، وتمت إقالته دون أن ندري لماذا، وتم تعيين صائب عريقات مكانه دون أن ندري لماذا، ويبدو أن مشكلتنا أن رئيس المنظمة يستخف بالشعب الفلسطيني.
مجالس منظمة التحرير الفلسطينية غير شرعية، ولا تمثل الشعب الفلسطيني للأسباب التالية:
1- وجدت منظمة التحرير الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين ومن هنا اكتسبت شرعية؛ أي أن شرعيتها كانت مستمدة من هدف إقامتها، وعبّر الميثاق القومي الفلسطيني عن ذلك ومن بعده الميثاق الوطني الفلسطيني. الآن لم يعد هذا الهدف موجودا، ولم يعد هناك من قيادات المنظمة من يتحدث عن التحرير، هم يتحدثون عن إقامة دولة فلسطينية، وليس عن التحرير أو عودة اللاجئين.
2- كل مجالس منظمة التحرير الفلسطينية تخالف لوائحها الداخلية التي تضبط عملها؛ فمثلا من المفروض أن يجتمع المجلس الوطني الفلسطيني كل سنة مرة، والمجلس المركزي كل شهرين. انعقد المجلس الوطني الفلسطيني عام 1996 ليرتكب جريمة إلغاء الميثاق الوطني أو تعديله لدرجة الإلغاء، ويحاول المتنفذون عقده الآن من أجل تمرير أهوائهم.
3- المجلس الوطني الفلسطيني اعتدى على الميثاق الوطني الفلسطيني عدة مرات، وهو من المفروض أن يكون الحارس الوفي الأمين على الميثاق. غيّر المجلس الوطني الفلسطيني هدف الشعب الفلسطيني عام 1974 عندما استبدل تحرير فلسطين بإقامة سلطة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين. واعتدى المجلس بصورة "وقحة" على الميثاق الوطني عام 1988 عندما اعترف بإسرائيل دون مقابل، أو مقابل أن يجلس مسؤول أميركي مع مسؤول في المنظمة.
الاعتراف بإسرائيل يشكل خيانة عظمى بالنسبة للميثاق الوطني الفلسطيني، وهو من المحرمات الفلسطينية التي لا يجوز مجرد التفكير بها. ببساطة أدار المجلس الوطني ظهره للميثاق وأيد مقترح رئيس المنظمة، هذا علما أن القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية يخوّن كل من يقيم علاقات مع الكيان الصهيوني ويحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، والمأساة أنه لم يقف رجل قانون واحد أثناء المؤتمر الذي كان منعقدا في الجزائر ليجرم الذين اعترفوا بالكيان الصهيوني.
4- المجلس الوطني لم يعترض على اتفاق أوسلو الذي يشكل عملا غير شرعي بالنسبة لأحكام وبنود الميثاق. اتفاق أوسلو خالف الميثاق الوطني الفلسطيني في العديد من القضايا، لكن المجلس الوطني بقي أخرسا. وفوق ذلك، قرر المجلس الوطني الفلسطيني الذي فقد كل شرعيته إلغاء العديد من بنود الميثاق الوطني عام 1996 إكراما للكيان الصهيوني والرئيس الأميركي، وتعديل البنود الأخرى إلى درجة تنفيه وتقضي على مضامينه، ولم يبق من الميثاق الوطني الفلسطيني إلا المواد المتعلقة بكيفية تعديل الميثاق والتي لم يلتزم بها المجلس الوطني
أين البرلمان أو المجلس التشريعي أو مجلس الشعب في العالم الذي يلغي الدستور الذي يشكل مصدر الشرعية غير المجلس الوطني الفلسطيني؟ لقد ألحق المجلس الوطني الفلسطيني الخزي والعار بالشعب الفلسطيني، وما زال المتنفذون يتبجحون بالتمثيل الشرعي.
المجلس المركزي الفلسطيني لا يلتزم أيضا بلوائحه الداخلية، ويعمل دون ميثاق ينظم عمله من ناحية المبدأ والأهداف الوطنية. والمجلس المركزي لا يعدو كونه أداة طيعة بيد رئيس السلطة الفلسطينية لكي يمرر ما يريد من قرارات. لا ينعقد المجلس المركزي إلا عندما تحتاجه السلطة الفلسطينية للقيام بجريمة وطنية جديدة ضد الشعب الفلسطيني، وعندما حاول المجلس المركزي أن يكتسب نفسا وطنيا وقرر إلغاء التنسيق الأمني، رفض رئيس السلطة تنفيذ القرار، وبقي أعضاء المجلس يصفقون لعباس.
وبخصوص الفصائل، فقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تتخذ مواقف في وجه المخالفات التي يقوم بها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني، لكنها لم تكن تصمد عند موقفها؛ وقفت ضد النقاط العشر عام 1974 وعادت بعدها إلى المنظمة، وصوتت ضد الاعتراف بالكيان الصهيوني عام 1988، لكنها الآن تحضر اجتماعات أهل أوسلو وتتعامل معهم، وحبلها ممدود لرئيس السلطة الفلسطينية.
أما الفصائل الأخرى فبقيت أيضا ملاحق لرئيس المنظمة وتسير على خطاه، في حين أن الفصائل الفلسطينية الوطنية خارج إطار المنظمة بقيت على الهامش وبلا تأثير، ولا تحاول عمل كيان لها يجعل لها كلمة على الساحة الفلسطينية، حتى أن الفلسطينيين خارج فلسطين لا يمارسون دورهم الفلسطيني وكأنهم أصبحوا غرباء عن الشعب الفلسطيني، ولا يكلفون أنفسهم اتخاذ مواقف فصائلية أو شعبية دفاعا عن حقوق الشعب، خاصة حق العودة.
ومن المفروض أن منظمة التحرير الفلسطينية إطار جامع للشعب الفلسطيني، وتشكل مظلة يستظل بظلها كل الفلسطينيين على مستوى فصائل وجماعات ونقابات واتحادات وأفراد، لكن الزمن لم يثبت هذا لأن حركتي حماس والجهاد الإسلامي بقيتا خارجها، وبسبب عدم رغبة رئاسة المنظمة في إجراء الحوارات اللازمة للتوصل إلى صيغة مقبولة للجميع لانضمام الحركتين.
الجهاد الإسلامي وحماس هما أقوى حركتين فلسطينيتين متواجدتين على الساحة، وقد استطاعتا بالتعاون مع مقاومين آخرين صد ثلاث حروب صهيونية على قطاع غزة، وتشكلان الآن العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ولولا وجودهما والتضحيات التي تم تقديمها لما استطاع الشعب الفلسطيني رفع رأسه. هاتان حركتان عظيمتان بتضحياتهما ومن المفروض أن تكون لهما مشاركة فعالة في منظمة التحرير الفلسطينية.
تم الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية عام 2005 في القاهرة على إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وأن يتشكل إطار قيادي موحد يشمل قادة الفصائل الفلسطينية، لكن رئيس منظمة التحرير لم ينفذ القرار وفضل بقاء المنظمة أداة يتلاعب بها هو شخصيا كيفما يشاء، وفضل الإبقاء على الشعب الفلسطيني منقسما. وإذا عدنا إلى البندقية كمصدر أول للشرعية الفلسطينية فإن أحدا لا يستطيع أن يجادل في شرعية حماس والجهاد الإسلامي.
والواقع أن رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية التي هي رئاسة السلطة الفلسطينية لا تحترم المؤسسية الفلسطينية، وسرعان ما تضرب بها عرض الحائط عندما تصطدم المصلحة الذاتية أو الفصائلية بالمؤسسة.
المهم بالنسبة للرئاسة احتكار السلطة وإبقاؤها بيد حركة فتح حتى لو أدى ذلك إلى اقتتال فلسطيني. رئيس السلطة عباس مثلا تجاوز مدة انتدابه كرئيس للسلطة بست سنوات، حيث انتهت مدته عام 2009، وما زال حتى الآن يسمي نفسه رئيسا.
من المفروض أنه غاب عن الأنظار منذ زمن، لكن للأسف لا يجد فصائل تتحداه، ولا يرى شعبا يدافع عن نفسه ومؤسساته القانونية. أبو مازن يخالف القانون الأساسي الفلسطيني ولا يجد مركزا قانونيا واحدا أو جمعية قانونية تقاضيه. وهكذا تضيع فلسطين ويضيع شعبها.
الأمم المحترمة تضع لنفسها قوانين ومواثيق ودساتير وتوضح العقوبات التي تقع على مخالفيها، أما الأمم البالية فلا تقيم مؤسسات ولا تحترم قوانين. المؤسف أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن يوما مؤسسة تحترم القوانين، أو تحترم تمثيلها الشعب الفلسطيني، وارتضت لنفسها أن تكون أداة بيد رئيسها، وحيثما دخلت المزاجية الشخصية حل الخراب.
لم يتوقف الخراب والتخريب، ورئيس المنظمة الحالي يبذل قصارى جهده لاستمرار احتكار القرار الفلسطيني واستمرار الهوان الفلسطيني لأطول فترة زمنية ممكنة، وكلما انكمشت منظمة التحرير أو احتضرت نجد من يغرس فيها حقنة الحياة ليستعملها ويعيد دفنها من جديد.