شمس نيوز/غزة
الجشع خطيئة من الخطايا المميتة، التي تجعل الانسان يتناسى الآخرة من أجل الدنيا الزائلة، كما أنه من المستحيل أن تجد جشعًا يعيش في سعادة دائمة.
في هذه القصة، رجلٌ دفعه الجشع الى استغلال مرض والده، ليقوم بتزوير أوراق وممتلكات وأموال والده لصالحه، ولم يكتفِ بذلك، بل قام بطرد أخيه الصغير من المنزل بعد وفاة أبيه، ليصبح الصغير بلا مأوى ويتحول إلى عامل نظافة.
بداية الحكاية
في عيادة الرمال حيث يرقد الحاج "أبو فؤاد" شراب، الذي بلغ من العمر نصف قرنٍ ويزيد، يسرد قصة الظلم الذي لحق برجلِ لمدة 25 عام بسبب الميراث.
يقول الحاج أبو فؤاد:" كنت أمتلك محل في شارع عمر المختار، وكان لي العديد من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في المكان، ومن ضمنهم عامل نظافة في بلدية غزة، ينظّف شارع السوق يوميًا، لا أعلم الكثير عن حياته، لكنّه شابٌ خلوق، ترى في عينيه نظرات الألم والتعب و الإرهاق، يعمل بكدٍ، ليحصل على قوته وأطفاله الثمانية، كنت وأصحاب المحلات التجارية المجاورة نقدم المساعدة المالية له.
وفي أحد الأيام اصطفّت أمام دكاني الصغير سيارة فخمة باهظة الثمن، نزل منها رجلٌ ذو مظهر جميل، أنيق الهندام، برفقته صديق لي، سلّما عليَ وجلسا أمامي، وعرّف صاحب السيارة بنفسه، وقال لي: " توفيت والدتي وأنا طفلٌ صغير، تركت المدرسة من المرحلة الابتدائية، وعملت مع والدي في التجارة حتى عمر العشرين ، وكان لي أخ صغير بعمر 15عام".
وتابع الرجل:" وكان والدي يمتلك الكثير من الأموال والممتلكات، قمت بتسجيلها باسمي عن طريق عقود البيع والشراء، وبعد فترة من الزمن توفّي والدي، وفي ثالث يوم من العزاء طردت أخي من المنزل، وقلت له: "أنت ملكاش شيكل من ورثة أبوك، وكل شي تركه أبوك من أراضي وعقارات وأموال هي ملكي وحدي"، وأنا الآن بعد ما يزيد عن 25 عام استطعت مضاعفة أموال والدي واستثمرتها في التجارة.
فسألته على الفور: "من أخوك وما المطلوب مني" ؟!
فأجاب:" أنا شقيق ذلك الشاب"، وأشار ببنانه إلى حيث يقف (عامل النظافة)، واستطرد قائلاً: "منذ خمسة شهور توفيت ابنتي الصغيرة بحادث سير، فدخلت بحالة من الاكتئاب الشديد والعصبية، وبعد فترة سمعت درسًا دينيًا في المسجد يتحدث عن العذاب الذي يلاقيه آكل مال أخوته في الميراث، وبدأت أستحضر أهوال يوم القيامة، وماذا ستكون حجتي أمام الله..!".
وواصل حديثه بالقول:" وكلما حاولت الخلود إلى النوم تبدأ الكوابيس بمطاردتي، وأرى والديّ وطفلتي يعاتبونني، وحجم الغضب الذي يجتاحهم بسبب ظلمي لأخي، أريد الآن أن يرتاح ضميري، سأقاسم أخي جميع أموال والدي وما استثمرت من أموال بحق الله وبشرعه، أعلم أنك أحد المقربين لأخي، وأريد مساعدتك بإقناعه أن يسامحني ويقبل مناصفتي للأموال".
ثلاثة أيام
وأضاف الحاج أبو فؤاد:" بعد ثلاثة أيام ذهبتُ إلى منزل رجلٍ صاحب مكانة وهيبة يُدعى "أبو محمد" واصطحبته إلى بيت عامل النظافة، دخلنا للبيت ورحبّ بنا، وبدت على وجهه ملامح الخجل والتوتر"، حتى بادرنا بالقول:" أعلم أن صاحب المنزل أرسلكم لي لتطالبوني بالإيجار الذي لم أدفعه منذ ثلاثة شهور، ووضعي المادي سيئ لا يسمح لي أن أدفعه في الوقت الحالي..".
قاطعته – والحديث لأبي فؤاد- وبدأت أسرد له ما حصل، وأن أخيه سيقدم له الأموال، اعتلت وجهه ملامح الغضب، وبدأ بالصراخ وهو يردد أنه لا يريد من أخيه صدقة أو زكاة فطر، ثم أجهش بالبكاء، و بدأ يقول: " أنا لا أريد منه شيء، ظلمني كثيرًا، لن أسامحه، قمت بتغيير اسم عائلتي حتى لا يعرفني أحد، و أعمل في البلدية وأحيانا لا أجد قوت يومي..".
ويكمل الحاج أبو فؤاد:" كان يصّر الشاب على قوله أن أخاه رجل كاذب ظلمه وكان السبب في معاناته، وعندما قلنا أنه سيحضر أخيه الى بيته ليعتذر له عن كل ذنوبه، وأنه يطلب المسامحة، ثار غضبا وطلب منا مغادرة منزله، لكننا التمسنا له العذر لما كان فيه من صدمة".
خلف الباب كانت تقف زوجة عامل النظافة، ومن موقعها حاوت تهدئته وطمأنته من جانب أخيه لعله يكون صادقاً، ونحن لا نزال في المنزل، وبعد محاولات حثيثة، هدأ الرجل وبدأ يتقبّل حديثنا وحديث زوجته، ووافق على أن يحضر أخيه إلى منزله.
اليوم الموعود
في اليوم التالي بعد صلاة المغرب، طلب "أبو فؤاد" من الأخ الأكبر أن يأتي إلى مكان عمله دون أن يستقل سيارته، و عندما جاء إلى دكانه، اصطحبه و"أبا محمد" بسيارته إلى منزل الأخ الأصغر، ليلتقي الشقيقان لأول مرة بعد 25 عام من الفراق والظلم والعذاب.
عن لحظة اللقاء يقول "أبو فؤاد": " كان في استقبالنا الأخ الأصغر وصاحب المنزل "أبو محمد"، في بادئ الأمر لم يفتح الباب لأخيه، فقد كان مترددا كثيرًا في استقباله، ثم أخذ يفتح الباب فينة ويغلقه مرة أخرى، وكان الأخ الأكبر يبكي، ونحن نتوسل للأخ الأصغر أن يفتح الباب ويستقبل أخيه، وبدأنا نستعطفه ونتوسل اليه بفتح الباب".
ويتابع:" فتح الأخ الأصغر الباب وبدأ الاثنان بالنظر لبعضهما دون أن يقترب أحدهما من الآخر، فالصغير ينظر يمينا ويسارا دون أن تلتقِ نظراته بنظرات أخيه، وكأنه لا يريد لعاطفته أن تسيطر عليه، أما الأخ الكبير فكانت عيناه تذرفان بالدموع، وعندما ركض الأكبر ليقبّل قدمي الأصغر، رفض الأصغر ذلك، وأمسك بيد أخيه واحتضنه، و بدءا بالبكاء، والجميع حولهم يبكي..
وبمجرد خروجنا من المكان- يقول أبو فؤاد- توجهنا لمنزل الأخ الأكبر واستقبلنا المحامي والابن البكر للأخ الأكبر مستقبلاً عمه الذي لم يعرفه الا حينها بحفاوة، وكان المحامي قد قسّم جميع الممتلكات والأموال بينهم و جهّز الأوراق والعقود، وتسلم كل منهما حقّه، وعندما جاء وقت مغادرة الرجل منزله البائس ذهب ليدفع ايجار الثلاث شهور لصاحب المنزل، لكنّه أبى أن يأخذ الأموال، وقال له بأنه سامحه بها.
واختتم أبو فؤاد قصته لنا قائلاً:" ثم انتقل هذا العامل وزوجته وأطفاله ليعيش في بيته الجديد الذي كان قد تركه له والده، لينتقل بذلك من حياة الفقر والبؤس الى حياة الرفاهية والنعيم".
(المصدر: صحيفة فلسطين)