مبلغ علمنا أن إعصارا سياسيا ضرب حكم العسكر في الجزائر، لا عرفت دوافعه ولا فهمت مقاصده. الشيء الوحيد المؤكد أنه وضع الجزائر على أبواب حقبة جديدة يكتنفها الغموض.
(١)
جيلنا، منذ ستينيات القرن الماضي على الأقل، كان يتداول مقولة خلاصتها إن لكل دولة جيشا باستثناء الجزائر، لأن جيشها الوحيد الذي له دولة، ورغم أن أشياء كثيرة تغيرت في العالم العربي وفي الجزائر خلال نصف القرن الأخير، فإن قبضة الجيش في الجزائر ظلت من الثوابت التي لم تتغير. إذ ظل صاحب الكلمة الفصل في السياسة والاقتصاد والإدارة. وبات مستقرا ومتعارفا عليه أنه هو الذي يأتي برؤساء الجمهورية ويعزلهم، وهو الذي يرجح كفة المرشح لرئاسة الحكومة ويحرك الأغلبية في البرلمان. وظل جنرالاته يحركون المشهد السياسي وهم في مناصبهم، والذين يحالون إلى التقاعد منهم سرعان ما ينتقلون إلى قطاع الأعمال فيصبحون ضمن كبار المستوردين والمقاولين وملاك الأراضي والعقارات.
أحد أهم هؤلاء الجنرالات كان "سي توفيق" الذي رأس جهاز المخابرات طوال الخمس وعشرين سنة الأخيرة، وهو رجل غامض بلغ من العمر ٧٦ عاما، وكان قد تدرب في بداياته على أيدي المخابرات السوفياتية، وظل طوال الوقت شبحا صامتا له قوته ورهبته، وله نفوذه الخطير، حتى وصف بأنه صانع الرؤساء، حيث عاصر اختيار ستة رؤساء للجمهورية و١٢ رئيسا للحكومة. ومع ذلك لم يتحدث إلى وسائل الإعلام ولم تظهر له صور، حتى اعتبر المسؤول الوحيد الذي لا يعرف الجزائريون شكله، حيث لم يكن مسموحا بتصويره في أي مناسبة، علما بأنه كان نادرا ما يظهر في المناسبات العامة.
ويتحدث البعض عن صورتين ظهرتا له أخيرا، واحدة له في شبابه، والثانية مشكوك فيها كانت له وهو يرتدي ثيابا عسكرية. الأهم من ذلك أن سي توفيق، اسمه الحقيقي محمد لمين مدين، وتوفيق هو اسمه الحركي حين التحق بجيش التحرير. جمع كل أجهزة المخابرات تحت رئاسته فيما سميت بدائرة الاستعلام والأمن، ويذكر أنه حين حققت الجبهة الإسلامية للإنقاذ انتصارها الكبير في انتخابات عام 1991، فإن سي توفيق كان في مقدمة الجنرالات الذين انقلبوا على التجربة الديمقراطية، ولأنه رأس المخابرات في عام ١٩٩٠ فقد كان له إسهامه في إجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة. وهو ما أطلق شرارة العنف الضاري الذي أغرق الجزائر في بحر من الدماء طوال عقد من الزمن، ولا يزال يوصف إلى الآن بأنه عشرية سوداء، إذ قتل خلالها نحو ٣٠٠ ألف جزائري وشهدت البلاد أثناءها العديد من المذابح والانتهاكات الوحشية التي شاركت فيها كل الأطراف.
في السنوات الأخيرة اشتهر جهاز المخابرات بتحقيقاته في قضايا الفساد خصوصا في شركة النفط العمومية، ووصل تغلغل جهاز المخابرات إلى كل مؤسسات الدولة والأحزاب، بحجة حماية البلاد من الإرهاب والفساد. حتى بدا وكأنه الحاكم الفعلي للجزائر وصاحب الكلمة الأخيرة فيما يخص الملفات الأساسية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
(٢)
يوم الأحد ١٣ سبتمبر/أيلول الحالي كانت عناوين الصحف الصباحية الجزائرية كالتالي: الرئيس يطيح بصانع الرؤساء، الجنرال توفيق.. نهاية الأسطورة، نهاية حرب الاستنزاف بين المخابرات والرئاسة، الجزائر على أبواب تغيير جذري، هل بدأ مشروع تمدين السلطة في الجزائر (نقلها إلى المدنيين).. إلخ. أما العبارة التي كانت قاسما مشتركا في مختلف الأصداء فهي التي وصفت الحدث المدوي الذي فاجأ الجزائريين بأنه إعصار سياسي. ذلك أنه خلال ربع القرن الأخير وإزاء النفوذ الهائل والغموض الكبير الذي أحاط بالجنرال الشبح، استقر في يقين الطبقة السياسية أن سي توفيق هو الطرف الثابت في السياسة الجزائرية، أما الآخرون بمن فيهم الرؤساء فهم عابرون.
لم تكن تلك هي المفاجأة الوحيدة، لأن ما أدهش الجزائريين أيضا أن القرار صدر عن رئيس مصاب بجلطة دماغية منذ أكثر من سنتين، افقدته القدرة على التحكم في حواسه، كما أفقدته الوعي أغلب ساعات اليوم. وبسبب تلك الجلطة التي أصابته في شهر أبريل/نيسان ٢٠١٣ فإنه ظل نحو ثلاثة أشهر تحت العلاج في فرنسا، وعاد مقعدا ويتكلم بصعوبة بالغة، حتى إنه لم يخاطب الجزائريين منذ أكثر من ثلاث سنوات، الأمر الذي بدا محيرا ومثيرا للشكوك والهواجس، ذلك أن الرئيس وهو في أضعف حالاته أصدر قراره بعزل الجنرال وهو في أوج قوته. وفي حين تصوّر كثيرون أن الرئيس (٧٨ عاما) قد لا يكمل ولايته الرابعة التي بدأها عام ٢٠١٤ بسبب ظروفه الصحية (مدة الولاية خمس سنوات)، فإن الجميع فوجئوا بأن الرجل ماضٍ في ترتيب مستقبل الرئاسة، وأنه قرر أن يباشر العملية بنفسه بحيث لا يتركها لدولة الأمن والعسكر التي كان الجنرال توفيق على رأسها.
حين حدث ذلك تذكر البعض أن بوتفليقة قال لإحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية عشية انطلاق ولايته الأولى عام ١٩٩٩ "قولوا للجنرالات الجزائريين أن يوجهوا إلي أي اتهام لو كان بمقدورهم ذلك". تذكروا أيضا أنه قال أمام الصحفيين غداة انتخابه "لن أكون أبدا ثلاثة أرباع رئيس". وهو ما فهم منه أن الرجل كان عازما منذ اليوم الأول لانتخابه أن يكون السلطة الأولى في الجزائر، وأنه لن يخضع لسلطة دولة العسكر التي كانت صاحبة الكلمة الأولى آنذاك.
رغم أن الإعصار هدأ بصورة نسبية خلال الأسبوعين الماضيين، فإن سيل الأسئلة لا يزال يتدفق، بعضها يتحرى الخلفيات والبعض الآخر يقلب الاحتمالات ويستفهم عن المآلات. لكن القدر المتفق عليه أن الإعصار الذي انطلق لم يؤد فقط إلى التخلص من رأس دولة العسكر ورمزها، لكنه وجه ضربة في الصميم إلى مجمل مشروع تلك الدولة القابضة على السلطة منذ الاستقلال في ستينيات القرن الماضي.
(٣)
من القصص ذات الدلالة التي تستدعى الآن أن وزير الداخلية الفرنسي فى عهد الرئيس ساركوزي -كلود غيان- كان قد زار الجزائر وطلب مقابلة الجنرال توفيق دون أن يمر بالرئاسة، وهو ما أغضب بوتفليقة فتدخل بالرفض كما رفض مقابلة الوزير الفرنسي. وبعد أشهر قليلة قام الجنرال بزيارة سرية للإليزيه حيث التقى ساركوزي، الذي تيقن أن الجنرال هو الرئيس الفعلي للجزائر.
في الخلفية أيضا أن بوتفليقة أخذ على الجنرال توفيق أنه لم يستخدم أدواته وأجهزته في وضع حد للشائعات والأقاويل التي راجت في الجزائر أثناء علاج الرئيس بفرنسا ودارت حول انسحابه من السلطة وعدم ترشحه لانتخابات عام ٢٠١٤. لذلك فإنه عاد من رحلته بمشاعر متغيرة إزاء رئيس جهاز المخابرات. وقيل في هذا الصدد إن ذلك التغير ساهم فيه شقيق الرئيس ونائبه غير الرسمي السعيد بوتفليقة الذي كان يدافع عن أخيه الأكبر ويشير إليه دائما بأنه "سيدي حبيبي". كما ساهم فيه رئيس أركان الجيش قايد صالح الذي كان يطمح أن يختاره بوتفليقة خليفة له.
يذكرون أيضا أن الرئيس بوتفليقة الذي بدأ متمردا على حكم العسكر، لجأ إلى تفكيك جهاز المخابرات ومن ثم إضعاف مملكة الجنرال توفيق. فصَّل في ذلك تقرير من الجزائر نشرته صحيفة الشرق الأوسط (في ٢٣/٩). أشار إلى أن أول وأخطر خطوة اتخذها الرئيس في هذا الصدد تمثلت في حرمان الجهاز من الشرطة القضائية التي كانت العصا التي استخدمها الجنرال توفيق في مباشرة تحقيقات قضايا الفساد التي تورط فيها مسؤولون بارزون في الدولة، وطالت تلك التحقيقات شركة "سوناطراك" للنفط والغاز، وأفضت إلى اتهام وزير الطاقة بتلقي العمولات كما ذكر اسم السعيد شقيق الرئيس الأصغر في القضية، وهو ما أثار غضب الرئيس فنحى وزير العدل في أول تعديل حكومي، كما أبعد الضباط الذين قاموا بالتحقيق فيها.
الخطوة التالية التي اتخذها الرئيس تمثلت في إلغاء وحدة الاتصال والبث التي كانت عين الجنرال توفيق على مؤسسات الإعلام، كما أنه جرد المخابرات من الإشراف على الأمن العسكري والرئاسي ومن التنصت على مكالمات الوزراء وكبار المسؤولين، وحل مجموعة التدخل الخاصة التي كانت القوة الضاربة للمخابرات أيام الصراع مع الإرهاب.. إلى غير ذلك من الخطوات التي أدت إلى تفكيك مملكة الجنرال توفيق وتجريده من عناصر القوة التي جمعها وإحالة عشرات الضباط الموالين له إلى التقاعد، وقد بلغ ذلك الإضعاف ذروته حين ألقى القبض في شهر أغسطس/آب الماضي على أحد أهم مساعدي الجنرال توفيق، وهو رئيس قسم محاربة الإرهاب في المخابرات الجنرال عبد القادر آيت المعروف باسم الجنرال حسان، الذي وجهت إليه تهم غامضة. وهو ما دفع المراقبين إلى توقع الخطوة التالية المتمثلة في إزاحة الجنرال توفيق والإجهاز على مملكته التي تقوضت أركانها.
(٤)
ما جرى كان "انقلابا أبيض"، في رأي الباحث الجزائري مدير مركز أبحاث العالم العربي في جنيف الدكتور حسني العبيدي. وهو يثير أكثر من سؤال عن مرحلة ما بعد بوتفليقة، الذي نجح في ترتيب كل الأوضاع المحيطة وضمان سيطرته على مختلف سلطات الدولة وإزالة كل العوائق من طريقه، وكانت المؤسسة العسكرية والأمنية أخطرها. أحد أهم تلك الأسئلة تتعلق بما إذا كان الرئيس سيقرر الاستمرار في الحكم متحديا المرض والشكوك حول قدرته على تسيير دفة الحكم، أم أنه سيختار من يخلفه ثم يدعو إلى انتخابات مبكرة ليضمن ترتيب وضع السلطة بعد رحيله. في هذا الصدد يرشح تقرير الشرق الأوسط ثلاثة أشخاص لخلافته، أحدهم رئيس الوزراء الحالي عبد المالك السلال، الثاني وزير الدولة ومدير الديوان بالرئاسة أحمد أويحيى، والثالث شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة.
ثمة سؤال آخر مثار هو: هل يمكن أن تكون فرنسا بعيدة عما جرى أو الذي سيجرى؟ البعض يرى أن صيغة السؤال غير دقيقة، لأن الأصوب أن ينصب التساؤل على حجم الدور الفرنسي وليس عن مبدأ وجوده، لأن فرنسا لم تغب عن المشهد وهي موجودة طوال الوقت، وعلاقاتها متينة مع مؤسسة الرئاسة والجيش، إلا أن حجم الحضور ليس معلوما في الوقت الراهن نظرا لحساسية الموضوع.
السؤال الثالث المهم هو: هل يمهد تفكيك مؤسسة العسكر والأمن لانتقال الجزائر إلى مجتمع مدني وديمقراطي؟ المؤكد أن الصراع أو التجاذب بين الرئاسة والعسكر قد حسم. أما هل يؤدي ذلك إلى الانتقال إلى نظام ديمقراطي؟ فمن الصعب التكهن بذلك الآن، لأن ثمة انسدادا سياسيا يحتاج إلى وقت طويل لعلاجه. إلا أنه من المهم ملاحظة أن التساؤل عن الانتقال الديمقراطي لم يكن واردا في ظل هيمنة مؤسسة العسكر والأمن، في حين أن التغيير الذي حدث أعطى الأمل في إمكانية تحقيق ذلك الأمل. وفي كل الأحوال فإن خطوات الرئيس بوتفليقة التالية ستوفر الإجابة على السؤال. علما بأن مرحلة حكم العسكر أحدثت تشوهات في الحياة السياسية الجزائرية يصعب البراء منها. وقد أشار تقرير الشرق الأوسط إلى أن تلك التشوهات لها بصماتها على كل شيء في البلاد بدءا من العقيدة الأمنية وانتهاء بطريقة إدارة شؤون الدولة، ومرورا باختيار الرجال وطبيعة الولاء، وهو ما يحتاج إلى سنوات ليست قصيرة لعلاجه.