يبدو أن حسابات روسيا فيما يتعلق بالشأن السوري أكثر علمية ودقة من الحسابات الغربية لأنها متعقلة وليست منجرفة. ويقدر الروس أن الظروف أصبحت الآن سانحة لتصدر الموقف بالشأن السوري.
لم يتوقف الدعم الروسي للنظام السوري منذ بداية الأحداث في سوريا، ولم تتوقف روسيا عن تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي للنظام، واستعملت حق النقض في مجلس الأمن دفاعا عنه. ومن الصعب أن نتصور صمود النظام طيلة هذه الفترة بدون الدعم الروسي والإيراني، كما من الصعب أن نتخيل صمود المعارضة والمسلحين لولا الدعم العربي والتركي والغربي. لكن روسيا كانت حذرة في لهجتها، وبقيت تمارس دعمها بهدوء وبدون ضجيج وتهديد، وأثبتت حضورها القوي على الساحة عسكريا ودبلوماسيا.
روسيا تصعد الآن من إجراءاتها ونشاطاتها في دعم النظام السوري تحت مظلة الحرب على الإرهاب، وهي بذلك تنفث الحياة في الدبلوماسية الغربية التي تفيق تدريجيا على فشلها في سوريا لتبدأ التفكير من جديد في حل يعيد الهدوء إلى سوريا وربما إلى العراق أيضا.
ويبدو أن حسابات روسيا فيما يتعلق بالشأن السوري أكثر علمية ودقة من الحسابات الغربية لأنها متعقلة وليست منجرفة في تيار من العداوات والأحقاد. حسابات روسيا لم تكن عشوائية أو ارتجالية، ولم تكن مندفعة وراء نزوات عربية وأحقاد عربية داخلية، وبقيت متميزة بالروية إلى أن قدر الروس أن الظروف أصبحت سانحة لتصدر الموقف بالشأن السوري، وهم بالفعل يتصدرون الأمور الآن واضطروا الدول الغربية للهاث خلفهم.
هناك عوامل ساعدت الروس على الإمساك بالفرصة لإثبات حضورهم القوي ليس على الساحة السورية فقط وإنما على المنطقة العربية الإسلامية وعلى الساحة الدولية أيضا. من هذه العوامل ما يلي:
أولا: فشل الحرب على الإرهاب. لم تستطع الدول الغربية أوروبية وأميركية تحقيق النصر على الإرهاب منذ غزو أفغانستان. وعلى العكس انتشر الإرهاب في كل مكان في العالم، وتكاثر بصورة سرطانية بحيث لم تعد هناك دولة لا تحسب حسابا لعمليات إرهابية محتملة على أراضيها، وأصبح هاجس الإرهاب يقض مضاجع الشعوب والأنظمة السياسية الحاكمة. لقد حصدت الدول الغربية نتائج سلبية مزعجة نتيجة حربها على الإرهاب، وأصبحت بعد كل هذه السنوات من ملاحقة الإرهابيين أقل أمنا وشعورا بالطمأنينة. وفي هذا ما يجعل الجدلية الروسية حيال الإرهاب أكثر قوة من الناحية المنطقية، وأكثر قبولا على الساحة الدولية.
لقد ذكرت روسيا أكثر من مرة أن الإرهاب ناجم عن الشعور بالظلم والاضطهاد وعن استغلال الدول الغربية للشعوب والدول، وإقامة العدل بين الشعوب يشكل العلاج الأفضل للحد من الإرهاب والقضاء عليه.
وكبديل للرؤية الغربية ترفع روسيا الآن شعار محاربة الإرهاب ولكن ليس بالتجييش الخارجي، وإنما بتقوية الجيوش المحلية التي تحارب الإرهاب لأن هذه الجيوش هي الأقدر من الجيوش الأجنبية على معالجة الشؤون الداخلية. أي أنها تفضل دعم الجيشين السوري والعراقي للتغلب على التنظيمات الإرهابية في البلدين.
ثانيا: فشل التحالف الغربي في حربه على داعش. رغم أن هذا التحالف بقيادة الولايات المتحدة يشن حربا جوية على داعش منذ أكثر من عام إلا أنه لم يحقق نتائج ملموسة، وبقيت داعش قوية على الأرض وقادرة على تحقيق إنجازات عسكرية بين الحين والآخر في العراق وسوريا.
وهنا يشكك الكثيرون بجدية الولايات المتحدة وحلفائها في الحرب، وربما يرغبون ببقاء داعش قوية لكي يبرروا إجراءات عسكرية مستقبلية مثل التدخل العسكري البري والقضاء على هذا النظام السياسي أو ذاك. وإذا كانت روسيا تقول إنها تعمل على محاربة الإرهاب، فإن فشل الغرب وحلفائهم من العرب والأوروبيين لا يستطيعون بسبب هذا الفشل الوقوف في وجه الجدلية الروسية.
ثالثا: روسيا ليست معنية بحرب باردة جديدة مع الولايات المتحدة، وهي تدرك أن الولايات المتحدة ليست معنية بهذا الأمر أيضا خاصة تحت الظروف الحالية. أميركا تعاني من مشاكل اقتصادية ومالية جمة، وهي تعاني أيضا سياسيا ودبلوماسيا لأن الساحة الدولية قد ضاقت عليها بعض الشيء.
ولهذا تفضل روسيا اللعب بهدوء ودون زمجرة أو فرد عضلات بصورة خارجة عن المألوف حتى لا تكون مستفزة للدول الغربية. الدول الغربية عموما ليست معنية بتأجيج التنافس أو الصراع مع روسيا حتى لا تتكبد المزيد من الخسائر أو على الأقل تقع تحت طائلة اهتمامات ثانوية تبعدها عن الهموم الوطنية الخاصة بشعوبها.
رابعا: انشغال الأوروبيين بهمّي الإرهاب واللاجئين. أوروبا منشغلة جدا في هذه الفترة بأمري الإرهاب الذي بات يهددها من الداخل وأمر اللاجئين الذين يتدفقون إليها. يشعر الأوروبيون بخطر الإرهاب أكثر من الأميركيين بسبب القرب الجغرافي من المنطقة العربية، وهم الذين يتحملون الآن ثقل اللاجئين العرب الذين ينتقلون إليها بعشرات الآلاف.
الأوروبيون معنيون بنسيجهم الاجتماعي الذي من الممكن أن يتأثر بالثقافات الأخرى وبالمندسين في صفوف اللاجئين. ولهذا ليس لدى الأوروبيين القابلية السابقة للتساوق مع سياسات الولايات المتحدة والتي تكون أحيانا بلا هدف.
خامسا: لم يبلور الأوروبيون والأميركيون رؤية واضحة لسوريا يمكن تنفيذها على الأرض. فهم منذ البداية كانوا مترددين في إجراءاتهم لإسقاط النظام، وفي دعمهم العسكري للجماعات المسلحة والإرهابية.
فالغرب لا يريد بقاء بشار الأسد، لكنه لا يريد إقامة حكم إسلامي في سوريا، ولم يستطع إيجاد بديل للنظام وللمعارضة فاستمر في تخبطه. على العكس، كانت الرؤية الروسية واضحة تماما وهي منسجمة مع ما يسمى بالقانون الدولي.
تمسك الروس منذ البداية بحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار مسؤوليها، وأن الرئيس بشار الأسد يبقى بإرادة شعبه ويذهب بذات الإرادة. وقف الروس في وجه دعوات إسقاط النظام، وبقيت بأيديهم حجة قوية تنسجم مع قواعد وأسس القبول الدولية، وهذا ما جعل الجدلية الروسية أقوى بكثير من حجج الدول الغربية.
سادسا: إدراك روسيا أن أميركا ليست معنية بحرب تشارك فيها في سوريا. أميركا فشلت في حروبها عموما. فشلت في أفغانستان والعراق، وفي حربها على الإرهاب، وفي حربها الجوية على داعش، والشعب الأميركي لم تعد لديه القابلية لتأييد حروب جديدة في المنطقة خاصة في ظل أزمة مالية لم يختف شبحها بعد.
دفع الأميركيون أثمانا باهظة في النفوس والأموال في حروب لا طائل منها، وخرجوا غير منتصرين ولم يحققوا أهدافهم المعلنة، ولهذا ليس من اليسير على رئيس أميركي أن يبرر أمام شعبه حربا جديدة في سوريا. الروس يدركون هذه المسألة، ولديهم تقدير مسبق بأن زيادة حجم دعمهم العسكري للنظام السوري لن يجر الولايات المتحدة إلى مواجهة مع روسيا لا في اللاذقية ولا في غيرها. يشعر الروس بأن أميركا مكبلة إلى حد كبير بفشلها المتكرر وبمزاج شعبها الآن الرافض للحروب.
سابعا: تساوقت أميركا مع دول عربية تلعب أدوارا عسكرية وأمنية وتسليحية ومالية هامة في سوريا. عدد من الدول الخليجية بالتحديد ما زالت تساهم في تأجيج الحرب الداخلية في سوريا، وهي دول تدافع عن إقامة ديمقراطية في سوريا في حين تفتقد هي إلى الديمقراطية، وتقيم أنظمة سياسية قبلية تنتمي إلى عصور الظلام.
تساوق أميركا مع الدول العربية أساء للجدلية الأميركية على الساحة الدولية، لأن الذي يدافع عن القيم الديمقراطية يجب أن يدافع عنها في كل مكان وليس في مكان دون آخر. ولهذا يطرح السؤال باستمرار: هل تريد أميركا إقامة ديمقراطية فعلا أم أنها تستعمل المبادئ الديمقراطية لتحقيق مآرب خاصة وليس اهتماما بالشعوب؟ من مجمل السياسات الأميركية في المنطقة العربية لم تكن أميركا بعيدة عن دعم الأنظمة الاستبدادية العربية، وسبق لها أن توجهت إلى سوريا للمشاركة في الحرب ضد صدام في الكويت. ما الذي يجعل الاستبداد جيدا حينا وسيئا حينا آخر؟ غياب المبادئ في إقامة العلاقات الدولية.
والنظام السوري لم يتمكن من حسم المعركة في سوريا، وما زالت الحرب مستعرة ويدفع ثمنها الشعب السوري. كل الدعم الروسي والإيراني عبر السنوات لم يمكن النظام من تحقيق نصر، وبقيت سوريا تعاني من الدمار المستمر. تحدث الروس بداية عن ضرورة الحوار بين السوريين على اعتبار أنه المخرج الوحيد لوقف الحرب وسفك الدماء. لم يكن العرب وأهل الغرب مقتنعين بهذا الجدل وفضلوا التمسك برحيل الأسد كشرط مسبق للبدء في حوار. المواقف الآن بدأت تتغير بسبب تمدد الإرهاب وتدفق اللاجئين، وأخذت الدول الغربية ومعها تركيا تعيد النظر بمواقفها التقليدية، وأصبحنا نسمع تصريحات مغايرة لما كنا نسمعه في السابق.
المهم في الأمر أن السياسة الروسية استغلت تطور الأحداث والتي منها دعم بعض أهل الغرب لبعض التنظيمات الإرهابية ليضغطوا باتجاه البحث عن حل للعقدة السورية، وأخذوا يبررون دعمهم المتزايد للأسد بناء على سياسة تحجيم الإرهاب. وطبعا الروس معنيون بالقضاء على الإرهاب كما الأوروبيين بسبب وجود نسبة مهمة من المسلمين في روسيا، ويمكن أن يتأثروا بالفكر الإرهابي ويصنعوا المتاعب لروسيا.
روسيا تكثف جهودها العسكرية في سوريا لتدفع الدول الغربية ومن آزرها من العرب إلى تشجيع الحوار الداخلي السوري. تأمل روسيا أن تقود سياستها في سوريا إلى الضغط على المسلحين في سوريا لقبول الحوار مع وجود الأسد على الطاولة، وإلى قطع المساعدات المالية والعسكرية لداعش في كل من سوريا والعراق.
إن منطق القوة تاريخيا أقوى من قوة المنطق، ومن المحتمل أن تغير القوة الروسية منطق الأطراف المتصارعة في سوريا والقوى الخارجية التي تلعب في الساحة السورية. فإذا كان الغرب ليس معنيا بالمواجهة، وروسيا ليست معنية بدفع الأمور إلى الحافة، فإن الاحتمال كبير بأن تجنح مختلف الأطراف إلى حوار داخلي سوري يفضي إلى نتيجة يقبل بها الجميع.
ولهذا من الوارد أن تنجز القوة ما عجزت التوازنات السياسية والإقليمية عن تحقيقه وتعيد الاستقرار إلى القطر العربي السوري. القوة ضرورية أحيانا من أجل تحكيم العقول والبحث في حل المشاكل بطرق علمية بعيدة عن التعصب وإقصاء الغير تماما.