قائمة الموقع

خبر الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري

2014-05-24T08:57:33+03:00

المؤلف: الدكتور طه عبد الرحمن

عرض: باسم شعبان

 

  

كيف تجيب الأمة عن أسئلة هذا الزمان ؟

قد يبعث هذا السؤال على استغراب البعض لعدة أسباب, أحدها أن مفهوم الأمة المسلمة يبدو إلى الوهم أقرب منه إلى الحقيقة متى نظرنا إلى حال المسلمين, و الثاني أن الأمة عاجزة عن أداء المسؤولية عن هذا الزمان و حمل أمانته بالرغم أنها مسئولة عنه و مؤتمنة عليه بموجب نسبتها إلى الدين الخاتم, و الثالث أنها تتعرض لعمليتي سلب منسق, إحداهما نهب خيراتها المادية, و الأخرى محو قيمها الروحية بنشر الفساد بين أبنائها حتى وصلوا إلى حرمان هذه الأمة من حقها في أن تختص بأصول إعتقادية من لدن أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء  على الحقوق و الحريات في العالم ,و حسبنا شاهدا على ذلك ما حملوا عليه ولاة أمر هذه الأمة من تغيير برامجها التعليمية و التربوي بما يخدم مصالحهم في الهيمنة, حتى استدرجوهم إلى أن يحذفوا منها آيات قرآنية و أحاديث نبوية لا تعجبهم, و في هذا منتهى الظلم و الفساد.

ويخف هذا الاستغراب إذا نظرنا للأمة على أنها واجب ينبغي القيام به في ظرف الواقع المحقق, و على أنها مجموعة قيم تسعى إلى أن تساهم في توجيه الأحداث المشهورة, و هذه القيم تتطلع إلى التنبيه على كيفية تغيير هذا الواقع على قدر الطاقة, و لهذا فإن المطلوب في المقاربة الفكرية ليس الانحصار في قضايا الواقع و إنما الاشتغال على كل قضايا العقل, سواء تعلقت بما هو كائن أو بما ينبغي أن يكون, و بالتالي حق لنا أن نقول أن للأمة الإسلامية جوابها الخاص عن أسئلة زمانها.

ولذا استقر عزمنا على إبراز الروح الخاصة التي تميز الجواب الإسلامي و التي تؤمن للأمة المسلمة حق الاختلاف في فكرها عن الأمم الأخرى, و لو كانت أشد منها بأسا, و حقيقة هذه الروح أنها جملة خصائص تؤسس لحق الاختلاف, و لذلك لزم أن يظهر خصوم الجواب الإسلامي بمظهر الخصوم الألداء لمبدأ الاختلاف.

 

خصائص الجواب الإسلامي المؤسس لحق الاختلاف

تبنى هذه الخصائص على مبدأين, مبدأ اختلاف الآيات,"سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" 53 سورة فصلت, و الثاني مبدأ اختلاف الناس و يمثله خير تمثيل اختلاف الأمم فتدبر الآيات الكريمة " و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين"22 الروم, " و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين  إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين"19 هود, " لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما  آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جمعيا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"48 المائدة.

 

أولا: مبدأ اختلاف الآيات

هناك فرق بين " الظاهرة"و "الآية", ذلك أن الظاهرة هي كل ما يظهر للعيان محددا في الزمان و المكان و حاملا لأوصاف تقو بينها علاقات موضوعية مثل "نول المطر", و لما كان كتاب الأمة المسلمة- القرآن- يسمي "عالم الظواهر" باسم"عالم الملك" جاز لنا أن نسمي النظر إلى  الأشياء بوصفها ظواهر باسم "النظر الملكي", فتدبر الآيات الكريمة الكثيرة التي ورد فيها لفظ الملك نحو الآية"و لله ملك السموات و الأرض و ما بيننا يخلق ما يشاء"17 المائدة, و الآية "له ملك السموات و الأرض يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير" 2 الحديد, و الآية  هي الظاهرة منظورا إليها من جهة المعنى الذي يزدوج بأوصافها الخارجية دال على الحكمة من وجودها, و هذا المعنى هو عبارة عن قيمة ينبغي لمن يدركها العمل بمقتضاها, كما هو معنى "الحياة" الذي تشير إليه ظاهرة "نزول المطر", و قد يقارن الظاهرة أكثر من معنى بحيث تصير الظاهرة الواحدة عبارة عن آيات متعددة كما في نزول المطر الذي يعني الحياة و البعث و الرحمة و النعمة و هي أربع آيات مختلفة, و لما كان كتاب الأمة المسلمة – القرآن- يسمي "عالم الآيات"باسم "عالم الملكوت" جاز لنا أن نسمي النظر إلى الأشياء بوصفها آيات باسم "النظر الملكوتي", فتدبر الآية الكريمة".... و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين"75 الأنعام, و الآية الكريمة" أو لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض و ما خلق الله من شيء و أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون"185 الأعراف.

والأصل في نظر المسلم إلى الأشياء أنها تأمل في آيات أي "نظرة ملكوتية", و لا يصار إلى عدها ملاحظة لظواهر أي "نظرة ملكية" إلا بدليل, كما إذا باشر الكشف عن قوانينها السببية و لذلك فإن للمسلم نظرين اثنين إلى الأشياء لا ينفك يزاوج بينهما.

1- نظر أصلي يتدبر به الأشياء هو النظر الملكوتي الذي يوصله إلى الإيمان.

2- نظر فرعي يدَّبر به الأشياء و هو النظر الملكي الذي يوصله إلى العلم.

و لا نزاع في أن أسمى المعاني أو القيم التي يمكن أن تدل عليها الظواهر في كليتها جاعلة منها آيات لا متناهية هي بالذات "الألوهية" و هي القيمة التي تنهض بحاجة الإنسان إلى تعليل وجود الأشياء بدءا من وجود ذاته, و المسلم إنما هو هذا الإنسان الذي يجزم بوجود الألوهية ذلك أن نظره الملكوتي لا ينفك يطلبها في كل شيء يعرض له أو يحيط به, مهما دق شأنه أو جل, و هذا يجعله يعتقد على وجه اليقين أن لهذه الآيات إلها أوجدها و أمدها, و من هنا يلزم أن النظر الملكوتي و هو النظر في مختلف الآيات للوقوف على قيمها هو الأصل في إيمان المسلم, فإيمان المسلم إيمان ملكوتي بحق.

 

ثانيا: مبدأ اختلاف الناس

هناك فرق بين"المجتمع" و "الأمة", ذلك أن المجتمع هو مجموعة أفراد يسلكون سبيل الاشتراك في سد الحاجات و أداء الخدمات, و لما كان كتاب الأمة المسلمة- القرآن- يطلق على الانتظام في أعمال جماعية, خيرا كانت أو شرا, اسم التعاون, جاعلا التعاون بين المجتمعات من جنس تعاون الأفراد المختلفين أو بين المجتمعات المختلفة باسم"العمل التعاوني", تدبر الآية الكريمة"....و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله..."2 المائدة, أما الأمة فهي المجتمع منظور إليه من جهة القيم التي يدعو إليها و التي تؤهله لأن يبلغها إلى الأمم الأخرى, سعيا وراء الارتقاء بالإنسان, و لما كان  القرآن يطلق على "العمل بقيم الخير" اسم الإتيان بالمعروف جاعلا العمل بهذه القيم بين الأمم المختلفة من جنس العمل بين الأشخاص داخل الأمة الواحدة, جاز أن نسمي التعامل بين الأشخاص المختلفين و بين الأمم المختلفة  على مقتضى قيم الخير باسم" العمل التعارفي", إذ حقيقة التعارف هو أنه تعاون على المعروف و ترك التعاون على المنكر,تدبر الآية الكريمة التالية"إن إبراهيم كان أمة قانتا لله و لم يك من المشركين"120 النمل و الآية"و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون"159 الأعراف, فالأمة قد يكون شخصا واحدا أو أمة أو عدة أمم داخل المجتمع الواحد, و تدبر الآيات الكريمة الكثيرة التي نصت على المعروف" و لتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون"104 آل عمران

و تدبر الآية الكريمة"يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون في الخيرات و أولئك من الصالحين"114 آل عمران, و ليس تعامل المسلم مع أخيه مجرد تحصيل خدمات منه أو توصيلها إليه, و إنما جلب صلاح إليه أو استجلابه مننه أو دفع فساد عنه أو استدفاعه به, و ذلك لأن التعامل بين المسلمين يبتغي الارتقاء إلى رتبة الأمة, و هذه الرتبة لا تدرك إلا بالعمل التعارفي, أي بتعارف الأشخاص داخل الأمة على المعروف و هو عبارة عن القيم التي تمثلها مكارم الأخلاق, تدبر الآية الكريمة"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"13 الحجرات.

و المسلم على الخصوص لا ينفك يتغلغل في العمل التعارفي لأن يمده بالأخلاق التي تجعله قادرا على التعامل مع مختلف الأمم التي يتكون منها العالم, و من هنا يلزم أن العمل التعارفي و هو التعامل مع مختلف الأشخاص و الأمم على مقتضى المعروف هو الأصل في تخلق المسلم, فتخلق المسلم تخلق تعارفي بحق, و المقصود بالتخلق هو عملية اكتساب.

فيوجد عندنا الآن نظران , نظر ملكي و نظر ملكوتي وهو الأصل, و عملان عمل تعاوني و عمل تعارفي بحيث يتأسس العمل التعاوني على العمل التعارفي, و متى سلمنا بأن العلاقة بين النظرين و العملين هي علاقة تأسيس صريح لزم أنها تتصف بصفتين أساسيتين: هما التسديد و التكميل.

أ‌-  التسديد يقصد به أن يتولى الطرف المؤسس بكسر السين تقويم الاعوجاج لدى الطرف المؤسس بفتح السين, و قد ظهر أن النظر الملكي  لا يتعدى طور الظواهر و هو بحاجة إلى النظر الملكوتي لكي يوجهه إلى الأغراض النافعة,و كذلك العمل التعاوني يمكن أن يتبع مسالك لا ترقى بسلوك الإنسان و إنما تنحط به كما يجوز أن تغريه مكاسبه بقلب المعيار الأخلاقي و حينئذ يكون واجب العمل التعارفي أن يرشده إلى المسالك التي ترتفع بسلوك الإنسان, و أن يوجهه إلى الضوابط التي تفصل بين المعروف و المنكر.

ب‌-  والتكميل يقضي بأن يتولى الطرف المؤسس بكسر السين سد النقص  الذي يقع فيه الطرف المؤسس بفتح السين في أي رتبة من رتبه و في أي شعبة من شعبه, فمهما ارتقى النظر الملكي في الكشف عن قوانين الظواهر و الأحداث فإنه لا يستطيع أبدا أن يخرج منها إلى أفق المعايير المثلى التي تضبط هذه القوانين, حتى لا تفضي إلى الإضرار بعقل الإنسان, و هنا ليس للنظر الملكي بد من أن يستعين بالنظر الملكوتي لكي يزوده بهذه المعايير العليا و مكملا نقصه, إذ تؤخذ هذه المعايير من القيم الروحية التي اختص بها النظر الملكوتي, و كذلك الأمر بالنسبة للعمل التعاوني  فمهما اجتهد فإنه لا يستطيع أن يهتدي بنفسه إلى المعايير المثلى التي تضبط تلبية الرغبات و الحاجات و لذلك لا بد من أن يستعين بالعمل التعارفي حتى يزوده بالمعايير العليا مكملا نقصه, إذ تؤخذ هذه المعايير من القيم الخلقية التي اختص بها العمل التعارفي.

مما تقدم نجد أن روح الجواب الإسلامي عن أسئلة هذا الزمان تتجلى في حقيقتين اثنتين: هما الإيمان و يتوصل إليه بالنظر في مختلف الآيات, أي بالنظر الملكوتي بوصفه مؤسسا للنظر الملكي, و الثانية التخلق و يتوصل إليه بالتفاعل بين مختلف الأشخاص و الأمم, أي بالعمل التعارفي بوصفه مؤسسا للعمل التعاوني.

و هاتان الحقيقتان( الإيمان و التخلق) تكفيان لتحديد خصوصية الجواب الإسلامي, لأن الجواب الإسلامي سيختلف بالطبع عن باقي الإجابات عن أسئلة هذا الزمان, و من خصوصيات الجواب الإسلامي:

أ- يختص الجواب الإسلامي بكونه أصلا جوابا اختلافيا, لأن الأصل في نظر المسلم أن يكون نظرا ملكوتيا, و الأصل في عمله أن يكون عملا تعارفيا, و النظر  الملكوتي يجعله ينظر في آيات لا يتناهى اختلافها, تدبر الآيات الكريمة في موضوع اختلاف الحجر و النبات و الحيوانات و الإنسان"ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها و من الجبال  جدد بيض و حمر مختلف ألوانها و غرابيب سود و من الناس و الدواب و الأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور"26-28 فاطر, و ظاهر أن المقصود بالعلماء هنا ليس أولو النظر الملكي الذين يتوقفون عند الظواهر, و إنما أولو النظر الملكوتي الذين ينفذون إلى الآيات, و الأصل الثاني وهو عمله يجعله يتعارف مع أشخاص و أمم لا يضاهى اختلافهم.

ب-تختص اختلافية هذا الجواب بكونها اختلافية إيمانية و أخلاقية, فهي اختلافية إيمانية لأن النظر الملكوتي يورث المسلم رسوخ الإيمان, و كذلك اختلافية أخلاقية لأن العمل التعارفي يورثه دوام التخلق.

ج- تختص إيمانية الجواب الإسلامي بكونها أشمل إيمانية, لقد أشرنا إلى أن المسلم يعتقد جازما أن الدين الإسلامي هو خاتمة الأديان السماوية, و لا تعني هذه الخاتمية أن هذا الدين أنهى نزول الوحي إلى الناس فقط, بل تعني أيضا أنه جمع ما في سابق الأديان من أسرار الإيمان و زاد عليها أسرارا أخرى ليست فيها, فتكون القوة الإيمانية للدين الإسلامي أوسع مدى من القوة الإيمانية لغيره من الأديان, و إذ ذاك لا عجب أن يرى المسلم في كل شيء سببا للزيادة في إيمانه فأينما توجه وجد ربه.

د- تختص أخلاقية الجواب الإسلامي بكونها أكمل أخلاقية, معلوم أن المسلم يعتقد جازما أن الأخلاق الإسلامية تتمم الأخلاق السابقة عليها, تأمل الحديث الصحيح المروي عن أبي هريرة " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" و هناك رواية أخرى "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"و و لا تعني هذه "التتميمية" أن هذه الأخلاق تضيف إلى أخلاق الأمم الأخرى قيما سلوكية لم تعرفها من قبل فحسب, بل تعني كذلك أنها تنشئ من القيم الخلقية التي عرفتها هذه الأمم مراتب و مقامات عليا لم تعرفها من قبل,  فتكون القوة الأخلاقية للدين الإسلامي أعلى رتبة من القوة الأخلاقية لغيره من الأديان, و عندئذ لا غرابة أن يتوسل المسلم بكل فعل أتى به إلى تكميل تخلقه , إذ كيفما تصرف طلب القيمة التي تزكي تصرفه.

ونلخص الخصوصية بإيجاز شديد بكون الجواب الإسلامي  جواب اختلافي و اختلافه إيماني و أخلاقي, و إيمانية الجواب الإسلامي أشمل إيمانية و أخلاقية الجواب الإسلامي أكمل أخلاقية.

 

ولكن كما يقول المؤلف يبقى على الأمة أن تجيب عن و احد من أشكل الأسئلة في هذا الزمان" المتعولم" و هو "سؤال الكونية", و صيغته: كيف يمكن الجمع بين الخصوصية الإسلامية و الكونية؟

 

ولذلك يجب أن نفرق بين مبدأ الكونية و هو يعبر عن القيمة التي تسدد أمم الأرض نحو الاتفاق فيما بينها, و واقع الكونية و تمثله الكونية الحادثة في هذا الزمان, و هذا يقسم السؤال السابق إلى شقين.

أولا- كيف نجمع بين الخصوصية الإسلامية و مبدأ الكونية

ثانيا-كيف نجمع بين الخصوصية الإسلامية و واقع الكونية

 

أولا: الجمع بين الخصوصية الإسلامية و مبدأ الكونية

ليس بالقليل عددهم أولئك الذين يحملون مفهوم "الخصوصية" على معنى يضاد مفهوم "الكونية" و لكن المؤلف يعترض على أصحاب هذه الفكرة بعدة اعتراضات.

أ‌-  لا تفيد الخصوصية  معنى" انكفاء الأمة على ذاتها"بالضرورة, فقد تتعلق الأمة بذاتها في أمور و تنفتح على غيرها فيما عداها, و قد تتمسك ببعض الثوابت المحددة لهويتها في مقابل الهويات الأخرى من دون أن تجمد عليها, و قد تلقح الأمة ما لها من ذاتها بما ورد عليها من غيرها فتزداد قدرتها على مواصلة الاستمداد من الأمم الأخرى, أي ينفتح لها طريق الكونية, أو على العكس تزداد خصوصيتها متى صارت تنتج ما لم تكن تنتجه  و تعطي لغيرها ما لم تكن تعطيه, فالخصوصية لا تعدو كونها حيز الأمة, فلا أمة بغير حيز يضمها, و مثل الخصوصية للأمة كمثل الجسم للروح, فكما أن الروح تحتاج إلى أن تحل في يخصها و لا تشاركها فيه الأرواح الأخرى فكذلك الأمة تحتاج إلى أن تكون لها خصوصية لا تشاركها فيها الأمم الأخرى, أو قل الخصوصية إنما هي جسم الأمة.

ب‌-  لا تفيد الكونية معنى" الاشتمال على كل الأمم" بالضرورة, فالواقع أن كثيرا مما يوصف بالكونية لا ينطبق على الأمم كلها فضلا عن أن تتساوى في هذا الانطباق, إذ حقيقة أمره أنه عبارة عن خصوصية أمة بعينها عممت على الأمم الأخرى طوعا أو كرها, و التعميم الطوعي يحصل في حال التكافؤ الثقافي أو الفكري, و هذا يكون ناتجا عن اضطرار الأمة إلى غيرها لسد حاجاتها الثقافية أو الفكرية, أو قد يكون ناتجا عن إكراه تمارسه إحدى الأمتين على الآخرين, و هو أمر غير مشروع و لا معقول, و الحال أن الأمة المسلمة في سياق أنواع الاستعمار التي ما فتئت تتوالى عليها تظل مكرهة على الأخذ بخصوصية المستعمر و على النظر إليها على أنها كونية تلزم الأمم قاطبة.

ت‌-  إن العلاقة بين الكونية و الخصوصية ليست بالضرورة علاقة تضاد و تباين, بل قد تكون علاقة تداخل أو تكامل, وإذا بطل القول بالتضاد بين الخصوصية و الكونية جاز أن تقبل الخصوصية الإسلامية الاجتماع إلى الكونية, أي أن تكون خصوصية جامعة.

ويبدأ المؤلف بالتوضيح كيف أن الخصوصية الإيمانية و الخصوصية الأخلاقية اللتين يتحدد بهما الجواب الإسلامي خصوصيتان جامعتان لا تفرقان.

1- الخصوصية الإيمانية و كونية النظر  الملكوتي: فالخصوصية الإيمانية للأمة المسلمة لها تعلق باختلاف الآيات, حيث يتدبر المسلم الآيات الكونية أو ينظر في الملكوت لكي يزداد إيمانا و هو نظر ليس له حد يقف عنده, و يترتب على هذا أن الخصوصية الإيمانية للأمة المسلمة تنبني على نظر ملكوتي كوني, و هذا يدل على أن الكونية عنصر مقوم للخصوصية الإسلامية.

2-الخصوصية الأخلاقية و كونية العمل التعارفي:لقد ظهر أن الخصوصية الأخلاقية للأمة المسلمة لها تعلق باختلاف الناس أشخاصا و أمما حيث يتعارف المسلم مع الآخرين لكي يزداد تخلقا, و هو تعارف ليس له حد يقف عنده, فيثبت أن الخصوصية الأخلاقية للأمة المسلمة تقوم في النهوض بعمل تعارفي كوني يفضي إلى كونية العمل التعارفي, و في هذا دلالة على أن الكونية عنصر مقوم للخصوصية الإسلامية.


ثانيا: الفصل بين الخصوصية الإسلامية و الواقع الكوني

الأمة المسلمة لا تجيز لنفسها الاستبداد عن أسئلة الخصوصية و الكونية, فهي تقر لكل أمة من الأمم الأخرى بحقها في أن تجتهد في تحديد جوابها و تخصيصه, و لكن هذا الموقف الذي يفتح باب  التنوع ليس أبدا هو الذي تتخذه "أمة الغرب" من الأمم المعاصرة, فهي لا ترى في جوابها عن أسئلة هذا الزمان واحدا من الأجوبة الممكنة و إنما ترى فيه الجواب الذي ينبغي أن تأخذ به الأمم جميعا, و لا غرابة في هذا الموقف المستبد متى عرفنا أن الأمة الأقوى دأبها أن تطغى و لاسيما أن "أمة الغرب" استطاعت أن تحث نظما و مشاريع و مؤسسات تخترق هذه المجالات الخاصة, و تخترع مصالح و مطامع لا تعرف الحدود و لا القيود إلا ما يزيدها قوة و طغيانا, كل ذلك بحسب زعمها من أجل توحيد الأمم و تحقيق العولمة, و بهذا تكون قد اغتصبت حق تحديد الواقع الكوني, لذا بات مشروعا أن تتصدى الأمم الأخرى لهذه الكونية التي تقهر إرادتها و تحرمها من حقها في الاختلاف و تمحو خصوصيتها محوا, و الأمة المسلمة تملك حق السبق في هذا التصدي نظرا إلى أن زمان ظهور هذه الكونية العنيفة هو زمانها فيقع عليها أكثر من سواها واجب تغيير المنكرات فيه, وأنكر هذه المنكرات " العنف الفكري"الذي يتمثل في فرض هذه الكونية.

و يبدأ الدكتور في تفصيل القول في وجوه التصدي الإسلامي لهذا العنف الفكري خاصة و أن الجواب الإسلامي يتكون من ركنين أساسيين هما الخصوصية الإيمانية و الخصوصية الأخلاقية, فوجب أن يتوسل التصدي بهاتين الخصوصيتين فيشتغل بالكشف عن نوعين من المفاسد, المفاسد الإيمانية و المفاسد الأخلاقية, و معنى هذا أن واجب الجواب الإسلامي أن ينهض بنوعين من النقد لهذا الواقع الكوني العنيف, و هما النقد الإيماني و النقد الأخلاقي.

 

*النقد الإيماني لواقع الكونية

الأصل في الإيمان هو النظر الملكوتي و من ذلك يظهر أن النقد الإيماني للواقع الكوني سوف يتعلق بتقويم استعدادات هذا الواقع للإقرار باختلاف الآيات الكونية, و هذه الاستعدادات على نوعين ا- استعداداته للإقرار بوجود الآيات, ب- استعداداته للإقرار بتعدد الآيات, أي أنه هي ينظر  هذا الواقع  إلى الظواهر على أنها آيات, و هل يتعقب الآيات أينما وجدت كما تتعقبها الخصوصية الإسلامية, و كما أسلفنا إن الارتقاء بالظاهرة إلى رتبة الآية لا يتم  إلا بالانتقال من النظر الملكي إلى النظر الملكوتي, و بفضل هذا النظر تحصل رؤية القيمة أو القيم المعنوية المقترنة بالظاهرة, و حتى  إذا اضطر  الواقع الكوني , على إثر نزول مصائب و كوارث بالإنسان  إلى التساؤل عن المقاصد الخفية منها و تلمس طريق النظر الملكوتي, فإنه ما إن تتبدى بوادر انكشاف النوازل حتى يؤوب إلى سابق عادته في إلغاء هذه المقاصد الروحية رافضا لصريح وجودها و صادا عن بالغ الحاجة إليها, و هذا يكشف عن العنف الإيماني لهذا الواقع الكوني و يتمثل هذا العنف أساسا في مظاهر مختلفة:

المظهر الأول: أن الواقع الكوني لا يسلم بوجود الآيات إلا متى قهرته الأقدار, بمعنى أنه لا يقر بالآيات و يمارس النظر الملكوتي إلا في حال الضعف, و علامة ذلك فزعه عند نزول الأقدار إلى جملة من القيم الروحية, حتى إذا عادت إليه قوته الأولى تنكر لهذه القيم و أنكر هذه الآيات و قهر البشرية على هذا الإنكار أو عمل باللجوء إلى المغريات و الشهوات حتى ينسيها هذه الآيات الناطقة و يخرجها من النظر الملكوتي, و إذا ما فاجأته الأقدار بآيات أخرى  من حيث لا يحتسب   سلك معها نفس الطريق و هكذا دواليك.

و من هنا كان الواقع الكوني لا يفتأ يتقلب بين حالتين متناقضتين, أحدهما قوة لا تقر إلا بالظواهر و وجوب النظر الملكي, و الثانية ضعف يعترف بالآيات و وجود النظر الملكوتي.

و حينئذ يكون دور النقد الإيماني أن يبين كيف أن هذا التناقض تنتج عنه آثار سيئة تضر بالتوازن الوجداني و الأمن النفسي للإنسان و الحاجة تدعو إلى التعجيل بإيجاد السبل لدفعها عنه و رفع هذا التناقض, و لعل الاجتهاد في الظفر بهذه السبل يفتح الطريق لظهور كونية بديلة يتسق فيها الجمع بين امتلاك القوة و الإقرار بالآيات.

 

المظهر الثاني: إن الواقع الكوني يتجاهل وجود الاختلاف في النظر الملكوتي بين الأشخاص, فما يراه بعضهم آية, قد يراه غيرهم ظاهرة, و يبعد بل يستحيل أن نجد منهم من لم تهجم عليه آية من الآيات و لو أتى ما أتى لكي يبقى على حال ملاحظة الظواهر وحدها, فلا حياة لحي بغير آيات تذكره بالموت, و محال كذلك أن يمضي زمن من أزمنة هذا العالم لا يشهد آية أو آيات تزعزع تعلق الناس بالظواهر, فلا زمان لمتزمن بغير آيات تذكره بالزوال, و هكذا فإن العالم يهتف بالآيات من كل جانب و أن هذه الآيات لا حصر لها.

و عندئذ يكون دور النقد الإيماني أن يبين كيف أن هذا الواقع الكوني يخطئ في تقديره للنظر الملكوتي, إذ يجعل الآيات طارئة أو عابرة أو استثنائية, و الصواب أنها لا تقل حضورا للعيان عن الظواهر, بل تفوقها عددا, لن الظاهرة الواحدة قد تتجلى بآيات مختلفة, و على هذا فإذا روعي في الظواهر مشاهدتها لتقرير عدم الإيمان , فينبغي أن يراعى في الآيات شهودها لتقرير ضده أي الإيمان , و لما كان  شهود الآيات يربو بكثير على مشاهدة الظواهر, لزم رجحان وجود الإيمان على عدمه.

 

المظهر الثالث:أن الواقع الكوني يقدم مقتضى الصفة الإنسانية على مقتضى الفطرة الآدمية, و بيان ذلك أن الإنسان يمارس النظر الملكوتي قبل النظر الملكي, أي أن يدرك معنى الآية قبل إدراكه معنى الظاهرة, حيث أنه لا يدرك الشيء أول ما يدركه إلا مقارنا لحاجته, و هذه الحاجة تصبغ على مدركه قيمة مخصوصة, و لا يمضي إلى نزع هذه القيمة عنه إلا بإجراء لاحق يحتاج فيه إلى تحصيل قوة التجريد, و التي تعني الانتزاع, هذه القوة و لو جزئية تجعله قادرا على أن يفرق بين المقاصد الخفية للأشياء و بين أسبابها الجلية, مع العلم بأن الأولى (المقاصد الخفية) يتقدم فيها مبدأ الانتفاع على مبدأ التحكم, في حين أن الثانية (المقاصد الجلية) يتقدم فيها مبدأ التحكم على مبدأ الانتفاع.

و عندئذ يكون دور النقد الإيماني أن يقف هذا الواقع الكوني على آثار القهر الذي يمارسه على الفطرة الآدمية حتى يضطره إلى إعادة الاعتبار لها, إذ الإنسان بغير فطرة كالجسم بلا روح, فتكون الآلة أسلم منه لأن الضرر لا يأتي من فعلها و لكن من فعل الإنسان بها, إذ هو باق على إرادته و لو عدم فطرته, و الآلة أصلا لا إرادة لها.

 

** النقد الأخلاقي لواقع الكونية

لقد ذكرنا أن الأصل في الأخلاق هو العمل التعارفي, و لذلك فإن النقد الأخلاقي للواقع الكوني سوف يتعلق بتقويم استعدادات هذا الواقع للإقرار باختلاف الأمم, و الاستعدادات على نوعين:ا- استعداداته للإقرار بوجود الأمة, ب- استعداداته للإقرار بتعدد الأمم, و هنا ينشأ سؤالان هما: هل يعامل الواقع الكوني المجتمعات على أنها أمم كما تعاملها الخصوصية الإسلامية, و هل يعترف بهذه الأمم كيفما وجدت كما تعترف بها الخصوصية الإسلامية, و كما ذكرنا فإن الارتقاء بالمجتمع إلى رتبة الأمة لا يتم إلا بالانتقال من العمل التعاوني إلى العمل التعارفي, و عندما تمارس الأمة العمل التعارفي تتحقق بقيمها الخلقية الخاصة و تراعي كل ما لدى الأمم من قيم تحدد خصوصيتها الأخلاقية مع المحافظة على المصالح و التواصل مع باقي الأمم, و الغالب على الواقع الكوني أنه يكتفي بالعمل التعاوني, إذ يحصر الأنظار  في ظاهر المجتمعات الذي يعبر عنه تارة باسم الشعوب و تارة باسم الأوطان, و لا يرقى بها إلى تبين القيم الخلقية التي توجد من وراء هذا الظاهر و التي تجعل منها أمما بحق, أي مجتمعات تنهض بالعمل التعارفي و تحمل رسائل أخلاقية, و حتى إذا اضطر هذا الواقع الكوني ,عند حدوث مواجهة لاحتلال أو مقاومة لاستعمار أو دفع لاعتداء أو معارضة لهيمنة, إلى التساؤل عن أسباب التعثر في تطبيق مشاريعه و إلى تلمس طريق القيم الخلقية التي تنشئ هذه النضالات في الأمة, فإنه ما إن تخف هذه النضالات أو حتى تحقق أهدافها حتى يعود إلى سابق عهده في إخراج القيم الخلقية من اعتباره, رافضا صريح وجودها و صادا عن بالغ الحاجة إليها , و هذا يكشف عن العنف الأخلاقي لهذا الواقع الكوني.

ويتمثل هذا العنف في المظاهر الآتية:

المظهر الأول: أن الواقع الكوني لا يسلِّم بوجود الأمم إلا متى قهرته إرادتها, بمعنى أنه  لا يقر بالأمم و لا يمارس العمل التعارفي غلا في حال الضعف, و علامة ذلك أنه يلجأ إلى بعض القيم الخلقية رافعا شعارها, و إلى بعض المشاريع الإصلاحية متعهدا بتطبيقها حتى يستعين بذلك كله إلى استرجاع سلطانه, و ما أن يعود إلى حتى يتنكر لهذه القيم و الإصلاحات, و يتنكر لوجود الأمم المتميزة محتالا بشتى الطرق لكي تتخلى عن حقوقها, و واضعا خططا تمحو من ذاكرتها القيم الخلقية التي أنهضتها للمطالبة بها, و تستبدل مكانها قيما أخرى تخدم أغراضه في الهيمنة, و إذا فاجأته الأحداث بيقظة جديدة لهذه الأمة او تلك لم يجد بدا بحكم حرصه على التسلط المطلق من أن يسلك معها نفس الطريق, و هو تلويح بقيم و إصلاحات, ثم تراجع عنها,فإنكار لوجود الأمة مع الاحتيال و التخطيط لمحو قيمها, و هكذا دواليك, و من ثم كان الواقع-أخلاقيا- لا ينفك يتقلب بين حالتين متناقضتين, قوة لا تقر إلا بالمجتمعات و وجوب العمل التعاوني, و ضُعف يعترف بالأمم و وجود العمل التعارفي.

المظهر الثاني: أن الواقع الكوني يتجاهل وجود الاختلاف في العمل التعارفي بين الأمم, ذلك أن وصف الأمة ليس رتبة واحدة و إنما مراتب تختلف باختلاف الخلق الذي يورثها عملها التعارفي فبعض المجتمعات لا يستحق أن يوصف بوصف الأمة لتفويته القيم الخلقية التي تعلو بالهمة, و بعضها و لو أنه يستحق أن يوصف بها, فإنه لا ينزل من رتبها إلا الرتبة الدنيا , و بعضها ينزل المراتب الوسطى, لكن منها ما ينزل الرتبة العليا, و هي المجتمعات التي تتغلغل بعيدا في العمل التعارفي و تكسب بفضله أقصى ما يمكن من القيم الخلقية المثلى, و هكذا يتضح أن المجتمعات بعضها أكثر تحققا بوصف الأمة من  بعض, يترتب على هذا أن التعامل الأخلاقي بينها لا يمكن أن يكون واحدا, بل يختلف بحسب أرصدتها من القيم الخلقية أو قل بالأحرى بحسب درجاتها في العمل التعارفي.

و من هنا يظهر مصطلح "الرسالية" و هو ليس وصفا اختياريا يكمل شخصية أبنائها و لا يتضررون بذهابه و إنما وصفا ضروريا يتحدد به واجب الأمة نحو الناس كافة-و هو الواجب الأخلاقي التعارفي-فضلا عن ذهاب مصالحها الأخرى بذهابه.

المظهر الثالث: أن الواقع الكوني يقدم مقتضى الاتحاد في الأمة الواحدة على مقتضى التنوع بين الأمم الكثيرة, و لما كان هذا الواقع  يبتغي بسط هيمنته على الأمم جميعا, كان كل شكل من أشكال التنوع فيها بمثابة عائق لهذه الهيمنة يجب المبادرة إلى إزالته, طامعا في جعل الأمم الكثيرة أمة واحدة , و الحال في الأمم هو اختلاف ألوانها و ألسنتها و أطوارها و أخلاقها و أنظمتها , بل و رسائلها و لا يصار إلى اتحادها في شيء إلا بدليل.

و من ثم يتعين على النقد الأخلاقي أن ينبه على أن الواقع الكوني يتبع مسالك لا تمحو-كما يُزعم-كثرة مانعة من تمام التواصل أو التفاعل بين الأشخاص أو الأمم, ذلك لأن هذا التواصل أو التفاعل ليس مطلوبا لذاته و إنما لما يحققه من ارتقاء بالإنسان, و لا ارتقاء بغير زيادة في القيم الخلقية, و لا زيادة في هذه القيم بغير العمل التعارفي, و على هذا فإن ما يمحوه هذا الواقع الكوني إنما هو ثروة من القيم و المبادئ تفيد الأشخاص و الأمم في تخليق بعضهم لبعض, و لا أرقى بالإنسان من تواصل يقوم على المبادئ العليا, و لا أزكى له من تفاعل يتمسك بالقيم المثلى, و لا ينهض بهذا التواصل و التفاعل إلا العمل التعارفي وحده.

في ختام هذا المدخل الذي عرضنا فيه الروح التي تميز جواب الأمة المسلم عن أسئلة زمانها  تكون خلاصة القول أن للأمة المسلمة جوابها الخاص عن أسئلة هذا الزمان.


وتتكون روح هذا الجواب الإسلامي من ركنين:

1- خصوصية إيمانية: تتفرع على مبدأ النظر الملكوتي الذي يقضي بتدبر الآيات الكونية المختلفة, مما يورث المسلم أشمل إيمان

2- خصوصية أخلاقية: تتفرع على مبدأ العمل التعارفي الذي يقضي بالتعامل مع الأشخاص المختلفين و الأمم المختلفة مما يورث المسلم أكمل تخلق, و لا تتعارض هاتان الخصوصيتان الإسلاميتان مع مبدأ الكونية بل تقومان بمقتضاه على خير و وجه و ذلك أن الخصوصية الإيمانية مبناها على النظر الملكوتي الأشمل, أي أن المسلم يتدبر كل الآيات التي يمكن أن يتدبرها الآخرون, كما أن الخصوصية الأخلاقية الإسلامية مبناها على العمل التعارفي الأكمل, أي أن المسلم يتعامل مع كل الأشخاص و الأمم التي يمكن أن يتعامل معها الآخرون لكن هاتين الخصوصيتين تتعارضان مع الواقع الكوني الذي تمثله أمة الغرب, و الذي ينطوي على عنف فكري لم يسبق له نظير, لذلك وجب أن يتضمن الجواب الإسلامي كذلك نقدا مزدوجا لهذا الواقع الكوني العنيف.

ا-نقد إيماني يكشف عن مفاسده الإيمانية, و هي ناتجة عن كون النظر الملكي المتعلق بالظواهر الطبيعية يهيمن في هذا الواقع الكوني على النظر الملكوتي الآخذ بقيم الذات

ب-نقد أخلاقي يكشف مفاسده الأخلاقية, و هي ناتجة عن كون العمل التعاوني المتعلق بوقائع المجتمعات يهيمن فيه على العمل التعارفي الآخذ بقيم الأمم.

 

الباب الأول

النقد الإيماني للواقع الكوني

 

تحدثنا في المقدمة عن الشق البنائي الذي يتولى تحديد خصوصيتن لهذه الأمة(الخصوصية الإيمانية و الخصوصية الأخلاقية), و الآن نتحدث عن الشق الثاني و هو شق نقدي يتولى تقويم الواقع الكوني من زاوية هاتين الخصوصيتين, أي يقوم بنقد إيماني و أخلاقي لهذا الواقع, و المقصود بالنقد الإيماني ليس تقويم الاعتقاد الديني لدعاة الكونية الراهنة, و إنما تقويم قدرتهم على النظر الملكوتي علما بأن هذا النظر يختص بكونه يرتقي بالظاهرة إلى رتبة الآية.

و يكشف لنا النقد الإيماني للواقع الكوني أن العنف الذي يصدر عنه في مجال الإيمان يتمثل في كونه يسلك في التفاعل مع الآيات طريق النظر الملكي, لا طريق النظر الملكوتي المطلوب في هذا التعامل و يتمثل السلوك في عمليتين اثنتين:

أولاهما, الفصل بين الآيات و القيم

و الثانية, هي حصر القيم في نطاق الثقافة


1-الفصل بين الآيات و القيم, يميل الإنسان بفطرته إلى أن يجد في الأحداث التي تجري حوله دلالات تجاوز واقعها, و يرى في حصولها إشارات تتعدى ظاهرها, و تحمل إليه هذه الدلالات الدقيقة و الإشارات معاني بعيدة أو قيما عليا يشعر بالحاجة إلى الاهتداء بها, و الحال أنه ليس في الأطوار التي تقلبت فيها الحضارة الإنسانية طور خالف هذا الميل الفطري لدى الإنسان مخالفة الواقع الكوني له, فهو يقر بوجود القيم, لكنه لا يقر بوجود الآيات, و لا يخفى أن الفصل بين الآية و القيمة إجراء تجريدي صناعي, بل تصنعي, ذلك أن الآيات لا تعدو كونها الظواهر عينها و قد تلبست بها القيم, و الظواهر إنما هي الآيات و قد انتزعت منها هذه القيم, فهذا الانتزاع يؤدي إلى تجريد القيم من المواد التي تتجسد فيها أو من الموضوعات التي تحملها ثم وضعها في عالم لا وجود له إلا في الأذهان, قد يزعم بعضهم أنه عالم المثال, أي عالم لا يأوي إلا الصور المجردة.

2-حصر القيم في نطاق الثقافة, و فائدة هذا الحصر بالنسبة إلى هذه الكونية العنيفة, هو أنه يقطع هذه القيم عن أسباب الإيصال إلى الإيمان, أي ينزع عنها صفة الملكوتية, فإذا أضحت هذه القيم المنتزعة من الآيات مجرد جزء من الرصيد الثقافي, انطبق عليها من الصفات ما ينطبق على باقي القيم التي يتضمنها هذا الرصيد, و أبرزها صفتان هما: التجريد بواسطة العقل, و التخزين في الذاكرة, و متى انتقلت إلى هذه القيم المنتزعة هاتان الصفتان فقدت ميزة الدلالة على الحاجة إلى الإيمان, بل صارت كغيرها من القيم المجردة من شواهدها الحية, فليس وجود القيمة مشخصة في ظاهرة بعينها كوجودها مجردة في الذهن, و لا حضورها للعيان المباشر كاستحضارها من ماض بعيد أو قريب, قد يعدم كل أثر في الحاضر, فحصول الإيمان إنما يكون بالقيم المشهودة لا بالقيم الموهومة.

و نقده الإيماني لهذا العنف الذي يمارسه الواقع الكوني في مجال الآيات يشتغل بالكشف عن مظاهر هذا الانتقال إلى النظر الملكي و تعقب آثاره, كما يبين عناصر الجواب الإسلامي عن هذه المظاهر و الآثار و ذلك في مستويات ثلاثة:

1-مستوى اختلاف القيم: لقد أدى النظر الملكي إلى القيم إلى جعل التصادم صفة ملازمة للاختلاف في القيم عموما و للاختلاف في القيم الأخلاقية خصوصا, و لم تفلح في دفعه مجهودات بعض المفكرين لبقائهم يسبحون في فلك هذا النظر الصناعي, و سوف نوضح كيف أن دفع هذا الصدام القيمي يمكن تحقيقه من توسلنا بالنظر الملكوتي الذي يربط القيم بمجالها الأصلي-أي الآيات- هذا الربط ينتج عنه وصل العقل بالإيمان, وأيضا وصل الثقافة بالفطرة, و أخيرا و صل السياسة بالخير(انظر الفصل الأول )

2-مستوى القيم الإسلامية, أفضى النظر الملكي إلى القيم بأرباب هذه الكونية العنيفة إلى أن يتعاطوا تدمير الثقافة الإسلامية, إذ يعتقدون أن هذه الثقافة الخاصة تتخذ وجهة هي عكس الوجهة التي تتخذها الثقافة الكونية, فإذا كانت الثقافة الكونية ثقافة منفصلة عن عالم الآيات مستغنية بعالم الظواهر, فإن الثقافة الإسلامية على عكسها, لا تنفصل عن عالم الآيات بل تدوم على الاتصال به, فالقيم المكتسبة في الثقافة الإسلامية تبقى موصولة بالآيات التي تفرعت عليها, فلا تتجرد كما تتجرد قيم الثقافة الكونية, كما أن القيم الموروثة فيها تبقى حية في القلوب, فلا تختزن في الذاكرة كما تختزن هذه القيم الكونية, و لا تمحى منها كما قد تمحى هذه, و زاد من إصرارهم على تدمير هذه الثقافة الخاصة ما وجدوا فيها من قدرة على توجيه القيم التي يبثونها فيها إلى نقيض مقصودهم.

فقد أرادوا أن تهيمن فيها هذه القيم المبثوثة على القيم الأصلية, فتجردها من صفتها الملكوتية و تورثها الصفة الملكية, لكن هذه الثقافة المتصلة ما لبثت أن نقلت إلى هذه القيم  المبثوثة الصلة الإيمانية التي تتمتع بها قيمها الأصلية, حتى استحقت هذه الثقافة أن تكون هي نفسها آية من الآيات الكبرى. ( الفصل الثاني)

3-مستوى القيم الأمريكية,  لقد نتج من هذا النظر الملكي إلى القيم تزكية القيم الأمريكية و تفضيلها على قيم الأمم الأخرى, بحجة أنها تتصف بالكونية, و قد استطاع أولياء هذا النظر في المجتمع الأمريكي-و هم المثقفون- أن يتمسكوا به حتى في أسوأ مصيبة يحتمل أن تلجئ الإنسان الأمريكي إلى التشكك في السلطة المطلقة للنظر الملكي, ألا وهو أحداث أيلول 2001, فبدلا أن يروا فيها في هذه الأحداث أعظم آية يعتبرون بها, أصروا على أنها لا تعدوا كونها كارثة إجرامية يجب إعلان الحرب على مرتكبيها بإطلاق, بل أبوا إلا أن يحملوا أمم العالم عامة, و الأمة الإسلامية خاصة, على أن لا يروا فيها إلا هذا الظاهر الكارثي, متوسلين في ذلك بمنطق معوج و حرموا أنفسهم من النظر الملكوتي, بل منعوا غيرهم من هذا النظر بالقوة, فلم يتركوا أحدا ينبههم إلى فوائده, فحرموا فوائد الإيمان و في هذا غاية الاعوجاج(الفصل الثالث)

و يجب أن ننبه إلى أن حديثنا عن القيم الإيمانية عموما, يزدوج بالحديث عن القيم الأخلاقية, و ربما نكتفي في بعض الأحيان باستعمال لفظ " القيم" من غير تخصيص بوصف الأخلاقي, على اعتبار أن القيم الأخلاقية هي أعم القيم الإنسانية, فتدخل تحتها القيم الإيمانية و أخرى غيرها.

 

 

مدخل الباب الثاني

الواقع الكوني و النقد الأخلاقي

 

كما أسلفنا فإن الشق النقدي من الجواب الإسلامي يتكون من نقد إيماني و نقد أخلاقي, و قد ركز الباب الأول على النقد الإيماني للواقع الكوني, و كيف أن العنف الذي يمارسه في مجال الإيمان بإقصاء النظر الملكوتي له مظاهر ثلاثة, أحدها جعل كل اختلاف في القيم يفضي إلى التصادم, و الثاني حرمان الثقافة الإسلامية من حق الاستقلال بقيمها, و الثالث تقرير أفضلية القيم الأمريكية و فرضها على باقي المجتمعات.

و في هذا الباب يتم التطرق إلى النقد الأخلاقي للواقع الكوني و ليس المقصود بالنقد الأخلاقي هنا محاكمة الأمة أو الأمم التي تندفع في فرض هذا الواقع, وإنما تقويم قدرتها على العمل التعارفي مع العلم بأن هذا العمل الخاص يرتفع بالمجتمع إلى رتبة الأمة مورثا أفراده التخلق الذي يرتقي بهم في مدارج الكمال السلوكي.

يكشف لنا النقد الأخلاقي للواقع الكوني أن العنف الذي يصدر عنه في مجال الأخلاق يتمثل في كونه يسلك في التعامل مع الأمم طريق العمل التعاوني, لا طريق العمل التعارفي المطلوب في هذا التعامل, و لما كانت المجتمعات متى اغترت بأسباب القوة التي في ملكها, قد تطغى و تتعاون على فعل المنكر و الأمر به, فلا غرابة أن يحصل في الواقع الكوني- و هو واقع تحصيل القوة المدمرة الشاملة- هذا التعاون على المنكر و أن تكون الوقاحة أحد مظاهره البارزة, و معلوم أن الوقاحة تصلب يصيب أخلاق الأمة, بحيث تجترئ على أن تأتي من الأقوال و الأفعال ما فيه إهدار لكرامة الإنسان و حقوق الأمم الأخرى أو على الأقل , ما فيه استخفاف بمكانتها, و يتولى نقدنا الأخلاقي للعنف الذي يمارسه الو

اخبار ذات صلة