بعدما أصبح العالم العربي في حكم "الرجل المريض" فقد بات ضروريا أن نتحرى أصل المشكلة وأن نتفق على حل لها.
(١)
في بداية القرن الـ19 ظهر في الساحة الدولية مصطلح "المسألة الشرقية" في التعبير عن تدهور أوضاع الدولة العثمانية التي جار عليها الزمن وأصبحت محلا للسخرية والرثاء حتى وصفت بأنها "رجل أوروبا المريض".
آنذاك -في عام 1896- نشرت مجلة "بنش" البريطانية الساخرة رسما كاريكاتوريا لملصق ظهر فيه السلطان عبد الحميد الثاني وهو يقرأ مضمونه الذي تضمن العبارات التالية: دعوة للاكتتاب -إعادة تنظيم شركة الدولة العثمانية المحدودة، رأس المال خمسون مليون جنيه إسترليني- المديرون: روسيا وفرنسا وإنجلترا، وتحت الرسم تعليق على لسان السلطان عبد الحميد الثاني يقول فيه: بسم الله، جعلوني شركة محدودة؟ هل سيسمحون لي بأن أنضم إلى مجلس الإدارة بعد توزيع الحصص؟
لا حاجة لاستعراض مظاهر التدهور الحاصلة في العالم العربي "المريض" التي تتمثل في تفتته وحروبه الأهلية والمذهبية وانتهاك حقوق الإنسان فيه وموالاة بعض دوله لأعداء الأمة وانقلابهم على أحلام شعوبهم، ولكننا بحاجة إلى تفسيره أكثر من حاجتنا إلى تحريره"
ولتدهور أوضاع الدولة العثمانية قصة طويلة شغلت الباحثين والمؤرخين الذين يتفقون على أن الكارثة تبلورت في "معاهدة السلام" التي تم توقيعها بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية عام 1774، وعرفت باسم القرية التي جرت فيها المباحثات "كوتشوك قينارجى"، وبمقتضاها انفصلت خانية القرم عن الدولة العثمانية وأصبحت مستقلة، إضافة إلى أمور أخرى كان من بينها إعطاء روسيا حق رعاية السكان الأرثوذكس الذين يعيشون في البلاد العثمانية.
إذا جاز لنا أن نصف الدولة العثمانية بأنها "عزيز قوم ذل" حتى وضع في نهاية المطاف تحت الوصاية الدولية فإن الوضع في العالم العربي الآن لا يختلف عن ذلك كثيرا في إطاره العام، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان عناوين المسألة الشرقية والرجل المريض والشركة المساهمة التي أضيفت الولايات المتحدة إلى مديريها الثلاثة (روسيا وإنجلترا وفرنسا).
أما السخرية والرثاء فحدث فيهما ولا حرج، لأنهما أصبحا قاسما مشتركا في أغلب التحليلات والدراسات التي تتناول أوضاع المنطقة التي أصبح القلق عليها بديلا عن القلق منها.
(٢)
لست بحاجة لاستعراض مظاهر التدهور الحاصلة في العالم العربي "المريض" التي تتمثل في تفتته وحروبه الأهلية والمذهبية وانتهاك حقوق الإنسان فيه وموالاة بعض دوله لأعداء الأمة وانقلابهم على أحلام شعوبهم، ولأننا نعيش ذلك الواقع فنحن بحاجة إلى تفسيره أكثر من حاجتنا إلى تحريره.
في هذا الصدد، لدينا شهادة مهمة أوردها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في مقالة نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" في 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ذلك أنه أرجع ما حل بالمنطقة من فوضى إلى غياب الدور الأميركي الذي ظل ضامنا لاستقرار العالم العربي منذ عام 1973. وقال إن ذلك الدور الفاعل تجلى في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية التي وقعت في ذلك العام حين تخلت مصر عن علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي وانضمت إلى مفاوضات دعمتها الولايات المتحدة، وهي العملية التي أفضت إلى عقد اتفاق سلام بين إسرائيل وكل من مصر والمملكة الأردنية، وإلى اتفاق فض الاشتباك برعاية أممية بين إسرائيل وسوريا.
وأضاف أنه في حين صمدت تلك الاتفاقات لأكثر من أربعة عقود فإن ذلك توازى مع الدعم الدولي لوحدة لبنان وسيادته، وحين أقدم الرئيس العراقي صدام حسين على غزو الكويت هزمه تحالف دولي قادته الولايات المتحدة، كذلك شنت القوات الأميركية حربا على "الإرهاب" في العراق وأفغانستان، وقد دعمت الدول العربية تلك المساعي الأميركية، الأمر الذي انتهى بإخراج النفوذ الروسي منها.
في رأيه أن التراجع النسبي للدور الأميركي في المنطقة أفضى إلى ما وصلت إليه أحوالها من تدهور وفوضى، وخلص من ذلك إلى أن واشنطن باتت بحاجة إلى إستراتيجية جديدة في تعاملها مع الخرائط السياسية للشرق الأوسط.
وفي هذا الصدد، دعا إلى ضرورة إلحاق الهزيمة بمشروع الدولة الإسلامية الذي أقامه "داعش"، على أن يسلم الأراضي المستعادة منه إلى قوى سنية معتدلة، على أن يتم ذلك بالتفاهم مع دول محور الاعتدال العربي وبمساهمة من تركيا، وإذا ما حدث ذلك يمكن بحث مصير الدولة السورية، ويقترح له في هذه الحالة إقامة نظام فدرالي بين العلويين والسنة، وفي هذه الحالة ينبغي عدم تجاهل الدور الحيوي لإيران التي يصبح التفاهم معها ضروريا، أما الدور الأميركي فسوف يتكفل بتوفير الضمانات العسكرية للدول السنية التقليدية، بحيث تؤدي واشنطن دور "الكفيل" لتلك الدول.
(٣)
هناك اجتهاد آخر تروج له العديد من منابر وقنوات الإعلام العربي حتى أصبح شائعا ومسلما به لدى قطاعات عريضة من الرأي العام، وبمقتضى ذلك الاجتهاد فإن الربيع العربي هو السبب وهو مصدر مختلف الشرور التي حلت بدول المنطقة، وهي مقولة باتت شبه مسلمة في مختلف أنحاء العالم العربي حتى قيل لي إنهم في ليبيا باتوا يتحسرون على أيام العقيد القذافي، وفي سوريا أناس أصبحوا يحنون إلى استقرار سنوات حكم البعث، كما أنهم في العراق صاروا يترحمون على عهد صدام حسين (رغم أن إسقاطه تم في عام 2003 قبل انطلاق شرارة الربيع عام 2011).
الشاهد أن الربيع العربي لم يعد يذكر بالخير حتى صار يشار إليه كثيرا بأنه خراب عربي، ووصف في مصر بأنه مؤامرة حينا وبأنه هبّة قام بها بعض الرعاع حينا آخر، وظلت الرسالة الصريحة أو المضمرة في ثنايا تلك المقولات أن العالم العربي قبل الربيع كان أفضل حالا وأكثر تفاؤلا واستقرارا منه بعدما انتشرت رياحه في مختلف الأقطار.
هذه الرسالة تتردد طول الوقت بدرجات مختلفة من الفجاجة والاحتشام، من التعبيرات المحتشمة ما أورده مدير مركز الدراسات الإستراتيجية السابق بمؤسسة الأهرام الدكتور عبد المنعم سعيد في مقالة نشرتها جريدة "الشرق الأوسط" في 21 أكتوبر/تشرين الأول تحت عنوان "كيف أتينا إلى هنا"؟ إذ وضع على رأس أسباب الوضع الكارثي الذي وصلنا إليه وبعد أن قطع بمسؤولية الربيع العربي وما أسفر عنه وضم داعش إلى الإسلام السياسي استدرك قائلا إنه "ربما" بدأت القصة بالغزو الأميركي للعراق الذي تضمن مشروعا شريرا لتفكيك الدولة العراقية صار في ما بعد نموذجا يريدنا الكثيرون من العرب أن نحتذيه باعتباره يلبي حقوق الإنسان ويؤدي إلى الديمقراطية.
وأضاف أن الكارثة لم تكن مقصورة على الغزو وما ترتب عليه، وإنما أضيفت إليها الطريقة التي تم بها الانسحاب الأميركي والترتيبات المخزية التي تركها، ذلك أنه ترك فراغا إستراتيجيا استغلته إيران في الهيمنة على العراق ومد نفوذها عبر المنطقة كلها.
(٤)
الحجتان مردود عليهما، ذلك أن استعادة الوصاية الأميركية ليست مطروحة للمناقشة رغم أنها حاصلة على الأرض بدرجة أو أخرى، أما تلطيخ وجه الربيع العربي وإهانة الجموع التي ثارت على الظلم وخرجت مطالبة بالحرية وبالعدل الاجتماعي فذلك موقف طبيعي وغير مستغرب من الأصوات المعبرة عن الثورة المضادة التي أصبحت صاحبة الصوت الأعلى في الفضاء الإعلامي العربي.
لكني لست في وارد مناقشة أي من الرأيين وتفنيد مضمونهما، لأنني أردت أن أمهد لعرض اجتهاد ثالث أزعم أنه يفسر الوضع الكارثي الذي وصلت إليه أحوال العالم العربي، سواء في الفوضى التي حلت به أو الشعور بالضياع واليتم الذي أصابه.
أزعم أن كارثة العالم العربي تبلورت في توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، ذلك أنها كانت تعبيرا عن الانكسار وبداية الانهيار الكبير الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، وإذا كانت اتفاقية السلام التي وقعت قبل أكثر من مئتي عام بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية في "كوتشوك قينارجى" رمزا وتجسيدا لانهيار الدولة العثمانية فإن أي تحقيق تاريخي نزيه سيجد في اتفاقية السلام التي وقعت مع إسرائيل مؤشرا على بدايات الانهيار في العالم العربي.
نعم كانت الدولة العثمانية تعاني من أعراض الضعف سواء في جيشها أو في سياستها قبل توقيع الاتفاق مع روسيا، وبسبب ذلك الضعف فإنها قدمت للقيصر تنازلات عدة سمحت لبلده بأن يتدخل في شؤون الدولة العثمانية، بل إنها قبلت أن تدفع لروسيا ولأول مرة في التاريخ غرامات حرب تمثلت في 15 ألف كيس من الذهب، لكنها حين وقعت على اتفاقية السلام فإن ذلك فتح الباب لمختلف الانهيارات التي توالت طوال القرن الـ19 وحتى بدايات القرن العشرين.
بالمثل، فإن مصر كانت لها مشاكلها وكانت هزيمة 67 من لحظات الانكسار التي لا تنسى، وحين استعادت بعض العافية وحققت ما حققته من إنجاز في عبور عام 73 فإن توقيع اتفاقية السلام عام 79 كان بمثابة انتكاسة سياسية رغم أن الرئيس السادات ظن حينذاك أنه يجني ثمار إنجاز العبور في عام 1973، إذ حين تم التصالح مع العدو التاريخي والتخلي عن زعامة الأمة بالخروج من الصف العربي والتخلي عن القضية المركزية فإن الساحة خلت للعربدة الإسرائيلية من ناحية، كما أن العالم العربي خسر قائده وفقد هيبته بعدما تصالح حصنه الأول مع عدوه التاريخي والإستراتيجي.
لقد تم توقيع اتفاقية السلام في مارس/آذار 1979 وقام السوفيات بغزو أفغانستان في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، وبعد ذلك توالت أمارات الفوضى فوصلت إسرائيل إلى بيروت عام 1982وقصف الأميركيون ليبيا عام 1986، ثم غزا العراق الكويت عام 1990 وغزت الولايات المتحدة العراق سنة 2003.
وفي السنوات اللاحقة انفصل جنوب السودان عن شماله، وتمددت إيران في سوريا والعراق واليمن فضلا عن لبنان وتم حصار غزة، ثم ظهر داعش الذي احتل أجزاء من سوريا والعراق، إلى غير ذلك من الأحداث الجسام التي تثير السؤال التالي: هل كان يمكن أن يحدث ذلك لو أن مصر ظلت بعافيتها وفي موقعها القيادي والريادي بالعالم العربي؟ هذا السؤال يتردد الآن على ألسنة العديد من المثقفين العرب الذين التقيهم بين الحين والآخر والذين ما إن يروا أحدا قادما من القاهرة حتى يسألوه: أين مصر ومتى تعود؟
ليس في بالي أن أقلل من دور أي أحد، فلكل بلد مقامه المقدر واحترامه، لكنني أزعم أن عوامل الجغرافيا فضلا عن التاريخ فرضت على مصر موقعا مارست من خلاله القيادة حين وفت باشتراطاتها، لكنها خسرت ذلك الموقع حين لم تف بتلك الاشتراطات وانكفأت على ذاتها في مربع الرجل المريض.
من ثم خلا موقع القيادة الذي ظل شاغرا ولم يستطع أحد ملأه طوال العقود الأربعة الماضية، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إن مصر هي المشكلة وهي الحل، ويبقى السؤال الحائر معلقا: متى تُستوفى شروط العودة؟