شمس نيوز / عبدالله عبيد
بين أربعة جدران مكسوة بـ"الأسبست" يقطن الطفل محمود أبو نصر ابن الأربعة عشر ربيعاً، معزولاً عن الجميع، فمرضه الذي يعاني منه منذ أربع سنوات حرمه حقه في التعلم واللعب واللهو كباقي الأطفال، طفولته ينهشها مرض "سرطان النخاع العظمي" الذي اكتشفه أطباء مصريون أواخر عام 2011.
مرض ينهش جسد هذا الطفل الذي لم يرَ أشعة الشمس سوى دقائق أو سويعات، فنظراته حينما يرى أطفال حارته يلعبون الكرة تحاكي واقعه المرير الذي يعيشه، بحسب أحمد أبو نصر (42 عاماً) والد الطفل المريض محمود، ليوضح أن طفله معزول عن الأشخاص كون مرضه يحتاج إلى العزلة، لئلا تحدث مضاعفات لحالته الصحية".
فهذا الأب الذي يعاني من شلل في قدميه منذ طفولته، لا يقوى على مساعدة مرضاه الذين يعانون داء محمود، ليكمل وعلامات الحزن قد بدت على عينيه متحدثا لـ"شمس نيوز": في عام 2011 توفى ابني إبراهيم بعمر 11 عاما، بنفس مرض سرطان النخاع العظمي، وبعدها اكتشفنا المرض في محمود، ويعاني المرض أيضا ابني الكبير أمير 16 عاما".
زراعة نخاع
قبل الحرب الإسرائيلية الثانية بأسبوع واحد غادر محمود وأبوه وشقيقته أميرة قطاع غزة متجهين إلى العاصمة المصرية "القاهرة"، لزراعة نخاع للأول، بعد أن تبرعت أميرة (16 عاما) بنخاعها له، ليوضح أبو نصر أن "ابنته أميرة وصلت غزة بعد أن قامت بإجراء العملية؛ حتى لا تتأخر في دراستها، وأنا ومحمود بقينا في مستشفى ناصر لمدة شهرين لمتابعة حالته".
21/11 عام 2011، حيث الحرب الثانية على غزة، أتاني نبأ استشهاد أميرتي بعد أن قصفوا منزلاً بجوار منزلنا بعبسان الكبيرة بخان يونس، حيث كنت مرافقاً لمريضي محمود بالمستشفى، وفوراً غادرتها بعد أن رافقه أحد أقربائي في مصر، كي أرى وجه أميرة لآخر مرة"، معرباً عن ألمه الشديد لفقدانه ابنته التي كان يعتبرها " ملاكاً على هيئة بشر، لحسن تعاملها معي ومع إخوانها المرضى" بحسب وصفه.
فبعد استشهاد ابنته التي كان لها أثر كبير في منزلهم الصغير، خصوصاً وأنها اليد المساعدة لأمها، في كل أمور البيت، كون أبيها مقعدا لا يتحرك إلا بجهاز يوضع على قدميه كي يمشي خطوتين أو ثلاثة للأمام، وشقيقيّها في مرض بحاجة إلى المتابعة ساعة بعد ساعة، شعر الأب والأسرة بفراغ كبير لفقدانها، مبيّناً أن ابنه محمود بحاجة لمراجعة كل شهرين في مستشفى ناصر بمصر لمتابعة حالته الصحية.
طرد عكسي
بعد عملية زراعة النخاع والتي تبرعت بها أميرة لمحمود، استشهدت الأولى وبقي الثاني وحيداً يتفقد منزله فور وصوله للقطاع، عقب شهرين من العلاج في الخارج، يبحث بين ثنايا البيت عن شقيقته التي خاطرت بحياتها من أجل أن يعيش، ليستدرك أبو نصر: لكن عندما علم أنها قد استشهدت أصيب بطرد عكسي مزمن، جعل القناة الدمعية في عينيه تجف".
برهة صمت انتابت هذا الأب المريض الصابر المحتسب أمره لله عز وجل، إلا أن مراسل "شمس نيوز"، طلب منه أن يتحدث مع طفله "محمود" الذي يشكو أيضاً من صعوبة في النطق، ليقول محمود: نفسي ألعب بالشارع وأروح المدرسة زي ما بشوف أولاد جيرانا من شباك غرفتي".
ويضيف الطفل أبو نصر: أنا بستنى يفتح المعبر لأروح أتعالج كمان مرة، عشان الدكتور قلي أنت راح تطيب وتروح المدرسة وتلعب كورة".
سداً منيعاً
بعد أن سمع والده تلك الكلمات بدأت دمعاته تتساقط شيئاً فشيئا، وصوت البكاء يعلو أكثر فأكثر، ويحتسب أمره إلى الله، لينوه إلى أن محمود حُرم أيضاً من المدرسة التي هي من حقه، "بسبب هذا المرض الذي ينهش جسده منذ طفولته"، بحسب تعبيره.
لم تنته معاناة هذه العائلة عند هذا الحد، فالمريض بحاجة إلى العلاج والمتابعة كل شهرين بمستشفى ناصر الطبي، لكن تبقى البوابة السوداء "معبر رفح" سداً منيعاً أمام طفولته التي حلم أن تكون كبقية الأطفال، لتحول تلك البوابة التي لا تعمل إلا بكلمة سر لا يعلمها إلا كبار الساسة، دون استكمال علاجه.
ويذكر أبو نصر أنه ناشد السلطات المصرية والجهات المسؤولة في غزة كي يخرجوا ابنه لاستكمال علاجه بسرعة، لكن دون أن يتحرك أحد أو يساعده مسؤول.
وبسؤالنا عن محاولته الخروج عن طريق معبر بيت حانون "إيرز"، أجاب : أنا مرفوض أمني منذ عام 2003، وجميع التحويلات التي كانت على مستشفيات إسرائيلية تم رفضها من قبل الاحتلال"، معرباً عن أمله أن ينظر أحد إلى طفله المريض الذي يموت أمام ناظريه.
وتغلق السلطات المصرية معبر رفح لأكثر من عامين إلا أنها تفتحه بين الفينة والأخرى، بشكل استثنائي للطلاب والمرضى وأصحاب الإقامات، وخلال عام 2015 الذي شارف على الانتهاء، لم تفتح المعبر إلا 20 يوما على فترات متباعدة.
ويعاني قطاع غزة حصارا إسرائيليا مشددا منذ تسعة أعوام، وترجع السلطات المصرية إغلاقها لمعبر رفح إلى الاضطرابات الأمنية التي تشهدها سيناء.