لست أعرف ما إذا كان طرح مشروع تقسيم سوريا -وتحديدا في هذه اللحظة- يمثل خيارا موضوعيا، لأن الخيار الآخر -نتيجة لقوة الحسم التي تتقدم على الميدان السوري- في وضع زاحف نحو الحسم النهائي وتصفية الثورة السورية كليا. فلماذا اللجوء إلى التقسيم إذن؟
يفترض أن هناك الآن هدنة في سوريا، ولكن الروس يرتكبون فيها مذابح ضد المدنيين، وهو أمر متوقع كون موسكو لا تريد الهدنة إلا لخلق مساحة مناورة سياسية تخدمها إعلاميا، وتسخرها لإقناع أطراف أخرى بتجاوبها السياسي لوقف أي عمل قد يشكل إزعاجا لها، في حين تلعب واشنطن على نفس هذا الرتم دون أي تغيير فعلي على الأرض.
إن تقدم التحالف الروسي الإيراني العسكري الذي يحتضن النظام كليا، يحظى برضوخ أو تفهم أو تأييد غربي وأميركي، وتقاطع مهم للغاية مع الأمن الإسرائيلي المشارك عبر قدرته اللوجستية الضخمة، وجهاز مخابراته مع العمليات العسكرية الروسية ضد المعارضة المعتدلة.
لكن ربما يساهم السؤال التالي في تحقيق توازن دقيق لفهم القضية، وهو: ماذا لو سقطت حلب وتمت مطاردة جيوب الثوار، ودعَمَ الروس عمليات إبادة جماعية يستعد لها النظام اليوم عند وقف إطلاق النار النهائي.
وحين يتحقق ذلك سيضمن التحالف الإقليمي كامل الأرض، وسيحتاج الأمر حينها -من جانب موسكو- وضع سوريا تحت الانتداب الإيراني، أُسوة بما جرى في العراق، مقابل قواعد وعقود ضخمة وقعها النظام منذ اليوم، فالروس لا يرغبون مطلقا في إبقاء قواتهم منتشرة في سوريا، ويفضلون أن تقوم إيران بهذه المهمة، كما نفذتها لواشنطن في العراق 2003.
وهنا كتلة السؤال الصلبة، هل هذا يعني أن المشرق العربي سيخضع كليا لإرادة الواقع الجديد، مما سيؤدي لانفجار تمرد لا حدود له، سواء جاء هذا التمرد عبر إعلان حرب "الجحيم الكبرى الصفرية" التي قد تؤدي لتجند غالبية القوة الميدانية والشبابية ذات العواطف الفائرة خلف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بمن فيهم معارضوها السياسيون والعقائديون السُنّة، كون داعش باتت القوة الوحيدة -في نظر هؤلاء- لمواجهة مشروع حرب الجحيم في المشرق العربي ومساعي إسقاط الأمن السُني الاجتماعي كليا، وعليه يتجنّد الناس في حرب الجحيم الصفرية، التي دفعت لها واشنطن وموسكو، كمآل لا خيار.
أو جاء هذا التمرد عبر تنظيم القاعدة في جيلها الرابع، بعد انسحاب داعش المتوقع والذي بدأت خيوط رصده تظهر على السطح، أو برزت منظومة مقاومة جديدة كليا تتمسك بالتوحش الإرهابي كخيار ضرورة أمام واقعها، ومصير مجتمعها الذي سُحق.
صحيح أن فوضى التوحش تمّ استثمارها مخابراتيا عربيا وإقليميا ودوليا للوصول للأرض المحروقة وإسقاط مقاومة الشعوب، وكلٌ يدحرجها على الطرف الآخر، لكن هناك أيضا مستوى من التوحش يخرج كليا عن نطاق السيطرة وتصعب إدارته أو التدخل فيه لحظة انفجاره.
إن أكبر تحد يواجه الغرب -الذي اعتمد مسارا يخلق له بديلا عن سايكس بيكو- هو كيف يتعامل مع الخرائط الجديدة، حين يسقط بنيان سايكس بيكو ذاتيا، وخاصة بعد تأثير صفقات الغرب الأخيرة، وكيف يتعامل مع الأنظمة الرسمية توظيفا أو تحجيما، أو مواجهة للمتمرد منها.
ولعل الفزع الغربي الذي تقوده برلين من ظاهرة بسيطة يخشى أن تمثل إحدى مقدمات حرب الجحيم الصفرية، وهي تدفق اللاجئين السوريين، يشكل أحد الدوافع الضاغطة لمراجعة خريطة الغرب الجديدة مع الروس والإيرانيين.
إن موسكو -وإن ثبتّت خطتها في تصفية الثورة لصالح الأسد، وسعت لتعزيز محاصرة أنقرة المضطربة ونجحت في نقل جزء من معركتهم معها إلى الداخل التركي، وتجنيد بعض المعارضة ضد العدالة ورفع وتيرة الهجوم السياسي- ستواصل استثمار سقوط مشروع السلام الكردي وغياب البديل.
ولكنها تعرف أيضا أن هذه المشاهد لا تمثل كل أطراف المعركة، فالشعوب المسلمة التي تُشكّل جغرافيتها التاريخية وديمغرافيتها جزء واسعا من أرخبيل الدب الروسي، سوف تكون جسما مهيأ لمواجهة موسكو، وهي تتصدر وبإعلام رسمي الحرب الصفرية على العالم السني.
قد يعترض هذا التصور نجاح روسيا القيصرية في قمع ثورة الإمام شامل الداغستاني التي سحقتها بعد انسحاب العثمانيين، ثم أطبقت على القوقاز بعدها وأنجزت كل خرائطها.
لكن لا شيء يضمن لموسكو أن لا تصل ارتدادات واقع المجتمع الإسلامي اليوم، وتأثيرات الإحباط الضخمة إلى مسارحها ورؤوسها السياسية، في عصر الطفرة الإعلامية وسرعة انتشار الخبر وحيوية وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف سيجري ذلك وعلى أي مسار؟ لا يُعرف ذلك حاليا، ولكن الأكيد هو أن حرب موسكو العالمية على العالم السني لن تُطوى هكذا بسهولة.
وهنا يبدو مسار التقسيم أمرا مطروحا لتطويق الغبن العربي والإسلامي، وتعزيز معادلة تقسيم المقسّم، وهو ما يجعل المنظمات الكردية التي انخرطت في المشروع، حصان طروادة مهما جدا لكل القوى.
فالغرب وموسكو وطهران، هي الجهات الضامنة المباشرة للتنفيذ، والأولان شريكان للخرائط الأخيرة مع الأحلام الإيرانية الكبرى في الخليج العربي والتي ارتفعت آمالها كثيرا في المرحلة الماضية.
ومن طرفه يراهن الغرب، على أن تقسيم العالم الإسلامي، بعد حرب مذهبية شرسة لم تكتمل خطتها قد يخلق تحييدا كاملا للمسلمين، وهو -الغرب- الذي احتاج 100 عام قبل الشعور بضرورة تحرير قراره وإعادة صناعة استقلاله بنهضة ذاتية لم يستطع أن يصل إليها الشرق الإسلامي حتى اليوم، وكان وأد ربيع العرب الدموي، أحد عناصر تحجيم هذا الشرق وتمرده النهضوي ضد الهيمنة الغربية.
وتبقى هذه الحسابات خاضعة لمراقبة الغرب الذي يُحسن نقل قراره، فيما يُكرر العرب وعمقهم الإسلامي تجاربهم النازفة، خاصة حين يذهب جناح من تيارهم الإسلامي المختطف باسم السلفية الجهادية لحروب موسمية طاحنة تذهب بهم، وتُسقط طموح الشعوب المظلومة، وتنتهي بها إلى أرض محروقة جديدة.
ثم يستدعى الجهاد، بلافتة عاطفية لم تَفهم ولم تدرك أحكامه الدقيقة وأين تُنفّذ خريطته، وأنه لا يُطلق قبل ضمان الميدان من حروب الاختراق الكبرى، وخُروق الفكر العظمى التي تختفي فيها معالم الشريعة تحت أزيز الرصاص.
إن السلاح الذي لا يُديره عقل، ينتهي إلى مشروع عُقم، ثم يحوّله العدو أرضا محروقة، يُنهي بها مشوارا من مراجعة الفكر الإسلامي الراشد، وكفاح وعي وعرق وسجون كان يسعى لتأمين النصر السياسي والكفاح المدني لتقدم العالم الإسلامي.
نعم هذه الحضارة تحتاج آلة قوة وسلاح ومقاومة في بعض أركانها المحتلة، فلا يُردع الصائل المعادي إلا بعُدّة، لكن بقدر ما يضمن نجاحها، وليس تحولها من حرب تحرير إلى حرب تكفير وإبادة للمسلمين، وعندما يحدث ذلك يَرفع راية النصر محور المحتلين والمستبدين، ولا عزاء لأمة المضطهدين.