غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

خبر الاحتلال يساوم محرر على حياة زوجته

شمس نيوز / فلسطين المحتلة 

لم يكد ينسَ لؤي قفيشة عذابات السجن وقهر السجان ولم تغب عن باله تفاصيل السنوات العشر التي قضاها داخل سجون الاحتلال، والتي تركت بُقعا سوداء في قلبه كفيلة بأن تفجر بركانا في وجه من غرزها، حتى يأتيه ذات السجان ليقلب حريته سجناً ويملأها قهرا بعد أن نالها من بين أنيابه في صفقة وفاء الأحرار.

أبصر الأسير المحرر لؤي قفيشة النور على عتبات سجن جلبوع، حاملاً معه سجلاً من الذكريات ودفتراً كبيراً دوّن فيه أحلامه، نشد فيها الحياة والاستقرار وأبناء يحملون اسمه من بعده كي يكسر قرار الاحتلال الذي حكم عليه بالموت المؤبد.

بعد فترة وجيزة قرر قفيشة الارتباط بفتاة تشبه إلى حد كبير تلك التي رسمها في دفتره وبقيت له وتؤنس عزلته في سجنه، فاستدل على زوجته "نرمين" التي وهبته روحها وكفلته بالرعاية والاهتمام والحب، علّها تعوض سنوات الحرمان في السجن.

وكان قدر الله أن يعود قفيشة لسجن أكبر من سجنه السابق مساحة ومعاناة، "بدأت الحكاية مع ظهور علامات التعب والارهاق على زوجتي، تلاها تنفيخ في جسدها فسر أسبابه طبيب في إحدى مشافي قطاع غزة حينها بوجود نفخة والتهابات بسيطة فاطمأن قلبي"، يقول قفيشة، لكن اطمئنان قلبه لم يدم طويلاً فبعد مرور يومين على التشخيص زاد الألم والانتفاخ.

ويضيف: "ذهبنا لطبيب خاص وأرجع زيادة أعراض الألم والانتفاخ لانتشار المياه في جسدها نتيجة إصابتها بحساسة القمح والتي ستبقى مصاحبة لها طوال حياتها ونصح بتجنب كل ما يتعلق بالقمح"، فكان رد قفيشة لزوجته "لا تقلقي سآكل مما تأكلين وسنعيش للأبد".

مر أسبوعان على "الحمية الغذائية" التي اتبعتها "نرمين" بمشاركة زوجها لها، ازدادت خلالهما الأعراض بشكل سريع مع ظهور الاصفرار على جسدها، ما استدعى نقلها لطبيب آخر، وبعد إجراء عشرات الفحوصات أخبرهم الطبيب: "هناك مشكلة في أحد أجهزة الجسم".

يكمل قفيشة سرد التفاصيل وكان صوته يحتجز داخل كل حرفٍ دمعة، "طلب الطبيب إجراء فحص الأورام وعدة صور أشعة لأجهزة الجسم للمرة الثانية"، ساعات قليلة مشت على ظهر سلحفاة مرت حتى عاد قفيشة إلى الطبيب حاملا معه نتائج الفحص والصور المطلوبة.

تتسابق الدقائق مع دقات قلب قفيشة وهو ينظر للطبيب متأهباً لسماع خبر يبرّد نار قلبه، لكن ما حدث كان عكس ذلك، تبنّج لسان الطبيب وتساقطت دموعه، باغته لؤي بعبارة: "دكتور طمني شو النتيجة"، فجاءه الرد: "في تليف كامل في الكبد...هذا مستحيل"، وذلك لأن الصورة التي سبقتها بعشر أيام لم تظهر التموجات الحاصلة في غشاء كبد زوجته.

"الحمد لله على قضائه وقدره" قالها قفيشة بلسان الرضا، عازماً الأخذ بأسباب نجاة زوجته من خلال إجراء عملية زراعة الكبد بأخذ أجزاء من كبد إنسان آخر بمواصفات متطابقة مع جسمها بحسب ما أخبره الأطباء، ولم يقوَ على الأخذ بنصيحة الطبيب المتابع لحالتها بالتريث قليلاً ريثما يتم معرفة أسباب التليف المفاجئ والسريع.

طلب "لؤي" تحويل زوجته لمشافي الضفة أو القدس، فأبدت إدارة مستشفى النجاح بنابلس استعدادها لاستقبال زوجته، التي برفقة والدها فيما كانت عينا "لؤي" تلاحقها عند خروجها من حاجز ايرز شمال قطاع غزة، أيام قليلة عاشتها "نرمين" في المشفى إلى أن أعلن الأطباء عجزهم عن التعامل مع الحالة نظرا لتدهورها الشديد، وطالبوا بضرورة تحويلها إلى مشفى هداسا لإجراء عملية زراعة الكبد.

مماطلة ورفض تدحرجت الحالة الصحية لـ "نرمين" سوءاً تماماً كما كرة ثلج، مع بدء ظهور نوبات الغيبوبة والتي كانت تأتيها على فترات متفاوتة، مع مسابقة "لؤي" للزمن لتحويل زوجته إلى "هداسا"، يقول: "أطلقت مناشدة للرئيس محمود عباس لتحويل نرمين، لكن للأسف كان هناك مماطلة ورفض من التحويلات الخارجية برام الله".

"زوجها حماس؟" يسأل مدحت طه مسئول الملف الطبي في ديوان الرئاسة أحد الأطباء في غزة والذي دخل "وساطة خير"، للمسارعة في تحويل "نرمين" لمستشفى "هداسا"، علماً أن كل دقيقة تمر عليها دون إجراء العملية تقربها أكثر نحو "الإعاقة أو الموت" بحسب الأطباء.

وبعد 13 يوماً على مكوثها في مشفى النجاح، تقرر تحويلها إلى "هداسا" الإسرائيلي، وبعد وصولها المستشفى وعرضها على الأطباء، طالبوا بضرورة توفير متبرعين للكبد كي تتم العملية، بحسب قفيشة، ويتابع: "عرضنا عليهم متبرعين من غزة وهي شقيقتها وابن خالتها، ومتبرعين من الضفة، فكانت المخابرات الاسرائيلية تماطل بحجة الفحص الأمني والذي يستمر مدة أسبوعين لكل شخص".

وفي مساء يوم من أيام القلق والحيرة على وضع "نرمين" وبعدما أن استقل "لؤي" سيارته، إذ بهاتفه يرن، نظر إلى شاشته فإذا بنفس الرقم الذي أزعجه في عصر ذات اليوم بكثرة اتصالاته ولم يتمكن من الرد حينها لانشغاله، بادر لفتح المكالمة فباغته المتصل: "أبو نافذ؟" .. "نعم تفضل" .. "معك الضابط نديم مسئول مخابرات الخليل".

يضرب "لؤي" بيديه مقود السيارة وبعصبية ويرد عليه: "شو بدك مني؟"، فيقول ضابط المخابرات: "لازم تسمعني بدي احكي معك بخصوص زوجتك نرمين، أنا بعرف أنك ماشي في شارع ... أنت لازم تسمعني لأني أنا اللي طلعت مرتك على إسرائيل"، هنا استشاط لؤي غضباً وأغلق المكالمة.

"لؤي" الذي ذاق تجربة الأسر داخل سجون الاحتلال وتعرف خلالها على طرق التعامل مع ضباط المخابرات الاسرائيليين يوم أن دافع عن وطنه ودفع حريته ثمناً لذلك، اليوم يتكرر المشهد غير أنه مستعد لدفع روحه مقابل حياة زوجته لتكمل معه الدرب.

المهم عند الساعة الثانية عشر صباحاً في اليوم التالي، يتصل نفس الرقم فيرد عليه لؤي، ويحصل الحوار التالي: الضابط نديم: أبو نافذ باختصار بخصوص زوجتك أنا عرفت أنها في "هداسا" طالبين متبرعين من شان بدها كبد، وأنا من جانب إنساني تدخلت في الموضوع، وبعرف قديش تغلبت لحد ما طلعت من غزة".

لؤي قفيشة: الحمد لله في السراء والضراء وربنا قادر على كل شيء. الضابط نديم: مش كل شي بايد ربنا- وفق زعمه- وضع زوجتك صعب جدا وانا شفت ملفها في "هداسا"، والأطباء اللي بعالجوها مش أحسن دكاترة، وإذا بدي أدخل في الموضوع بزيادة رح أخلي أحسن دكاترة يعالجوها بس لازمني أوراق طبية لوصف حالتها، أرسلها عبر الايميل، وهاد بتطلب "علاقة مستمرة" بيني وبينك، وانت بتعرف قديش وضع مرتك صعب، مشان هيك افتح ايميل وابعتلي التقارير الطبية وخلينا على اتصال دائم عالايميل، وهذه الأمور لازم تبقى سري".

لم يفكر "لؤي" كثيراً بحديث الضابط الاسرائيلي، وإن كان الموقف الذي هو فيه "لا يُحسد عليه أحد"، غير أن تفكيره منشغل بحبيبته التي تزداد حالتها الصحية سوءاً، ويبحث عن طريقة تمكنه من ايصال المتبرعين لهداسا. في هذه الآونة كثرت الاتصالات من الضابط الاسرائيلي "للؤي" ولم تلق رد منه، إلى أن وصل "سميرة" شقيقة "نرمين" في غزة اتصال من المخابرات الاسرائيلية تستدعيها لمقابلتها عند حاجز ايرز، تمهيدا لخروجها للتبرع لشقيقتها القابعة في مستشفى هداسا منذ 15 يوماً ازدادت خلالها موجات الغيبوبة.

وضع صعب أخيرا وصلت "سميرة" مشفى هداسا وكان الوضع الصحي لـ "نرمين" قد ازداد سوءاً، ما تطلب نقلها للعناية المكثفة، "هي بنتي المتبرعة وصلت ليش ما تعملوا العملية؟"، يسأل والد نرمين الطبيب الذي يشرف على حالة ابنته المريضة، فرد عليه: "الآن بدنا كبد كامل ووضع بنتك صعب".

الموت البطيء هو الحكم الذي أصدرته مخابرات الاحتلال على "نرمين" سراً، فضحه انسحاب الطبيبين المشرفين على حالتها الصحية، وبعد أيام من تكرار والدها السؤال عنهما في المستشفى، جاءه أحدهم متخفياً وحذره قائلاً: "ما رح احكي كتير خد بناتك واطلع من المستشفى ما تضل بهداسا ولا يوم، بنتك بتموت"، قاطعه والدها: "مش قلت بدك تعمل الها عملية؟"، فأجابه ثانية: "ما رح تنعمل العملية اطلع من المستشفى بناتك بموتوا".

لم يكد الرجل الخمسيني - والد نرمين- أن يستفق من هول ما سمع من الطبيب الذي قرر مساعدته بالتدخل لدى رامي الحمد الله رئيس الحكومة الفلسطينية وتحويل ابنته إلى تركيا، وتم ذلك بالفعل حيث تقرر سفرها إلى أنقرة بعد حوالي 28 يوماً من وجودها في مستشفى هداسا.

جاء موعد مغادرة والد نرمين هداسا ونجاته بابنتيه للسفر عبر مطار بن غوريون، الذي لم يخلُ من مضايقات مخابرات الاحتلال لهم، حيث خضعت "سميرة" للتحقيق مرتين في المطار، كان السؤال الأبرز فيه: "ليش بدك تتبرعي لأختك؟"، وما إن حلت رحالهم تركيا، حتى باشر الأطباء بإجراء عملية زراعة الكبد لـ "نرمين" وذلك بأخذ جزء من كبد شقيقتها على عكس ما قال أطباء هداسا أنها بحاجتها لزراعة كبد كاملة.

أجريت العملية بنجاح وباشر الكبد لممارسة مهامه داخل جسد "نرمين"، هنا انطفأت النار المتوهجة بقلوب زوجها وأهلها نوعاً ما، بينما ينتقل قلب والدها بين سريريّ ابنتيه داخل المشفى، لكن سرعان ما عادت النار تتوهج من جديد بعد أن أخبر الأطباء والدها بوجود "نزيف طبيعي" بعد العملية.

ساعات قليلة حاول الأطباء فيها إيقاف النزيف، لكنهم فشلوا في إيقاف روح "نرمين" التي كانت معلقة بين السماء والأرض مذ كانت في مستشفى هداسا، والتحقت بدنيا السلام فجر يوم الجمعة لتشكي ظلم الاحتلال وأعوانه، وتفارق حبيبها "لؤي" في ذكرى نفس اليوم الذي تزوجا فيه قبل أربع سنوات، وليبقى يصارع مُرّ فراقها وحزنه على حال طفليه.

موجة من الحزن والبكاء اجتاحت قلوب وعيون ذويها في غزة ما إن وصل الخبر وفاتها، بينما لا تزال شقيقتها "سميرة" والتي وهبتها جزءا من كبدها على سرير الشفاء، لم تدرِ عن رحيل رفيقة دربها وحاضنة أسرارها إلا بعد تحسن حالتها الصحية بعد عدة أيام.

رحلت "نرمين" ودفنت بعيدة عن أهلها وأطفالها وأحباها، حيث لم تسمح العائلة بدفنها في غزة كي لا يتعرض جثمانها للتنكيل والتشريح من الاحتلال في رحلة عودتها، وعملاً بمقولة "إكرام الميت دفنه"، ولسان حال أهلها يقول "إكرام روحها نزع روح من قتلها".