ليس من العسير القول إن اختصار ما يجري في العراق بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو نوع من التدليس. صحيح أن التنظيم هو من يتصدر المشهد القائم حاليا، وهو الأقوى تأثيرا، لكن ما يجري لا يمكن اختصاره بمئات من عناصر تنظيم مسلح، أو حتى آلاف، وإلا فما الحاجة إلى ملايين المتطوعين الذين تتحدث عنهم دوائر المالكي إذن، وهو الذي يملك جيشا ويملك أجهزة أمنية باطشة، ويملك دبابات وطائرات أيضا؟ ولا تسأل هنا عن ما يمكن أن يأتي من دعم إيراني (وأميركي أيضا) متعدد المستويات (هل ستزوده إيران بطائرات بدون طيار؟).
ما جرى ويجري في العراق منذ أيام -بل منذ شهور في واقع الحال- هو إعلان صريح من العرب السنة بأنهم يئسوا تماما من العملية السياسية بطبعتها الراهنة، وإمكانية أن تمنحهم وضعا كريما في عراق ما بعد الاحتلال، رغم أنهم كانوا أصحاب الفضل الأكبر في هزيمة مشروع الغزو الأميركي.
ما جرى ويجري يمثل انتفاضة مكون أساسي من مكونات العراق ضد الظلم والتهميش والإقصاء، وذلك بعد أن سلكوا كل السبل التي يمكن أن تؤدي بهم إلى وضع معقول يتعايشون معه ضمن مكونات العراق الأخرى.
سنوات وساسة العرب السنّة وعشائرهم يطاردون المالكي كي يمنحهم ما يحفظ ماء الوجه أمام جماهيرهم دون جدوى. شكّل قطاع منهم ما يعرف بالصحوات رغم إشكاليتها الأخلاقية، واشتبكوا مع تنظيم الدولة، واستطاعوا أن يحجّموه بالفعل، ثم دخلوا الانتخابات، وحققت قائمتهم المرتبة الأولى، فتدخلت إيران وأعادت ترتيب البيت الشيعي، وبقي المالكي رئيسا للوزراء، ولم يتوقف عن سياساته في الإقصاء والتهميش، بما في ذلك لأطياف من الشيعة أنفسهم.
وما صرخات مقتدى الصدر ضده سوى شكل من أشكال التعبير عن حنق قطاع من الشيعة منه، لكن الرجل الذي رهن نفسه لإيران، واستحوذ عليه هوس السلطة، لم يكن ليلتفت إلى ذلك كله، وظل مصرا على مواقفه، مستخفا بالآخرين.
بمرور الوقت كان العرب السنّة يذهبون في اتجاه اليأس من العملية السياسية، وحين جاء الربيع العربي قرروا أن يحاكوه باعتصام سلمي رفضا للظلم والتهميش، فما كان من المالكي إلا أن واجهه بالقتل والموت، فأين يذهبون؟
اشتبك العرب السنة مع جيش المالكي في الأنبار والفلوجة، فما كان منه سوى إجراء انتخابات جديدة في ظل هذه الأجواء، فكانت المقاطعة السنية الطبيعية بسبب رفض المسار، والقسرية لقطاع منهم بسبب الحرب، والنتيجة هي منح هذه الفئة نصف ما منحتها الانتخابات السابقة، في أسوأ نتيجة على الإطلاق، فجاء الرد المدوي على تلك الإهانات المتواصلة، وانحاز الناس إلى التنظيم الأكثر إثخانا في عدوهم، أعني تنظيم الدولة.
شخصيا قلت مرارا حين بدأ تنظيم الدولة يتراجع في العراق قبل سنوات إن ذلك مرتبط بالعملية السياسية وما يمكن أن تمنحه للعرب السنة، ذلك أن شعورهم باليأس منها، سيدفعهم إلى منح حاضنة شعبية أقوى للتنظيم، تمنح مزيدا من القوة، وهو ما كان، بل إن المعارك الأخيرة، لم تكن من فعله وحده (رغم كونه الأقوى)، بل هناك فصائل أخرى، والأهم هناك ثوار العشائر الذين حملوا السلاح دفاعا عن أنفسهم، وما ذلك الرضا النسبي في الموصل الأقل عنفا بين مدن العرب السنة عما جرى سوى تأكيد على يأس هذه الفئة من العملية السياسية.
لا شك أن جزءا مما جرى منذ الاحتلال كان يتعلق -إضافة لطائفية المالكي ومن سبقه- برعونة بعض قادة العرب السنة السياسيين، والذين تمكن المالكي من التلاعب بهم طوال الوقت، وذلك عبر المكاسب الهامشية التي كان يمنحها لهم، في حين يتحكم هو بكل شيء في العراق، جيشا وأمنا، ومؤسسات مدنية، وصولا إلى تورط سافر في الحرب على الشعب السوري لصالح بشار، الأمر الذي استفز أكثر فأكثر العرب السنة المتعاطفين مع إخوانهم السوريين.
اليوم تغيب السياسة في العراق، ويختفي ساسة العرب السنة عن المشهد، بل يتوارون خجلا في واقع الحال، بينما يرتدي ساسة الشيعة ومراجعهم لباس الحرب، وكل ذلك بسبب إيران التي دعمت طائفية المالكي من جهة، وقتلت الشعب السوري من جهة أخرى، وذلك بروحية غرور وغطرسة كان من الطبيعي أن تنتهي هذه النهاية التي ستفرض عليها حربين في آن، واحدة في سوريا، وأخرى في العراق.
ثمة سؤال مهم يطرح نفسه هنا وهو: هل من تداعيات لهذا الذي يجري على وحدة العراق، بخاصة في ظل السلوك الانتهازي القائم والمتوقع من الأكراد الذين سيساومون المالكي على تنازلات لصالحهم في كركوك وملف النفط والعلاقة مع المركز، وقد يفكرون في الذهاب أبعد من ذلك بإعلان الاستقلال الكامل بعد اقتطاع أجزاء أخرى من الشمال العراقي، فضلا عن كركوك، وأيضا في ظل اتساع مطالب الانفصال (الكامل أو عبر فدرالية مرنة) في أوساط العرب السنة، وربما الميل لاحقا إلى هذا الخيار من قبل فئات شيعية ربما تجده مفضلا بدل استمرار الصراع، بخاصة أن أكثر ثروات العراق موجودة في الجنوب إذا اعتبرنا أن الشمال الكردي يعيش ما يشبه الاستقلال العملي ويصدر نفطه بطريقته عبر تركيا؟
من الصعب الإجابة بالجزم على سؤال من هذا النوع، إذ سيعتمد المسار التالي على جملة التطورات في المنطقة، ذلك أن الملفات جميعها تبدو مرتبطة بعضها ببعض، بخاصة أن عنوان الأزمة في عموم المنطقة يبدو مرتبطا بالصراع مع مشروع التمدد الإيراني الذي بلغ من غرور القوة والغطرسة مبلغا لا يمكن أن يحتمله الآخرون، لا تركيا ولا المحيط العربي، وحتى لو احتمله الرسميون، فإن الوضع الشعبي ليس كذلك، وما جرى في العراق شاهد، وما يجري في سوريا شاهد آخر.
ولأن خيار التقسيم يبدو خطيرا إلى حد كبير، وقد يمتد إلى دول أخرى، بما فيها إيران التي تعيش بدورها تعددية ومظالم كثيرة (عقد مؤتمر لعرب الأحواز في لاهاي يشير إلى إمكانية اللعب بهذه الأوراق من قبل آخرين في المنطقة)، فيما سيؤثر عليها وكذلك على تركيا بإحيائه لمشروع الدولة الكردية الكبرى، لأنه كذلك، فإنه يبدو مستبعدا في القريب، ما يرجح استمرار الصراع في سوريا والعراق على نحو يستنزف إيران أكثر فأكثر، وقد يعيدها إلى رشدها لتقبل التفاهم على جميع الملفات العالقة على نحو يرضي تركيا والمحيط العربي.
ويرتبط ذلك من جهة أخرى بنتائج الحوار الدائر حول الملف النووي بينها مع أميركا والغرب من جهة، وبمسار الصراع الداخلي بين الإصلاحيين والمحافظين من جهة أخرى، لا سيما أن الطرف الأول يبدو أقل ميلا لتأجيج الصراع مع المحيط، ومع الاهتمام بالشأن الداخلي الذي كان سببا في فوز روحاني.
الحكاية إذن تبدأ وتنتهي بإيران، فمن دون أن تعرف هذه حجمها وحدودها، وتكف عن الاستخفاف بغالبية الأمة، فلن يهدأ الوضع في المنطقة، وستكون حربا مفتوحة على كل الاحتمالات، كما ستكون طويلة ومكلفة على الجميع، لأن الحروب الطائفية والمذهبية هي أكثر الحروب دموية.
ومن المؤكد أن الغالبية السنيّة لم تختر الحرب، وإنما فرضت عليها، هي التي كانت تعول على ربيع العرب الذي طاردته إيران في سوريا، تماما كما طارده خصومها الذين جعلوا أولويتهم هي ربيع العرب والإسلام السياسي السني، ولعل ذلك هو ما ساهم في جعل إيران أكثر غرورا وغطرسة، بخاصة بعد إخراج مصر من دائرة التأثير من خلال الانقلاب على ثورتها العظيمة.