غصت الصحافة الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية بأخبار تفاقم مشكلة المقاطعة العالمية لإسرائيل، وعقدت من أجلها العديد من الفعاليات الرسمية لمناقشة مخاطرها، واعتبارها تهديدا إستراتيجيا، وفي الوقت ذاته تواصلت زيارات المسئولين الدوليين من شتى عواصم العالم إلى تل أبيب، وكان جزء منهم من عواصم عربية وإسلامية في زيارات سرية وأخرى علنية.
اتساع المقاطعة
تتزايد رقعة حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل يوما بعد يوم، وتأخذ أبعادا متعددة وأشكالا شتى، بهدف الوصول إلى مرحلة عزلة إسرائيل الدولية، إلى أن تقترب من نموذج نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وهو هدف لا يخفيه أنصار حركة المقاطعة، ومصير باتت تخشاه دوائر صنع القرار في تل أبيب.
هناك الكثير من المخاوف التي تحيط بإسرائيل بسبب تزايد واتساع رقعة المقاطعة، سواء في ظل الدور الكبير الذي تقوم به حركة المقاطعة العالمية "بي دي أس"، أو الأنشطة الفردية لهذه المنظمة أو تلك، وربما بعض الجهود التي ينفذها أفراد عاديون، لا يدفعهم لذلك سوى كرههم لإسرائيل، وتضامنهم مع الفلسطينيين.
لعل التخوف الأكبر الذي يقض مضاجع الإسرائيليين أن أجواء العزلة والمقاطعة لهم باتت تتركز في عواصم ودول كانت إلى عهد قريب من أشد الحلفاء والمناصرين، خصوصا في القارتين الأوروبية والأميركية، بحيث أصبحت كل فعالية إسرائيلية ملاحقة، وأي حفل تنظمه سفارة إسرائيلية هنا أو هناك معرض للمضايقات والإلغاء، وضاقت على الإسرائيليين أوروبا بما رحبت.
يسجل الإسرائيليون في هذا السياق نجاحات واضحة للنشاط الفلسطيني غير الرسمي الذي ينسق خطواته مع أصدقاء ومناصرين أوروبيين وأميركيين، بصدد تحشيد أكبر قدر ممكن من الجهود الهادفة لعزل إسرائيل، من خلال تصوير إسرائيل كما لو كانت تشكل خطرا على الأمن والسلم العالميين بأسرهما، وليس فقط باعتبارها احتلالا ومشكلة للفلسطينيين وحدهم، وربما يكون توالي استطلاعات الرأي العالمية التي تصور إسرائيل باعتبارها أحد مصادر الشرور في العالم هو أحد نتائج الجهود الدؤوبة التي تقوم بها حركات المقاطعة لإسرائيل.
هناك الكثير من الشواهد والمعطيات التي تظهر مستوى عزلة إسرائيل وملاحقتها في الكثير من القطاعات والمجالات، قد لا يتسع المجال لاستعراضها جميعا في هذه العجالة، لكن قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بوسم منتجات المستوطنات الإسرائيلية شكل ضربة مؤذية لإسرائيل في الصميم، على اعتبار أن القرار يتجاوز كثيرا الأبعاد الاقتصادية والتجارية والمالية، رغم أهميتها الفائقة.
خطورة القرار الأوروبي بوسم منتجات المستوطنات الإسرائيلية أنه يأتي نتيجة مباشرة للنشاط المتواصل الذي بذله المناصرون للقضية الفلسطينية في دول الاتحاد الأوروبي، ويظهر قدرتهم على إقناع شرائح واسعة من نواب البرلمان الأوروبي بعدم شرعية وأخلاقية إقامة المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، ليأتي القرار الأوروبي صادما لإسرائيل التي أجرت اتصالات غير مسبوقة في اللحظات الأخيرة للحيلولة دون صدوره، ولكن دون جدوى.
وحتى على مستوى أميركا الدولة الحليفة تقليديا لإسرائيل كانت نجاحات حركة المقاطعة واضحة، فرغم النفوذ الذي تتمتع به تل أبيب في دوائر صنع القرار الأميركي، كالبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، وقبلها الكونغرس، فقد حصلت تصدعات متلاحقة في قوة وصلابة هذا الدعم الأميركي، لاسيما في ضوء حالة الفتور التي أصابت علاقة تل أبيب وواشنطن بسبب الكيمياء الشخصية السيئة للرئيس باراك أوباما مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
لكن التوجهات الأخيرة التي أعلنها بعض أعضاء الكونغرس الأميركي بوقف الدعم العسكري والمالي غير المحدود لإسرائيل شكل صدمة لم تستفق منها دوائر صنع القرار في تل أبيب حتى كتابة هذه السطور.
أميركا اللاتينية ما زالت تشهد حتى يومنا هذا أبرز نجاحات حركة المقاطعة لإسرائيل، حيث خاضت إسرائيل نزاعا دبلوماسيا استمر عدة أشهر مع البرازيل، للقبول بترشيح سفير إسرائيلي جديد فيها، لكن الحملة الإعلامية الدعائية التي قامت بها منظمات مؤيدة للفلسطينيين ومطالبة بمقاطعة إسرائيل دفعت صناع القرار في البرازيل لرفض ترشيح "داني دايان"، بسبب أصوله الاستيطانية.
ولم تكن أفريقيا بعيدة عن حركة المقاطعة وعزلة إسرائيل، فقد شكلت جوهانسبيرغ معقلا أفريقيا مهما للأنشطة المعادية لإسرائيل، سواء من خلال الفعاليات السياسية والثقافية التي عقدت فيها، ورأت أن إسرائيل هي النسخة السيئة من نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي تخلصت منه جنوب أفريقيا قبل ما يزيد عن عشرين عاما، أو استقبالها لوفود فلسطينية وعربية معادية لإسرائيل، وكان آخرها وفد من قيادة حركة حماس.
العلاقات السرية
بينما تعاني إسرائيل من عزلة ومقاطعة متواصلة في مختلف أنحاء الأرض، من فعاليات غير رسمية وجهات غير حكومية، تشهد علاقاتها السياسية والأمنية مزيدا من التطوير مع عدد من دول العالم، العربية القريبة، والأجنبية البعيدة، سواء عبر زيارات علنية أو اتصالات سرية.
هذا التواصل الرسمي من قبل عدد من الدول العربية ودول العالم دفع العديد من الساسة الإسرائيليين للزعم بأن إسرائيل لا تعاني عزلة ولا رفضا ولا مقاطعة، بدليل أن مطار بن غوريون يواصل استقباله لمختلف الضيوف من شتى الجنسيات على مستوى العالم.
تظهر مصر الدولة العربية الأولى في المنطقة التي تواصل لقاءاتها وتنسيقها مع إسرائيل، سواء من خلال التبادل الأخير للسفراء بين القاهرة وتل أبيب، أو وصول التعاون الأمني والعسكري إلى حميمية غير مسبوقة، وقيام دوائر صنع القرار المصري ببعض خطوات "جس النبض" تجاه إسرائيل، مثل حادثة استضافة السفير الإسرائيلي في القاهرة في منزل أحد أعضاء البرلمان المصري، وإدخال الشيكل الإسرائيلي ضمن سوق العملات، وترجمة بعض الكتب العبرية إلى العربية، وغيرها من الخطوات..
في الوقت ذاته، لا تخفي إسرائيل أن لها اتصالات سياسية وأمنية مع عدد من عواصم المنطقة تحت ذرائع شتى، سواء لمتابعة تطورات الملف السوري، أو مواجهة تنظيم الدولة، أو الاستفادة من الخبرات الأمنية الإسرائيلية، وهو ما قد يشكل لبعض العواصم العربية حجة تقنع بها نفسها في التواصل مع إسرائيل، مع طلبها الدائم من تل أبيب إبقاء هذه الاتصالات بمنأى عن الكشف الإعلامي.
الإسرائيليون أنفسهم، وعلى مستويات سياسية عدة، يزعمون في كل مناسبة أن خطوات المقاطعة والعزلة التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية ضدها لم تنجح في ذلك، وهو ما يعني أن إسرائيل تمكنت من التغلب على جهود نشطاء المقاطعة لها على مستوى العالم.
سيناريو الأبارتهايد
تبدي إسرائيل مكابرة واضحة في مباهاتها بأنها ما زالت تمتلك شبكة علاقات إقليمية ودولية عز نظيرها على المستوى الرسمي، وهي بذلك تحاول إخفاء انتكاساتها الإعلامية والدعائية على المستويات الشعبية غير الحكومية، وهي مستويات لا تقل أهمية بنظرها عن نظيرتها الرسمية.
هناك جانب لا تخفيه إسرائيل من دعوات عزلها ونزع شرعيتها ومقاطعتها، يتعلق بتكبدها خسائر كبيرة لاضطرارها تعويض أصحاب المصانع المقامة في المستوطنات بسبب المقاطعة الأوروبية لمنتجاتها، وقد خسر اقتصاد إسرائيل نتيجة المقاطعة الأوروبية للمنتجات الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية بما يُقدر بـ6 مليارات دولار عامي 2013 و2014، ووصلت الخسائر لـ9.5 مليارات دولار نهاية 2015.
خشية إسرائيل تعود إلى أن النواة الأساسية لحركة المقاطعة ضدها والدعوات لعزلها، تستهدف الملايين في العالم والنواة الصلبة في المجتمعات الغربية بالذات، في ضوء أن الشرعية الدولية مصدر أساسي لقوة إسرائيل، وهو ما حدا بها لنشر ما أسمتها "قوائم سوداء" لأسماء المنظمات التي تشن المقاطعة الدولية ضد إسرائيل، وأسماء الدول التي تقدم لها الدعم المالي للاستمرار في حملات المقاطعة الدولية لها.
ويمكن الحديث عن نشاطات عديدة لمقاطعة إسرائيل في أنحاء مختلفة من العالم، سواء على صعيد المقاطعة الأكاديمية والثقافية، بانضمام اتحاد الطلبة في بريطانيا الذي يضم 7 ملايين طالب لمقاطعة إسرائيل، وإلغاء بعض الحفلات الفنية الأوروبية فيها، كما شهدت الأشهر الأخيرة نشاطا متزايدا لفعاليات الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، وآخرها إعلان جمعية علماء الأنثروبولوجيا الأميركية مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وتوقيع 343 أكاديميا بريطانيا يمثلون 72 جامعة ومؤسسة تعليمية بريطانية على عريضة لمقاطعة إسرائيل.
تتصاعد مقاطعة إسرائيل في أوروبا عبر خطوات تحاكي ما كان يوجه ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا (الأبارتهايد)، مثل عدم تعامل الجامعات الأوروبية مع نظيراتها الإسرائيلية، مقاطعة البضائع الإسرائيلية، الملاحقة القانونية للضباط الإسرائيليين فور وصولهم أراضي الاتحاد الأوروبي بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، وغيرها.
تطورت تجربة المقاطعة ضد إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة، وتميزت بتمدد عبر القواعد الجماهيرية في المدن الغربية وقطاعات متعددة كالنقابات والاتحادات والجامعات والجمعيات العمومية للجمعيات التعاونية الاستهلاكية والصناديق الاستثمارية والبلديات، وتوسعت باضطراد، وقد استهدفت المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية بسبب تواطئها مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، مما دفع إسرائيل لاستشعار خطورتها، واتساع رقعتها، فنقلت معالجتها من وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى وزارة الشؤون الإستراتيجية.
أخيرا.. يكمن تخوف إسرائيل -بعيدا عن التهويل والمبالغة- في خطورة تحول موجات المقاطعة الدولية التي تواجهها حاليا، إلى حملة عالمية غير مسبوقة لنزع الشرعية عن مجرد وجودها، لأن هذه الموجات ستتعاظم في ظل أن إسرائيل لا تفوت فرصة دون استفزاز العالم، مما دفع أحدهم لاعتبار أن هذه الموجات قد تتحول "طوفانا" يعمق عزلة إسرائيل الدولية، وينزع الشرعية عنها.
المصدر : الجزيرة