"أبلسة أهل السُّنة"، عنوان لأحد أهم كتب الدكتور الماروني المسيحي نبيل خليفة، أحد مثقفي لبنان الذين راقبوا تجربة التلاقح والصراع الثقافي في الشرق، مع خبرة إعلامية واجتماعية سياسية تَنقّل بها بين محاضن بيروت وإذاعة مونت كارلو الفرنسية.
ولست بصدد استعراض الكتاب المهم المعنون باستهداف أهل السنة، ولا بالضرورة موافقا على كل فصوله، لكنه مهم جدا من حيث الوصول لفهم ما يجري من حرب مركزية ومواجهات فرعية، عبر لغة "الجيوبولتيك" وما وراء الأيديولوجيا.
ومن شأنه أن يكون لدى القارئ قاعدة معلومات وخلفية مهمة للغاية، لمحاور التحرك الأُممي العالمي وكيف التقت مع نظرية صناعة تحالف الأقليات، وكأنها خريطة طريق تشرح نتائج الواقع الحالي للشرق المسلم، ليس لأجل غالبيته السنية فقط، ولكن للشرق بكل طوائفه وأديانه وسلمه المدني العام.
ولعل عنوان الكتاب كما بعض لغة فصوله وتزكية أنظمة معينة، أثّر على صورة المؤلف، في تقييمه، رغم دقة العنوان عمليا، لكنه حوى بحوثا إستراتيجية استقصائية، في وعي الحراك العميق للفكرة الدولية في منهجية تفتيت الشرق، والدور المحوري الدائم لقاعدتين يعتمدهما الغرب اليوم، وهما شراكة كبرى مع محور موسكو إيران الجديد، ولكن هذه الشراكة لا تلغي فرص التنافس بينهما وإن ثبتت القاعدتين التي نفهمهما كما يلي:
الأولى: أن الجسم الإسرائيلي هو مكون لازم للمشروع الغربي لإخضاع الشرق، وهذا ليس جديدا، لكن نظرية تهميشه في بداية الربيع العربي، أضرت بتقدير هذا الموقف، ودوره في كل ما جرى من إسقاط ثورات الربيع وفتح باب الجحيم عليها.
والثانية: أن الثورة الإيرانية ثورة شيعية وليست ثورة إسلامية، عبر التوصيف السياسي لا الصراع المذهبي، وقد رأت حجم فرصة تلاقي الغرب مع منظومتها الدينية، لصناعة إمبراطورية جديدة تستلهم الروح الطائفية كقناعة بدورها، وإيمانا بها، وكأيديولوجية انفصالية عن الشرق وتوظيف للدولة الدينية التي آمن قادتها منذ آية الله الخميني بفكرتها، والتي تأثرت بعناوين الإسلام، لكن طغت عليها فكرة ولي الفقيه، واستدعاء المنبر الدعائي الضخم لصناعة أمته الكبرى في إيران وخارجها.
ويلزم هنا توضيح مهم للغاية، وهو أن ذلك ينبع من واقع إيمان عقائدي لدى هذه النخبة الدينية في أوساط الثورة الإيرانية، وليس مجرد توظيف سياسي لمصلحة الجذور القومية الفارسية.
وقد ساهمت معطيات عدة في خنق الفكرة الشيعية التنويرية، ومدرسة الأخلاق عند أئمة الاعتدال في التشيع، خصوصا حين فرضت إيران منهج مدرسة الولاية على كل أتباعها وخنقت وحاصرت مدرسة المراجعة والتجديد الشيعي، فانهارت فكرة التنوير والعدالة الاجتماعية، وذاب الإنسان الشيعي في مفهوم الولاية الجديدة، وانسحب من الشراكة الإسلامية والإنسانية، فسهُل توظيف كوادره في لعبة الأمم الجديدة.
وهذا ما أكده د. رامي علّيق مسؤول التعبئة والتنظيم المنشق عن حزب الله منذ أكثر من عشر سنوات في لقائه مؤخرا مع التلفزيون العربي في لندن، وهو لقاء مهم يعرض قصة كيف يذوب الكادر الشيعي في تنظيمات إيران الولائية، ويقتصر دوره على تنفيذ المهام، وكيف كانت شبكة التواصل المتعددة المستويات للمسؤولين الإيرانيين تتعامل مع التنظيم في لبنان ذي الولاء المطلق لإيران.
هذا التقاطع بين أمن إسرائيل وصعود مشروع ولي الفقيه، استدعى أو احتاج أو تعامل مع المفهوم الذي تم ضخه ليس من الفكرة التحالفية للمحورين فقط، بل من ذات النظام الرسمي العربي، وذلك من خلال الترويج الضخم غير المسبوق لمفهوم "أبلسة أهل السنة" كتصنيف معنوي وسياسي.
وتحت مبرر الحرب على الإسلاميين السنة، أفرز المفهوم بعنصرية قهرية الإنسان السني، خارج الوحدة الأممية للبشر، على الأقل في محطات الحروب ومشاريع التصفيات الصعبة، للجم أي صعود يصنع نهضة سياسية واجتماعية للشرق، بقوته الديمغرافية الطبيعية، وحاضنته السنية.
لقد كان لافتا جدا مناقشة د. نبيل خليفة هذا المفهوم، تحت مبدأين مهمين للحياة الإنسانية المعاصرة والسلم الأهلي العالمي، وهو أن مشروع أو مفهوم "أبلسة أهل السنة" استخدم لخلق صراع لم يكن محتوما ولا مرغوبا بين كنائس ومسيحيي الشرق وبين أهل السنة.
وأن الفتنة الطائفية الكبرى التي خلقها تقاطع المشروع الدولي والإيراني بين السنة والشيعة، لن تخدم المسيحيين في الشرق ولا روح الشراكة الإنسانية الجامعة لجغرافيتهم التاريخية، وكأنه يحذر من نتائج توجهات البطريرك الماروني ومشروع الجنرال عون الذي يتقدم في لبنان.
لقد كان مهما للغاية، استعراض د. نبيل لحاجة المشروع الدولي الإقليمي لاستخدام جرائم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، وتوظيفها في حروب موسمية عابرة متوحشة ومروعة، للمساعدة في الترويج لمفهوم أبلسة اهل السنة، واستباحة حقوقهم وإسقاط ضحاياهم، ومنع نهضتهم الإنسانية، وصولا إلى تفتيت جغرافيتهم.
إن المشكلة الكبرى في دلائل هذا المشروع، لا تقف عند إدانة المعسكر الدولي والإقليمي والتحالفات الجديدة فيه، وطبيعة توحش أدواتها التي سمحت بل دعمت جريمة العصر في سوريا وغيرها، وما طحنته من المدنيين السنة والأقليات، وما سببته في إسقاط عقيدة الوئام المدني التي استقرت في الشرق.
ولكن المشكلة أيضا، أن أكثر الأدوات مساعدة لدعم هذا المفهوم الخطير، هو توظيف دول وحكومات سُنية للحصول على غطاء غربي يحمي مؤسسة الحكم في هذه الدولة أو تلك، أو لتحقيق مواسم صراع محلية يُبرّر بها تأخر الضرورات الإصلاحية والنهضوية للدولة، خشية من أي مساحة للحريات السياسية.
أما المشكلة الثانية، فهي تأثر البناء الفكري في العالم الإسلامي وحواضره المعاصرة من هذا الحصار والكبت، فيرتد إلى الفكرة اليمينية الدينية المتطرفة، عوضا عن التمسك بقيم الإسلام الحقيقية التي أنتجتها مؤسسة الفكر السني المتعددة لقرون، ووضعت فرص تجديدها المدني والسياسي على طريق الاستنباط مع بقاء مدرسة التقليد الفقهي والسلفي حاضرة في مكتبة التراث.
فنُحيّ التجديد الذي تَصنعُ به الأمة عهدها المعاصر من خلال أصولها الشرعية وآفاقها الحضارية، واستُدعي التقليد المتحالف مع المستبد بكل أنواعه لكن بتوظيف أمني متدحرج، فحوصر العقل المسلم المعاصر في معاقله، وفُتحت حرب الأبلسة على السنة، وجر بعضهم عُنوة أو بتقصير مثقفيهم إلى أرشيف الغلاة من داعش وبقية أنواع التطرف ليكون الرد عاطفيا لا إستراتيجيا يحمي بلدانهم وشرقهم.
والسؤال الكبير اليوم، هو ما هي خطة العبور للنجاة من مشروع أبلسة السنة والاستبداد الأحمق الذي يخدمه ويمكّن للمشروع المعادي، وهل يكون الحل أو جزءا منه العمل على إطفاء الحريق وسحب الشعوب من مرمى العنف الحكومي والجماعات المتطرفة، وإطلاق خطاب النهضة من جديد في معركة الفكر والقلم، التي تنبت شتلات الأمل القوية، ليكون ساق الربيع القادم أقوى وأذكى من عنف الطغاة.