يؤمن بعض مثقفي باكستان الحالية بأن انفصال بلادهم عن الهند سنة 1947 كان مؤامرة استعمارية ضد مسلميها؛ حتى لا يكون لهم نصيب في إدارة دولة يمكن أن تكون قوة عالمية كبرى يوما ما.
وبالمثل يرى بعض البنغاليين أن انفصال بنغلاديش عن باكستان سنة 1971 كان مؤامرة صنعتها الهند وشاركت فيها أطراف من جانبي الدولة الموحدة قبل انشطارها، وأن هذه المؤامرة أضعفت الدولتين الجديدتين في مقابل الهند التي كانت بتوحدهما واقعة بين فكي أسد.
والجماعة الإسلامية التي أسسها المفكر الشهير أبو الأعلى المودودي قبل انقسام الهند بقليل (سنة 1941) هي من مكونات المجتمع الأهلي في باكستان وبنغلاديش التي وقفت في حرب عام 1971 في وجه الانفصاليين، وسعت إلى الحيلولة دون انشطار الدولة، وهو موقف محمود جدا لو بقيت الدولة موحدة!
وقد تعرض كبار قادة الجماعة الإسلامية في السنوات الأخيرة -على خلفية أحداث حرب "الاستقلال"- لسلسلة أحكام قاسية أدت إلى إعدام كبار قادتها الذين كانوا شبابا وقت الحرب؛ منهم: مطيع الرحمن نظامي أمير الجماعة، وعبد القادر ملا زعيم حزبها السياسي، ومحمد قمر الزمان مساعد الأمين العام للجماعة الذي كان في العام التاسع عشر من عمره عند اندلاع حرب الانفصال، وغيرهم، إضافة إلى آخرين ينتظرهم الحكم ذاته.
ولا يبدو هذا الحدث منفصلا عن نشأة الدولة المستقلة في بنغلاديش وما شهدته من تطورات سياسية خلال مسيرتها القصيرة، كما لا ينفصل عن الطبيعة شبه الإقطاعية لأنظمة الحكم في المنطقة وعلاقة الجيوش بها، وما يقع من تنافس حاد بين أطراف معينة تشارك في العملية السياسية وتتبادل فيما بينها حكم الدولة.
البعد التاريخي
نتج انشطار باكستان عام 1971 إلى دولتين عن حرب مؤلمة صنعت واقعا مغايرا لما سبقها في بلدان شبه القارة الهندية، وكان من الطبيعي في هذه الحرب أن يدافع كل طرف عن خياره -الوحدة والانقسام- فسعت باكستان الحالية وأنصارها من البنغال إلى الحفاظ على وحدة شطري الدولة اللذين لا تربطهما حدود، في حين سعى الزعيم البنغالي شيخ مجيب الرحمن - الفائز هو وحزبه (رابطة عوامي) في انتخابات العام 1970- بمساعدة هندية ضخمة إلى انفصال البنغاليين في دولة وحدهم.
وقد ذهب بعض المفكرين الباكستانيين إلى أن انفصال المسلمين عن الهند في دولة خاصة بهم -بعيدا عن كونه صوابا أو خطأ- جاء في صورة رديئة وهشة؛ لأن شطري الدولة (باكستان الغربية، وباكستان الشرقية أو بنغلاديش) لا تربطهما حدود، وفي الوقت نفسه يتشكل سكانهما من أعراق مختلفة تحتمل العلاقة بينها أن تسوء وتتحسن، وعلى أوتار هذا التوتر يمكن أن تلعب كثير من القوى الداخلية والدول المتربصة مستغلة طبيعة الجغرافيا السياسية والسكانية للدولة.
وأحسب أن أسبابا عرقية في المقام الأول هي التي دفعت القائد السياسي البنغالي مجيب الرحمن -المؤيد أصلا لمحمد علي جناح في تأسيس باكستان- إلى السعي باكرا وبإلحاح إلى حكم ذاتي في باكستان الشرقية أشبه ما يكون بالانفصال، وفي المقابل لم تستوعب باكستان الغربية بزعامة ذو الفقار علي بوتو والجنرال يحيى خان حينئذ هذه الحركة، حتى فرضت الحرب المؤلمة نفسها، وانشطرت الدولة سياسيا بعد أن كانت منشطرة جغرافيا واجتماعيا.
ومع أن حزب رابطة عوامي بزعامة مجيب الرحمن حقق هدفه الانفصالي، إلا أن الكيان السياسي الذي ولد عقب ذلك -وأُطلق عليه اسم "بنغلاديش"- جاء مشوها سياسيا، وعاش في جو اقتصادي وبيئي خانق، حيث لم تعرف البلاد الديمقراطيةَ إلا استثناء، فبدأ الاستبداد والديكتاتورية من أول يوم على يد مؤسس الدولة مجيب الرحمن نفسه الذي جمع السلطة في يده جمعا مطلقا، وأعلن الطوارئ، وطارد معارضيه، حتى أطاح به الجيش في انقلاب عسكري عام 1975 شهد مصرع الرئيس وأفراد أسرته عن بكرة أبيهم، إلا ابنتين له -إحداهما ابنته الكبرى شيخة حَسينة واجد رئيسة الوزراء الحالية- إذ كانتا خارج البلاد حينئذ.
ندوب مبكرة
ترك سيناريو حياة مجيب الرحمن، وتجربته في الحكم، والنهاية التي انتهى إليها أربعة ندوب خطيرة في جسم الدولة البنغالية ونخبتها السياسية كما يلي:
أولها: أن بنغلاديش قامت بعد صراع دموي مع شركاء مشروع الدولة الإسلامية المستقلة عن الهند، وبتعاون عميق وواسع مع نيودلهي العدو التقليدي للطرفين. وهو أمر ناتج في الحقيقة عن السعي العلماني الحثيث في كلا الجانبين منذ الاستقلال عن الهند إلى تنحية الإسلام ومنعه من جمع هذه الشراذم بحيث تكوِّن كيانا قويا.
وثاني الندوب التي تركتها تجربة والد رئيسة الوزراء البنغالية الحالية في حكم بنغلاديش: أن الدولة احتوت بعد الانفصال على بنغاليين سعوا إلى الانفصال، وآخرين عملوا ضده، وهو تناقض لا يمكن علاجه إلا بالنظر إلى مصلحة الدولة وحماية لحمتها الاجتماعية.
وثالثها: أن مؤسس الدولة افتتح تاريخها بفصل من الديكتاتورية المقيتة التي يمكن أن تكون أكبر مسوغ لانطباع الدولة بهذا الطابع الاستبدادي في أغلب سنوات عمرها، وكثرة ما عانته من انقلابات عسكرية أطاح أولها بالمؤسس.
ورابع هذه الندوب: وفاة مجيب الرحمن نفسه وأسرته بطريقة اغتيال مأساوية مهدت لها الأجواء التي صنعها بنفسه، وهو ما سهل عمليات الاغتيال والقتل خارج القانون وبمسوغات قانونية هشة، بدون تفريق بين حاكم ومعارض.
وقد تحددت وفقا لهذه المعطيات كثير من معالم حكم شيخة حسينة منذ دخلت معترك السياسة خلفا لوالدها في قيادة حزب رابطة عوامي، مع ما للظروف الموضوعية من تأثيرها الذي سنشير إليه قريبا.
ثأر أم ديكتاتورية؟
التاريخ ليس مجرد مجموعة من الأحداث تصنعها نظم قانونية واجتماعية تحدد مسارات جبرية للإنسان، بل إن الجانب النفسي الإرادي لصناع الحدث التاريخي حاضرة في صفحات التاريخ وبين سطوره بوضوح، فالعقد والأزمات النفسية وجنون العظمة والفصام الشخصي، وكذلك جوانب الامتياز والتفوق الشخصي والمهارات العقلية والقيادية؛ كلها عوامل تؤثر بقوة في صناعة الأحداث وتوجيهها.
لم تكن حسينة واجد حين اغتيلت أسرتها وهي خارج الوطن فتاة صغيرة (مولودة عام 1947)، بل كانت شابة قاربت الثلاثين، إلا أن مأساة الاغتيال البشع لا شك سرقت منها كثيرا من السعادة والفخر بأسرتها الحاكمة وبأبيها المؤسس للدولة، وتركت الحادثة على صفحات شخصيتها القريبة والبعيدة آثارها السلبية.
فإذا أضفنا إلى هذا أن نزعات الاستبداد والديكتاتورية التي طبعت شخصية والدها بقي كثير من آثارها في شخصيتها ظاهرا، فيمكننا أن نفهم جانبا من حرصها على الانتقام من خصوم والدها، فالجرح النفسي حين تكون معه قدرة على الانتقام وميل إلى التسلط لا يترك فرصة تمر بدون شفاء الغليل.
إذن يأتي انتقام حسينة واجد رئيسة الوزراء البنغالية "المنتخبة" من خصومها السياسيين -في صورة محاكمات لم تتوفر فيها ضمانات العدالة كما علقت جمعيات حقوق إنسان دولية- من باب الانتقام الشخصي من خصوم والدها، لكن الأخطر هو أنها تنفيس عن النزعة الديكتاتورية لدى المرأة انتقاما من منافسيها، فهي تسعى إلى ما سعى إليه والدها من إضعاف المعارضة وضربها في كوادرها وزعاماتها النشطة بقسوة، ولهذا تجاوز انتقامها حدود المعارضة الإسلامية إلى بعض الشخصيات البارزة في حزب غريمتها خالدة ضياء.
ومع هذا، فإن التحليل السابق غير كاف لتفسير وفهم التوقيت الذي اختارته زعيمة "رابطة عوامي" للبطش بخصومها وسوقهم واحدا وراء الآخر إلى أعواد المشانق.
كذلك لا يكفي أن نفسر تركيزها في المقام الأول على زعامات التيار الإسلامي السلمي -المتمثل في الجماعة الإسلامية البنغالية- بقوة هؤلاء الخصوم سياسيا وتأثيرهم الواسع في الشارع البنغالي، فهذا قد يفسر جانبا من سبب السعي إلى الخلاص منهم، ولكنه لا يبين لنا لماذا لم تفعل ذلك في وقت سابق من حكمها للبلاد الذي قارب مع أول حالة إعدام نفذتها في صفوف المعارضة عشر سنين؟
لقد تولت حسينة واجد رئاسة وزراء بنغلاديش عقب ثلاث نوبات انتخابية قاطعت المعارضة آخرها؛ النوبة الأولى: من 1996 - 2001، والثانية والثالثة: من 2008 إلى الآن، لكنها لم تشرع في إعداماتها السياسية إلا عام 2013.
ولا يناقض هذا اهتمام القضاء البنغالي في ظل حكومتها قبل هذا التاريخ بقضية اغتيال والدها الرئيس مجيب الرحمن وأسرته، حتى حكمت المحكمة على الجناة حكما نهائيا بالإعدام في أوائل عام 2010؛ فهذه القضية هي عمل جنائي لا غبار عليه، ولم يكن ثمة اعتراض على إجراءات المحاكمة، ولم يبد فيها أي نوع من التسييس، وإن كان لوجود حسينة في سدة الحكم تأثيره في الاهتمام بالقضية وإصدار حكم نهائي فيها بعد مرور أكثر من ثلث قرن على حادث الاغتيال.
فإذا جئنا إلى الإسلاميين أصحاب البرامج الإصلاحية السلمية، والذين يشاركون في المنافسات الانتخابية متى فُتح بابها، ويشاركون شعوبهم في ثوراتها السلمية ضد الاستبداد؛ فهؤلاء تتجه رياح السياسة الدولية في السنوات الأخيرة ضدهم بقوة، وهي مستعدة إلى التواطؤ مع أشد الأعمال عنفا حين ترتكبها الأنظمة الديكتاتورية وهي تكافح هؤلاء الإسلاميين ذوي الأنياب المخملية!
لقد اجتاحت العالم العربي مع بدايات هذا العقد من الزمن سلسلة من الثورات تردد صداها في العالم كله، وما زال تأثيرها قائما إلى الآن؛ يصنع سياسات دول، ويحدد اتجاهات أنظمة، ويشكل تحالفات تجمع النقيض ونقيضه؛ منعا لهذه الثورات من أن تعود بعد أن أُجهض جانب كبير من قوتها. وفي جولات إعادة الدولة من جديد إلى يد الأنظمة المستبدة الموالية للخارج في دول الثورات، أباح العالم لنفسه بدوله الكبرى وأكثر منظماته الدولية أن يقوم بوظيفة الشيطان الأخرس، فلا يتكلم إن تكلم إلا على استحياء ومن خلال منظمات أكبر تأثيرها إعلامي هامس.
ومن هنا يمكن أن نفهم التنديد الدولي الخافت والخجول بإعدام شيخة حسينة لخصومها السياسيين في المرحلة الحالية واحدا تلو الآخر على أنه لا يختلف عن موقف الغرب والعالم الصامت من مذابح الأنظمة للمعارضين في سوريا ومصر وليبيا وغيرها من الدول التي سعت شعوبها إلى إنهاء حقبة الديكتاتورية في بلادها.
ولم يكن أمام رئيسة الوزراء البنغالية من فرصة تستغلها لضرب خصومها مثل أحداث حرب الاستقلال، وإن مر عليها أكثر من أربعة عقود من الزمن، مستغلة في ذلك تعاون الهند التي تدخلت في النزاع من أوله بحجة حماية الأقلية الهندوسية في بنغلاديش. وهو ما ينكشف تناقضه مع موقف مجيب الرحمن نفسه الذي عصف بمنافسيه، لكنه لم يربط ذلك بأي حدث جرى خلال الحرب، وقبل شهور كتب أنصار عباسي في صحيفة "ذي نيوز" الباكستانية مقالا علق فيه على أحكام الإعدام بعنوان: "حسينة تنتهك التزام والدها أن ننسى ونغفر أخطاء الماضي".
إن بعث الجراح القديمة ومآسي حرب الاستقلال في بنغلاديش ليس إلا ذريعة للخلاص من الخصوم السياسيين الخطرين في أجواء دولية تسمح بهذا، وتحتاج فيها ابنة مجيب الرحمن إلى حلفاء أبيها القدامى في نيودلهي؛ حتى تستمر في مصادرتها للديمقراطية التي أتت بها في انتخابات حرة -لم تتكرر بعدها- أُجريت عام 2008 في ظل فشل غريمتها خالدة ضياء في إدارة البلاد وتحقيق الاستقرار حينئذ.
وقد أعدت رئيسة الوزراء البنغالية عدتها لمواجهة أي مقاومة جادة لحكمها بالتحالف الداخلي مع جنرالات الجيش والخارجي مع الهند، تماما مثلما فعلت الأنظمة العربية في مواجهة سلسلة الانتفاضات الثورية الواسعة التي خرجت ضدها.
والحقيقة أن الرهان على خيارات القوة في تكميم أفواه الشعوب قد أثبت التاريخ عدم جدواه؛ لأن اليد الموضوعة على الزناد توشك أن ترتخي يوما، كما أن وضع التربص بين الشعوب وحكامها لا تطيب معه عيشة لحاكم ولا محكوم.
أين باكستان؟
ووسط هذا الجو الخانق للحقوق والحريات في بنغلاديش يبدو موقف باكستان الرسمي -التي يهمها الأمر من قريب وبعيد- غامضا، فلم نر منها إلا بعض الحراك الشعبي والاحتجاجات الطلابية والجماهيرية من الجماعة الإسلامية الباكستانية.
ولعل الأمر يرجع إلى ميل باكستان إلى عدم التدخل في الشأن البنغالي برمته منذ الانفصال وعقد الاتفاقية الثلاثية بين باكستان وبنغلاديش والهند بإغلاق الملفات الخاصة بالحرب سنة 1974، وقد بدا الميل إلى التهدئة في زيارة فريدة قام بها الجنرال برويز مشرف لدكا عام 2002 وخاطب فيها المسئولين والشعب البنغالي بقوله: "الإخوة والأخوات في باكستان يشاركونكم الألم للأحداث التي جرت عام 1971، ويعربون عن أسفهم لتجاوزات ارتكبت خلال الفترة المشؤومة. دعونا ندفن الماضي بروح الشهامة، ولا نجعل ضوء المستقبل خافتا".
ومن جهة أخرى أثار بعض المحللين إشكالية فتح بنغلاديش ملفات الحرب أمام المحاكم الدولية، وهو أمر ليس راجحا، وأقرب منه أن باكستان -التي تطبق صورة ما للديمقراطية- تتبع سياسة خاصة في التعامل مع ملفات الإسلاميين المنافسين قائمة على استيعابهم وابتلاعهم سلميا، ولعلها بالمثل تركت لبنغلاديش اختيار طريقتها في مواجهة هذا الخصم اللدود.
وثمة أصوات باكستانية تنادي الدولة بالتحرك واستباق الأحداث قبل الإيغال في مسلسل الإعدامات في بنغلاديش، فعقب الحكم بإعدام أمير الجماعة الإسلامية مطيع الرحمن نظامي رحمه الله نادى الكاتب أنصار عباسي في مقال له تحت عنوان "هل فعلت باكستان ما يكفي إزاء اضطهاد حسينة للموالين لها عام 1971؟" المسئولين في بلاده بتفعيل اتفاقية عام 1974 التي وقعها مجيب الرحمن مع باكستان بمشاركة هندية، قائلا: "رئيس وزراء بنغلاديش أعلن فيما يتعلق بالفظائع والدمار الذي ارتكب في بنغلاديش عام 1971 أنه يريد من الناس أن تنسى الماضي، وتبدأ بداية جديدة، مشيرا إلى أن شعب بنغلاديش يعرف كيف يسامح".