"حكومة نتنياهو تحمل بوادر فاشية" هكذا قال أيهود باراك أحد أكثر متطرفي حزب العمل والمحسوب على تيار الصقور الذي صوّت ضد أوسلو "ب"، كان باراك اليميني قريباً من نتنياهو أثناء قيادته لحزب العمل، لكنه بات يشعر بخوف، مثله مثل كثيرين أمثال يوفال ديسكين، والصحافي المخضرم روني دانييل، ورئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين، فقد بات الشعور في اسرائيل اثر الاعلان عن تعيين ليبرمان وزيراً للأمن بأن الدولة تسير في الاتجاه المعاكس لحركة العالم والتاريخ.
الحقيقة أن هذا مساراً طبيعياً لمن يراقب الانزياح الديمغرافي في تلك الدولة، والذي بدأ منذ ثمانينات القرن الماضي، حيث تنامت اليهودية الدينية والقومية إلى أن وصلت إلى الحد الذي سيطرت فيه على الدولة، وما الحكومات القائمة إلا انعكاس طبيعي لصورة المجتمع الاسرائيلي، الذي يسير باتجاه واحد نحو اليمين، مسدلاً الستار على يسار أخذ على عاتقه طرد الفلسطينين، واقامة دولة، كان قد أرسى قواعدها بعيداً عن اليمين، وبعيداً عن الدين، كما قال ثيودور هرتسل في كتابه الدولة اليهودية الذي نشره قبل مائة وعشرين عاماً.
هرتسل كان علمانياً خشى من سيطرة المتدينين والقومين على الدولة؛ لأن في تلك السيطرة تكمن مقتل الدولة، فكتب "يجب أن يبقى المتدينين داخل كنسهم بعيدون عن السياسة" هكذا أقيمت ولكن بعد ما يقارب من سبعة عقود جرت مياه كثيرة على بوابات تلك الكنس، لتضع أصحابها وسط الخارطة السياسية في اسرائيل، فالحكومة الاسرائيلية تتشكل من مجموعة من القومين والمتدينين الذين يعتبرون أن أحداث التوراة تمت في الضفة الغربية، وبالتالي فهي أرض مقدسة، هكذا تقول الأساطير والخرافات التي لم تجد ما يسندها من قبل مدرسة علم الآثار اليهودية، وأبرز روادها البروفسور: اسرائيل فلكنشتاين الذي نفى بعد عقود في متابعة الحفريات أن تكون قد أقيمت دولة لليهود في فلسطين، أو أن اليهود كانوا هنا، وكذلك البروفسور زئيف هرتسوغ الذي قال كلمته المشهورة بعد كل الحفريات في القدس نهاية تسعينات القرن الماضي، حينها لم يجد سوى آثار كنعانية وآبار مياه كنعانية، قال: "يجب أن نرفع قبعاتنا احتراماً للكنعانين".
لم يعد لصوت العلم والعقل متسع في السياسة الإسرائيلية التي بات يسيطر عليها مجموعة من الشبان يتنافسون على التطرف والكراهية وسحق الحقوق الفلسطينية، هم مجموعة من العقائديين بعضهم مستوطنين يسكنون في مستوطنات الضفة الغربية، والآخرين ممثلين لهؤلاء المستوطنين، كلهم يؤمنون بما نفاه علم الآثار الإسرائيلي، معتبرين أن الضفة الغربية يجب أن تضم لإسرائيل، وقد تسرب ذلك قبل فترة بأن الكنيست يحضّر لطرح مشروع الضم بعد العودة من إجازته .. لا شيء غريب لمن يقرأ خارطة تركيب الحكومة والكنيست.
إسرائيل الجديدة تعيد إيقاظ الخرافة من سباتها وتسلحها بالقنبلة النووية، وتجعل من الأسطورة حقيقة القائم ، وتريد للمُتَخيل أن يتحقق بقوة السلاح وبترسانة عسكرية توضع فجأة في يد أكثر كارهي العرب، والذي لا يتوقف عن الحلم بسحقهم أوطردهم، إنها تعيد الحرب إلى بداياتها الأولى، بعد إسدال الستار على عملية التسوية للأبد، فمن الوهم استمرار الاعتقاد بأن تتحرك العملية مع هذه الحكومة أو مع التي ستليها، والتي ستكون حتما أشد تطرفا.
هذا ليس سيئا للفلسطينيين، فإسرائيل تعيد الصراع إلى مربعه الأول صراع، بين قوميتين بعد أن أضاعت فرصة تسويته بأقل الخسائر، بل وتعيده بلغة القرون الوسطى، وأبعد من ذلك بلغة يوشع بن نون ومملكة التاج، وكل الخرافات التي صاحبت العقل الديني اليهودي.
لكن ما هو خطير هو أن هذا العقل لم يعد مسلحا بسيف أو برمح داوود بل مدججا بأحدث أسلحة الموت .. إن الصراع الذي فتح في إسرائيل وأدى إلى إقالة يعلون وتعيين ليبرمان بدأ من تلك الصورة التي نشرتها منظمة بتسليم، والتي قتل فيها جندي الشهيد عبد الفتاح الشريف وهو جريح ملقى على الأرض، وبينما رفض يعلون قتل الجريح .. هاتف نتنياهو والد الحندي داعما وذهب ليبرمان ليتضامن معه إلى المحكمة.
إذا كان هذا هو العقل الذي يحكم إسرائيل " كل التضامن مع من يقتل العربي" بلا خجل، حتى وإن كانت الجريمة مكللة بالعار، و بالصوت والصورة، هكذا يتصرفون وبلا أدنى قلق من الموقف الدولي فإن القادم ينذر بالأسوأ.. نحن أمام عقل بات يغرق أكثر في التعاويذ ودولة تغرق أكثر في الخرافة لكنها مسلحة، بما يجب أن يدعو العالم للخوف بشدة فإذا كان باراك يحذر من بوادر الفاشية.. فإن العالم دفع ثمن باهظ عندما تسيد العقل الفاشي وامتلك السلاح ، فتجمعهما سوية وصفة للدمار هكذا قالت تجربة أوروبا .
نبأ برس