يتداول السياسيون والإعلاميون مصطلح النظام العربي، وكأنهم يعبرون عن فهم متبادل فيما بينهم، بينما تقديري أنه لو سئل أحدهم عن معنى المصطلح أو تعريفه لعجز عن الإجابة. نسمع المصطلح كثيرا، وتكاد الأوساط الأكاديمية لا تحرك ساكنا إزاء استعماله بدون ركيزة علمية أو رؤية ثقافية واضحة المعالم.
لم يقف مسؤول عربي يوما لا من الأنظمة العربية ولا من الجامعة العربية ليعرف لنا المصطلح أو ليحدثنا عن مضمونه أو المعاني التي ينطوي عليها، ولم يتصد إعلاميون للأمر، ولم نقرأ تقارير إعلامية تحاول البحث في أصل المصطلح ومغازيه والأفكار التي يمكن أن يحتويها. ويبدو أن تعريف المصطلح متروك للمزاجية والأهواء السياسية لكي يكون كل طرف أو كل فرد مرتاحا في استعماله حتى لو كان الاستعمال مضللا.
من مسلمات العلوم السياسية أن تعني كلمة النظام تعريفا معينا يقود المتكلم أو الكاتب القارئ نحوه، وأن تتضمن وجود قواعد وقوانين مكتوبة ومواثيق وضوابط وتعليمات ولوائح تنظم عمل النظام، وتوضح الأسس والمبادئ التي يقوم عليها النظام، وتبين الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، والوسائل والأساليب التي يتبعها من أجل الوصول إلى الهدف.
مصطلحات مبهمة
إذا راجعنا الأدبيات الصادرة عن الجامعة العربية أو عن الأنظمة العربية لا نجد تعريفا للنظام العربي، وما نجده فقط إشارات عابرة لهذا النظام الشبَح دون أي توضيح أو تعريف. وقد سبق أن مرت علينا تعبيرات أخرى بقيت أيضا مبهمة مثل الوحدة العربية والتضامن العربي والعمل العربي المشترك.
تُطرح المصطلحات على الناس وتبدأ وسائل الإعلام بتداولها، لكن دون تطوير رؤية جماهيرية مساندة للمصطلح ومتفهمة له غالبا بسبب أن الذي يصيغ المصطلح لا يدري عما يتكلم، والذي يتناقل المصطلح لا يدري إلى أين يأخذ القراء والمستمعين والمشاهدين.
المصطلحات ذات الطابع الإسلامي لا تخلو أيضا من الإبهام كما المصطلحات المتعلقة بالعروبة والعرب. فمثلا نحن لا نعلم بالضبط ماذا يعني شعار الإسلام هو الحل، ولا ندري بالضبط ماذا يعني مصطلح الخلافة، حتى أننا لا نعلم بالضبط بعض المصطلحات المتعلقة بالحلال والحرام مثل مصطلح الاختلاط والعورات الرجالية والنسائية. ولهذا تبدو المصطلحات في كثير من الأحيان مجرد "هوسات" لقائلها أو المتمسك بها، أو مفاهيم تعبر عما يدور بخلد قائلها، أو ما يتمنى أن يراه على أرض الواقع إسلاميا أو عربيا.
يشكل إبهام المصطلحات جزءا من الشخصية الفهلوية العربية وهي الشخصية التي تدعي المقدرة على القيام بأعمال، وهي في الحقيقة عاجزة وتغطي عجزها ببديع الكلام والشعارات الرنانة والاستعراض الخاوي.
الأنظمة العربية تعاني من الضعف العلمي الذي يصل إلى درجة الجهل، ومن الفشل الإرادي ومن التبعية لإرادة الغير، وتحاول التغطية على عيوبها بمصطلحات تثير إعجاب طوابير الجهال وتضعهم في ذات الوقت في حيرة من أمرهم. أي أن الأنظمة العربية تتعمد الغموض كنوع من التدليس على الناس لكي يظنوا أن وراءها ما لا يفهمون من مصطلحات أعمال عظيمة قادمة تظهر للعيان في الزمان والمكان المناسبين. وما على العربي إلا أن يستمر في الانتظار إلى أن يمله الانتظار فيعبر التاريخ إلى حياة الآخرة فيرتاح هو من الصبر ويرتاح الصبر منه.
النظام له وقائع
عندما نتحدث عن نظام إنما نعبر عن واقع معين محكوم بتعليمات وتشريعات وقوانين ونظم محاسبة وإدارة ومساءلة ومسؤولية.. الخ. ونفترض أيضا وجود مجتمع مكون من أفراد أو مؤسسات أو أحزاب أو شركات تتقيد بهذا النظام وتسري تشريعاته وقوانينه وأحكامه عليها.
ونذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لنقول إن النظام يصنع لنفسه مع الأيام تقاليد وأعرافا ومنهج حياة يتمسك بها أفراد المجتمع الذي يتقيد به؛ أي أن النظام يتطور من إطار قانوني سياسي اقتصادي إلى إطار اجتماعي وثقافي يعمق الترابط بين مختلف الأجزاء وربما يحولها إلى مركب أشبه ما يكون بعضوية الكائن الحي. النظام ينتقل تدريجيا مع الزمن من البعد الفردي إلى البعد الجماعي بحيث تتطور فيه منظومة قيمية أخلاقية منسجمة جدا مع المنظومة القانونية والمنظومة التوزيعية المتعلقة بالموارد الاقتصادية والمالية.
فعندما نتحدث عن النظام العربي يتبادر إلى ذهننا بداية سؤال حول أعضاء هذا النظام أو مكوناته.. ما هي مكونات هذا النظام، وهل هناك فعلا جسم يضم عددا من البلدان العربية تشكل بعضها مع بعض مجموعة متكاملة يضمها النظام وهي تحميه وتصونه؟
ونسأل أيضا حول الأمور التي اجتمعت عليها هذه البلدان، وهل وقعت على ميثاق أو دستور أو قانون أساسي يجمعها؟ هل وثقت البلدان اجتماعها لإقامة نظام واحد تتمسك به جميعها، وهل أقامت هذه الدول المؤسسات السياسية الضرورية لإدارة النظام والحفاظ على جوهره والدفع بأهدافه إلى الأمام؟ وهل شاركت الجماهير بصياغة المواثيق والاتفاقيات فيما بينها؟ وهل طلبت الأنظمة الحاكمة من المعارضات المشاركة في صياغة المستقبل وتحمل المسؤولية؟ وما هو موقف هذا النظام من الحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهل صاغت لنفسها نظاما اقتصاديا يتناسب مع الطرح السياسي والتركيب الثقافي؟ أين الإنسان في معادلة النظام؟
ومن المفروض أيضا أن تعلن على الملأ أسس وقواعد تحمل المسؤوليات في النظام وشغل المواقع السياسية والقانونية الحساسة في النظام، أي من المتوقع أن تجري انتخابات لانتخاب رأس النظام التنفيذي، وانتخاب مجلس النظام التشريعي.. الخ. هذه الوقائع المفترضة لم نر شيئا منها على الساحة العربية، ولم نر مجموعة دول وثقت علاقاتها لترتقي إلى درجة تشكيل نظام.. فأين هو النظام العربي؟
النظامان التلقائي والمبرمج
من الواضح أن هناك نظاما عربيا لكنه ليس موثقا أو موقعا أو معلنا، إنما هو نظام منبثق تلقائيا وبدون مرجعيات قانونية أو أخلاقية. هناك سمات حكم واقتصاد وثقافة تشترك فيها أغلب الأنظمة العربية وتوحدها ليس بصورة مبرمجة وإنما بصورة تلقائية.
الناس يجتمعون في كثير من الأحيان ليس بسبب تداول ونقاش وبحث جاد عن أسس اجتماعهم وتعاونهم، وإنما بسبب اشتراكهم بسمات اجتماعية ودينية واقتصادية متشابهة. كلما تشابه الناس مالوا بالمزيد بعضهم لبعض. هكذا هي الأنظمة العربية التي تتمسك بمقولة وجود نظام عربي.
ويمكن اختصار سمات الأنظمة العربية بصورة عامة وليس مطلقة بالتالي:
1- ملاحقة الإنسان العربي واحتقاره وتهميشه وإرعابه حتى لا يجرؤ على انتقاد النظام الحاكم أو تحديه أو التحريض عليه. قتل شخصية الإنسان العربي سمة عامة تميز الأنظمة العربية التي تعمل باستمرار على توظيف أجهزة أمنها، خاصة جهاز المخابرات لمتابعته وتتبع أخباره وأقواله ومواقفه، وعلى إذلاله ونزع إنسانيته والإصرار على تخلفه.
2- نهب الثروة وتبديدها على الشهوات والمتع وإغداقها على الحاشية المنافقة الكاذبة التي لا يهمها سوى مصالحها الخاصة. الأنظمة العربية عموما تسرق أموال الشعوب وتنفقها في الغالب فيما لا يرضي الله ولا عباد الله، وهذه الأنظمة تتمتع بثراء فاحش، وتمتلك القصور والدور الفخمة ومختلف أنواع السيارات وربما الطائرات وقوارب الاستمتاع، ولديها الاستعداد لإنفاق الآلاف أو الملايين على زواج قط أو معالجة كلب.. هي تبذر الأموال وتبددها في الوقت الذي تعاني فيه الشعوب العربية من الفقر والجهل والمرض.
3- الاسترخاء تحت المظلة الأمنية والعسكرية الأميركية والاعتماد على أموال الغرب في تدبير لقمة الخبز.. أغلب الأنظمة العربية لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وتبقى تحت الهيمنة الأميركية إذا أرادت لنظامها أن يستمر. وعدد آخر من الأنظمة العربية لا يستطيع صرف رواتب آخر الشهر إذا لم تتلق أموالا غربية تقيد إرادته؛ أي أن الأنظمة العربية تابعة للدول الغربية أمنيا وماليا وإرادتها السياسية غائبة ولا تتمكن من اتخاذ قرارات مستقلة.
4- وبما أن الأنظمة العربية فاقدة للإرادة الحرة لصالح الدول الغربية، فهي لا تستطيع إلا أن تكون مهادنة لإسرائيل على أقل تقدير أو متحالفة معها كما نشهد على الساحة العربية الآن.. أي أن الموقف من الصهيونية وأداتها إسرائيل يوحد أغلب الأنظمة العربية.
5- الفساد الذي يتم التعبير عنه بالنظام السياسي القبلي وبالوساطات والمحسوبيات وسوء الإدارة وتغييب القانون، والتغاضي عن كبار اللصوص والخونة ومنتهكي القوانين. حيثما ذهبنا في الوطن العربي نجد قضاء فاسدا، وقوانين تطبق على الفقراء والمساكين وينجو منها سماسرة الأوطان والمخربين.
نظام العفن العربي
لم تجتمع الأنظمة العربية لكي تتداول في كيفية نهب الأموال وتغييب المواطن العربي وملاحقته، لكنها جميعها اجتمعت بالسليقة والممارسات العملية على طاولة واحدة، عقدت بعض المؤتمرات العربية -بعد أن تعمق الانهزام العربي وقتل الإنسان- لتناقش بعض الأمور الأمنية والصحية والثقافية في الساحة العربية، وقد تم ذلك بعد أن ترسخ العفن والتخلف والجهل، وتحولت السمات الطاغية على الأنظمة العربية إلى أصول وأسس للأداء العام للحكام العرب.
تحولت السمات العامة المشار إليها إلى ثقافة عربية غزت الأفراد من باب أن الناس على دين ملوكهم؛ أي أن الأنظمة العربية اجتمعت بسبب ممارسات عربية تقليدية تشكل جزءا من العمق التربوي والنفسي لهذه الأنظمة.
والواقع أنه لا يوجد نظام عربي حقيقي يسعى إلى تحقيق تقدم الإنسان العربي وإخراجه من حالة التخلف والانهزام والإذلال التي يعاني منها، والموجود نظام عفن عربي يكرس الآفات النفسية والتربوية والثقافية التي عانى منها العربي على مدى فترات طويلة من الزمن.
يمكن صياغة تعريف واضح للنظام العربي وهو: ذلك النظام غير المنظم بصورة مقصودة وإنما بصورة تلقائية ناجمة عن سياسات شهوانية تتركز على إطالة أمد حكم النظام السائد والقائم لخدمة عصابات مجردة من القيم الإنسانية والوطنية والدينية وتعيث في أرض العرب فسادا وإذلالا.