قائمة الموقع

خبر هل يمكن أن نتفق على رؤية شبه موحدة لما تتطلبه المجتمعات الإسلامية من الغرب المستنير؟

2016-05-31T14:22:26+03:00

يقلم/ د. محمد الجوادي

ليس من المحال أن يكون هذا السؤال واردا بإلحاح عن قريب إذا افترضنا أن المجتمع السياسي الغربي طلب -على سبيل الإعداد لسيناريوهات إيجابية بديلة- من مجموعة من المفكرين المسلمين أن يذكروا له على سبيل المثال أو الحصر مجموعة من الإجراءات العاجلة و/أو السياسات متوسطة المدى و/أو الإستراتيجيات طويلة الأجل التي ينبغي أن يبادر الغرب بالشروع فيها وتفعيلها لينهي الرغبة في استمرار دوامة الحزازات القديمة.
وهي الحزازات التي عادت فجأة إلى التأجج والإلحاح في السنوات الماضية؛ ثم زاد تأججها بفعل تصرفات انقلابية كشفت في مصر -على سبيل المثال- عن العداء للإسلام تحديدا؛ واستفزاز المسلمين لدرجة منع الصلاة في بعض المساجد ثم منع الدعاء والاعتكاف في أغلبها! هذا فضلا عن تأميم المؤسسات وإغلاق الجمعيات ومنع الخيرات وتجميد الأوقاف.. الخ.
وقد ترجم الهدوء الغربي في التعامل مع هذه التصرفات الخرقاء على أنه تواطؤ، فلما تكرر التواطؤ مرات انسحبت تهمة عداء الإسلام بنعومة ورشاقة لتظلل كل تصرفات السياسة الغربية التي وَجدت نفسها بسبب تخبطات أميركية متكررة تواجه واقعا جديدا لا بد أن تعالجه بمبادرات فكرية ذكية.
وعلى الرغم من أن المراقبين لا يتوقعون هذه المبادرات فإنني لأسباب كثيرة أرى الغرب يتجه للتوازن بل ربما يتجه إلى اعتدال إيجابي يمكن معه أن يطرح السؤال الذي تحدثت عنه في الفقرة السابقة.

ومبلغ علمي أن هذا الطرح ممكن، حتى وإن كان مبلغ الخبرة العمومية يدفع إلى القول بأن هذا غير ممكن، ولهذا فإني أفضل أن أبدأ من التعبير عن الخبرة ملخصا بطريقة غير مباشرة نتائج تجارب نجحت في تجسير الفجوات كما نجحت في تكسير الحواجز النفسية.
وربما أبدأ بالإشارة إلى ضرورة انتباه السطات الغربية مبكرا وبذكاء المتابع اليقظ إلى ضرورة مراعاة تعدد الدرجات المتفاوتة التي تعبر عن التصاق المسلمين بما يعتقدونه عن الإسلام وما يفرضه عليهم انتماؤهم له؛ ذلك أن التفاوت في هذه العلاقة يشمل طيفا واسعا من العلاقات الروحية والخلقية والاجتماعية دون تلازم دائم أو طردي أو تبادلي بين هذه العناصر.
ومن دون الولوج في تفصيلات كثيرة تنوء بها الموسوعات فإنني أضرب المثل بحاكم مسلم لم يكن هو نفسه نموذج الاستنارة ولا نموذج التعبد، ومع هذا فإن حميته لدينه وللمنتمين إليه فاقت حمية أقرب الأقربين منه الذين كان منهم أيضا نموذج الاستنارة الأول، ونموذج الانحياز الفكري الأول، ونموذج العمران الدنيوي الأول.. الخ، ولم يشغل أحد من مؤرخي المسلمين ولا فلاسفتهم نفسه بالبحث عن علاقات غائبة أو حاضرة في مثل هذا "التفارق" أو الافتراق على المستوي الحركي والتنظيري والعلائقي بالآخر أو الآخرين.
لكن ذلك النموذج بقي وتكرر ولا يزال قابلا للتكرار والتعزيز.
وقل مثل هذا في زعيم إسلامي يعرفه التاريخ جيدا كان يعنى بالفن الإسلامي والعمارة الإسلامية والوفاء الإنساني عناية فائقة، بينما هو مختلف تماما مع العلم الإسلامي الفقهي والفلسفي.
واتساقا مع ما تعلمناه من أساليب العلوم الطبيعية فإن السياسات الذكية في التعامل مع هذه الجزئية الجوهرية تجد حلها الأمثل في الاتفاق المبدئي على حدود دنيا تفرض نفسها بأقصى إلزام على "الآخرين" من الذين يريدون للسلام أن يرفرف دوما على علاقاتهم بالمجتمعات والجماعات الإسلامية.
ومن دون أن ندخل في تفصيلات -كررنا الوعد بالبعد عنها- فإن هذه الالتزامات في عمومها لن تكون أوسع حجما من تلك القائمة بالفعل فيما يتعلق بعلاقة المجتمعات الغربية باليهود دينا ومتدينين وتراثا ومنتمين؛ وهذا مما يجلب الاطمئنان إلى حقيقة إمكان النجاح مستقبلا بناء على ما تم من نجاح التجريب التجريدي والمتجسد بالفعل فيما قبل عصرنا الملح في تعبيره عن رغبته في ارتياد آفاق السلم الدولي والإقليمي.
أنتقل بعد هذا إلى فكرة الإرهاب التي شارفت مرحلة الاستهلاك بعد أن أبيدت بها مدن مسلمة على مدى سنوات طويلة في ظل اجتياحات دورية تولت نشرها حالات من حمى الهجوم على كل تدين إسلامي، وقد أصبح الرأي العام الإسلامي الآن يتوجس من الاستدعاء الروتيني لهذا اللفظ في التوجهات السياسية للدول الكبرى.

ومن المنطقي أن الحروب الموجهة ضد الظاهرة لها عمر لا ينبغي أن تتجاوز أمده حتى وإن كانت قد استوفت هدفها، ولعل هذا هو الطابع المسيطر الآن على الانطباعات الغربية تجاه الحرب على الإرهاب، وهو الطابع الذي تعبر عنه مقولات أصبحت شائعة الآن في المجتمع الغربي من قبيل: نحن من صنع الإرهاب، لسنا على استعداد لبذل مزيد من الدم الجالب للدم، هل نقضي على جماعة إرهابية لننعش وجود جماعة إرهابية أخرى، لماذا لا نلجأ إلى ضرب هذه الجماعات بعضها ببعض بدلا من التورط بجنودنا ودمائنا.
وقد عبرت هذه المقولات الأربعة عن اتجاهات فكرية وإستراتيجية كانت كفيلة بخروج غربي جزئي وحاسم من مسرح العمليات الحربية وهو الخروج الذي ارتبط بالابتعاد عن التورط الجديد في موجات التعدي على المسلمين والمجتمعات الإسلامية، حتى لو لم تكن النية خالصة للقيم الأخلاقية والإنسانية لهذا الابتعاد عن التعدي.
وفي هذا الصدد فإن أي مؤرخ "متعدد الحقب" يستطيع أن ينتقي من حوادث التاريخ ما يجعل الضمير الجمعي في المجتمعات الغربية يدرك عنصر السجال وتبادل الانتصار في مواجهات الشرق والغرب بعيدا عن الاعتقاد الكاذب في سيادة الجنس الأبيض؛ وهو اعتقاد قاتل إضافة إلى كونه غير إنساني وغير سياسي؛ وهو أيضا اعتقاد لا إسلامي ومعاد للإسلام؛ وقد بات يستدعي التفنيد التام والجذري قبل أن يدفع بالغرب الأبيض إلى خطوات انتحارية تتعدى سلوكيات الرعونة إلى سلوكيات الانتحار.
على صعيد ثالث فإن فكرة نقل التكنولوجيا إلى مجتمعات الإسلام يجب أن تكون جزءا من نقل منظومة حضارية كفيلة بالتقريب الإنساني ومنع الحرب؛ فقد مر إلى غير رجعة عصر نقل التكنولوجيا من خلال سلع محددة بأثمان محددة في تنافس شبه محدد بين متنافسين محددين ومعروفين بالاسم.
وفي هذا الصدد ربما أذكّر القارئ أن حقبة الإقبال على شراء الفيديوهات كانت تواجه المستهلك بأربعة خيارات للسلعة مع هوامش معقولة في تفاوت أسعارها من بائع لآخر، فلما جاءت مبيعات الأطباق اللاقطة للفضائيات اتسعت الفكرة لاختيارات متعددة بين بدائل لا نهائية في مكونات المنظومة مع انخفاض التكلفة الإجمالية النسبية إذا ما قورنت بتكلفة الفيديو من قبل.
وقد نجح المجتمع الاستهلاكي في الدول الإسلامية في فرض احتياجاته المتفاوتة على العارضين ومقدمي الخدمة وبالتالي على منتجي السلعة والمنظومة الخدمية، لكن هذا الانتصار الظاهري والاختياري لم يصل حتى هذه اللحظة إلى استدعاء قيم الذات الإسلامية في النفور من الجريمة ومحاربة العنف وتجريم الجنايات ورفض السرقة والاغتصاب واحتقار الخطف والنهب، وقد كان كل هذا ممكنا في المراحل الأولى لبناء المنظومات الجديدة، ومن حسن الحظ أن هذا لا يزال ممكنا وإن كان متطلبا لجهد أكبر.
ومع أن المتوقع هو أن تمول مجتمعات الإسلام هذه الخطوات التوجيهية في انتقاء منظومات التكنولوجيا فإن واجب المجتمعات الغربية تجاه نفسها وتجاه الإنسانية يفرض عليها اهتماما حثيثا بمشاركة جادة في هذا التوجه.

ولعلي أبسط القضية بالإشارة إلى أن المصمم المعماري لبيوت المسلمين منذ أواخر القرن التاسع عشر انتبه بذكاء إلى ضرورة قيمة "الستر" في ترتيب مكونات البيوت الصغيرة في المجتمعات الإسلامية بما جعله يوازن في رسوماته بين حجرات الخصوصية (النوم) وبين مكونات الشطر الآخر القابلة لأن تكون تحت نظر الضيف القادم؛ وهكذا مضت بيوت القاهرة الخديوية وما تلتها من حقب أوربية؛ فلما حدث بالصدفة غير البحتة نقل لنمط سوفييتي في عدد محدود من المباني أصبحت هذه العمارات نشازا يعتذر عنه شاغلوه بأنه كان مبنيا في الأصل للخبراء السوفييت.
أما الآن فقد فرض المجتمع الفضائي المفتوح رؤيته بعمومية مسيطرة وإن كانت غير قاسية، وترك للمستهلك المسلم أن يوازن بين متطلباته وما هو متاح من خلال اللجوء إلى إستراتيجيات عديدة تقتضي أن تتدخل الدول (غربية وإسلامية على حد سواء) بنصائحها الكفيلة بتجاوز مناطق الخطر في نقل التوجهات المعلوماتية الكفيلة بتدمير ما تبقى من أواصر الود القابلة للنماء بين الإسلام والغرب.
وعلى سبيل المثال فإننا إذا تركنا تدفقات الإعجاب العابر تحكم ما ينتقل إلى المسلمين من توجهات الغرب في التعامل معهم؛ فإن تصريحات ترامب ولوبن وأمثالهما ستطغى على وسائل التواصل الاجتماعي تبعا لنتائج الأساليب الترتيبية التي ظهر أن المؤسسات الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية نفسها أصبحت متململة منها إلى الحد الذى دعاها لعقد جلسات برلمانية لمناقشة ما وصفته بأنه قواعد ترتيب أهمية الأخبار المنشورة.
وهنا أستطيع القول بكل وضوح إن أبرز معاناة لمجتمعاتنا الإسلامية في الفترة الراهنة تكاد تتمحور حول الاستفزازات والمنبهات الواردة إليها عبر وسائط الاتصال الاجتماعي، ومن حسن الحظ أن علاج هذه الاستقطابات ممكن أيضا بالطريقة ذاتها؛ لكن شيخوخة مؤسسات الإعلام القديمة والتقليدية تكاد تقف كحائط صد منيع بين النتائج الطبيعية أو المرجوة وبين النتائج الميكانيكية غير المرحب بها.
وفي هذه الجزئية دون غيرها تبرز مثلا إمكانات الإسلام الهائلة في تجديد التواصل مع الإله المعبود وما اختاره لعباده من قيم تعبر عنها الصلة الروحية والبدنية المتمثلة في الصلوات الخمس بكل ما فيها من عناصر يمكن وصفها حتى بلغة المادة الصماء بأنها بروتوكول وأداء والتزام ورياضة وتجديد؛ فضلا عما تقتضيه هذه الصلوات من نظافة وتخصيص وتوقيت وترتيب وتهيؤ بدني وملبسي. وليس أدعى للتعويل على نجاح الحوار الحضاري من هذه العناصر المتآزرة عند كل فرد من المجتمع المسلم مهما بسطت أو "تباسطت" طبقته الاجتماعية.

اخبار ذات صلة