كما كان متوقعاً فقد تم الاتفاق بين الدولتين والذي بدأ يتدحرج بصورة متسارعة بعد اسقاط الطائرة الروسية، تلك المغامرة التي كان واضحاً أن الفلسطيني أول المصابين بشظايا الصاروخ الذي أصابها ، عندما تطلق تركيا النار على خط الغاز الذي يمولها فلن تجد ملجأ سوى اسرائيل وقد كان.

السياسة مثل حجارة الدومينو وكل قرار له تداعياته وكل هزة كبيرة لها هزاتها الارتدادية وفي ظل التحالفات والاصطفافات الدولية يجب أن تكون الأطراف الفاعلة أكثر حذراً في سياساتها، ولم تكن تركيا كذلك منذ أن حشرت أنفها باندفاع غريب في الملف السوري بعد أن كانت حليفة لدمشق انقلبت بغرابة الى عدو للنظام في دمشق دون أن تجري الحسابات اللازمة بأن هذا التدخل سيستدعي عداء كل الدول المحيطة بها بل وذهبت أبعد الى حد استعداء روسيا وهنا كان خطأ الثواني الأربع بدخول الطائرة الروسية وقرار ضربها ليتراجع قطاع السياحة التي تعتمد عليها وتتراجع الليرة التركية والغاز الروسي انها الثواني الأربع الأكثر تكلفة في تاريخ تركيا.

بالنسبة للفلسطينين بشكل عام فان أي تقارب مع اسرائيل في هذه الظروف بالذات وهم يسعون الى عزلها هو معاكس تماماً لأحلامهم في محاصرة تلك الدولة وحين يكون هذا من تركيا فان الأمر أكثر سوء لأن تركيا الكبيرة والصديقة للسلطة الفلسطينية ولحركة حماس أيضاً أضافت في السنوات الأخيرة ورقة جديدة من أوراق القوة ضد اسرائيل، لكن الاتفاق بين أنقرة وتل أبيب يجردهم من هذه الورقة ويحولها من خصم لاسرائيل الى محايد خاصة بعد أن سجل الموقف التركي في السنوات الأخيرة مواقفاً داعمة فالذي تحدى اسرائيل في الأمم المتحدة أثناء حصول الفلسطينين على الاعتراف بالدولة هي تركيا والذي تحدى اسرائيل في الحصار على غزة هي تركيا بل وعلقت عودة العلاقات مع تل أبيب برفع الحصار عن القطاع.

لم تلتزم تركيا بوعدها وها هي تعيد تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاستخباراتية مع تل أبيب وتضع على نفسها تعهدات بعدم مقارعة اسرائيل في المؤسسات الدولية، وتقيد نشاط حركة حماس على ارضها ، تعيد تطبيع العلاقات دون رفع الحصار حسب البند الثاني في الاتفاق كما نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت حيث جاء بالنص "تتنازل تركيا عن بند رفع الحصار عن قطاع غزة" وإن كان النص بهذا الوضوح يشكل مساساً بالهيبة التركية أكثر كثيراً من تلك الثواني الأربع للطائرة الروسية فالتعهدات كانت قاطعة ولا تقبل التأويل.

ولكن السياسة ليست عمل خيري أو حسن نوايا وفي السياسة لا شيء ثابت وأن الشعارات مرتبطة باللحظة الزمنية القابلة للتغيير وبمرونة، بل أن السياسة هي تعبير عن مصالح الشعوب وليس عن مبادئها وتركيا دولة كبيرة بعد هذا الارتباك في علاقتها بالجوار باتت حريصة على مصالح شعبها المعرضة للتهديد ارتباطاً بسياسة عشوائية هي مسئولة عنها، ومن كان يعتقد أن السياسة تعبير عن المباديء عليه أن يعيد النظر في فهمه لها بل أن الذين تعاطوا معها وفقاً لذلك رسبوا في كل اختياراتها.

كان واضحاً لتركيا أن الحصار لن يرفع عن القطاع وبات واضحاً أيضاً أنها علقت نفسها على شجرة الشعار وباتت تبحث عن مخرج حتى في ظل اصرار حركة حماس على استمرار تعليق تركيا، لماذا لم تفهم أنقرة مبكراً أن الحصار لن يرفع عن القطاع فذلك مرتبط بمسألتين لمن يجيد قراءة السياسة بهدوء وبدون انفعالات وشعارات المسألة الأولى أن هذه المنطقة هي منطقة غير معرفة بعد طرد السلطة منها ولا ترتبط مع أي جهة دولية بأي اتفاقات، والثانية أن هذه المنطقة لازالت بالقانون الدولي تخضع لولاية السلطة ولا يمكن التدخل فيها إلا من بوابة السلطة وأن هذه الأخيرة ليست معنية بانجاح من قام بطردها، لذا رأينا في الأونة الأخيرة تركيا وقطر الوحيدتان في قطاع غزة دائمتي التشاور مع السلطة ولا تستطيع أي منهما الحديث عن القطاع دون موافقتها.

هكذا هي الأمور فإن مفتاح غزة موجود لدى الرئيس عباس وهذا ما لم تدركه حماس بالرغم من كل المحاولات طوال السنوات الماضية وأخشى أنها لم تصل بعد لهذه النتيجة وهذا ما لم تدركه تركيا في البدايات ثم فهمت ذلك لاحقا ولم يكن بامكانها الاستمرار في تعطيل مصالحها ووقف صعودها الباهر ونجاحها في تحقيق نمو مدهش في كافة المجالات من أجل غزة أو من أجل حركة حماس، لكن الخطأ الكبير الذي ارتكبته تركيا في حق الفلسطينيين بأن تلك الوعودات برفع الحصار جعلت حركة حماس تنتظر بثقة تحقيقه دون بحث عن بدائل ويمكن القول أن ذلك التعهد التركي ساهم باطالة أمد الانقسام وباطالة معاناة سكان القطاع لسنوات طويلة .

بانتهاء الاتفاق بين أنقرة وتل أبيب دون رفع الحصار ينتهي حلم حركة حماس الأخير برفع الحصار عن المنطقة التي اندفعت لحكمها دون حسابات السياسة تماماً مثل قرار ضرب الطائرة الروسية، هذا الاتفاق الذي يدخل تحسينات ويقبل ببقاء الحصار لابد وأن يدعو حركة حماس للتفكير بجدية متأخرة تسع سنوات تخللتها المحاولات التي أصبح واضحاً أنها لن تنجح فقد كانت محاولة تركيا هي الأكثر جدية ولن يكون أقوى منها، أن تسأل نفسها وماذا بعد هو سؤال اللحظة الذي تأخر وسؤال الضرورة.