بقلم / هاني المصري
في ضوء المستجدات بخصوص نقل السفارة، وما حدث من مقايضة بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية، تشمل تأجيل نقل السفارة، مقابل إعطاء البيت الأبيض الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ أوسع هجمة استعمارية استيطانية، بدأت بإقرار إقامة أكثر من 3 آلاف وحدة استيطانية من ضمن مخطط يضم 11 ألف وحدة استيطانية؛ أصبح نقل السفارة على خطورته البالغة أهون وأقل ضررًا من عدم نقلها.
ما يدفعني لقول ذلك كيفية تعامل القيادة الفلسطينية مع هذا الموضوع، حيث وضعت قائمة طويلة عريضة تضمنت 26 خطوة ستُقدم عليها إذا تم نقل السفارة من دون توضيح ما هي الخطوات التي ستقوم بها ردًاً على هذا الجنون الاستيطاني المترافق مع تشريع الاستيطان قانونيًا، ومع الشروع في تنفيذ مخططات ضم مناطق في الضفة الغربية إلى إسرائيل.
يلاحظ المتتبع للسياسة الفلسطينية الراهنة أنها تعاني من الارتجال والارتباك، وتحكمها ردة الفعل من دون رؤية استشرافية قادرة على مواجهة الحاضر والتقدم بثقة نحو المستقبل. وهذا يظهر من خلال اعتماد سياسة تقوم على عنصرين: البقاء والانتظار. فبقاء السلطة والقيادة وتجديد شرعيتها هو الهدف الأسمى، بينما الانتظار هو سيد الموقف من دون فعل حقيقي يذكر.
وهذا ما يفسر لماذا استمرت سياسة الارتهان لمسار أوسلو والتزاماته رغم التهديد منذ سنوات بالخروج عليه، كما يفسر استمرار سياسة إدارة الانقسام وعدم العمل الجاد لإنهائه، وتأجيل عقد المجلس الوطني، واستمرار وضع المنظمة في الثلاجة، والتعامل "يوم بيوم" بردات الفعل من دون مبادرة قادرة على التغيير.
وأكثر ما يظهر قصور السياسة الفلسطينية في كيفية تعاطيها مع احتمال نقل السفارة، أن ما حكم موقف القيادة في البداية الاستهانة بالأمر واعتبار نقلها تعهدات انتخابية لا تملك رصيدًا للتنفيذ، كما عبر عن ذلك الرئيس محمود عباس في لقائه مع حزب "ميريتس" الإسرائيلي، ثم حدث تحول مفاجئ 180 درجة ناجم عن معلومات غير مؤكدة نقلها رجل أعمال مقرب من دونالد ترامب مفادها أن الرئيس الأميركي المنتخب سيعلن في خطاب التنصيب عن قراره بنقل السفارة، فرأينا التهديدات اللفظية الفلسطينية الناجمة عن اعتبار هذه الخطوة إعلان حرب وتجاوزًا للخطوط الحمر، وستؤدي إلى سحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، وتقديم شكوى ضد الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وتطبيق قرارات المجلس المركزي، وتبني المقاومة الشعبية الشاملة والمقاطعة لإسرائيل، وليس للمستوطنات فقط، والعمل على تجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة، وتغيير وظيفة السلطة، وتجسيد الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية .. إلخ.
ومما يعكس عدم الجدية أن إحدى النقاط المدرجة على جدول أعمال القيادة "جعل عام 2017 عامًا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووضع خطة إقليمية ودولية لذلك". في حين أن ما تواجهه القضية الفلسطينية في هذا العام هو خطر الشطب والتصفية، ما يجعل الأهداف الممكن تحقيقها هي إبقاء القضية حية، وتعزيز عوامل الصمود والتواجد البشري والمقاومة وإفشال المخططات المعادية، وما يتطلبه ذلك من إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية,
وبعد أن مضى حفل التنصيب من دون الإعلان عن نقل السفارة تغيّر الموقف فجأة بعد إعلان البيت الأبيض عن أن نقل السفارة في المراحل الأولى للتفكير، وبعد تصريح ترامب بأن نقل السفارة سابق لأوانه (وتسريب مصادر أن التأجيل تم بطلب أو بموافقة إسرائيلية مقابل المقايضة المشار إليها في مستهل المقال)؛ ليعتبر أحمد مجدلاني أن إدارة ترامب تراجعت عن نقل السفارة، وأنها طمأنت الجانب الفلسطيني بهذا الخصوص، بينما نفى صائب عريقات تلقي أي تطمينات.
ويظهر تخبط السياسة الفلسطينية من خلال التذبذب ما بين استبعاد احتمال نقل السفارة، إلى المبالغة بهذا الاحتمال، إلى استبعاده مجددًا ووضع قائمة بخطوات سيتم الإقدام عليها إذا نقلت السفارة، معظمها لا يتعلق بمن سيتخذ هذه الخطوة وهو الإدارة الأميركية، بل موجه ضد إسرائيل، وسبق أن اتخذت قرارات بشأنها تضمنتها قرارات المجلس المركزي ولم تنفذ، ولا يدري أحد موعد تنفيذها، وهل هناك نية لتنفيذها، وخصوصًا أن التنفيذ يتطلب توفير عوامل ومتطلبات وظروف تجعله ممكنًا؟!
لم تشمل الخطوات التي أعلن عنها عريقات باسم الرئيس خطوات موجهة ضد الإدارة الأميركية، مثل إغلاق مكتب تمثيل المنظمة بواشنطن، وعدم القبول بها كوسيط لعملية السلام، ولا كأحد أطراف اللجنة الرباعية الدولية، وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن بالاستناد إلى المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تعطّل استخدام العضو الدائم في مجلس الأمن الفيتو ما دامت الشكوى تتعلق به كونه انتهك الالتزامات المترتبة عليه.
المهم الآن أن تأجيل نقل السفارة، الذي يمكن أن يكون مؤقتًا لمدة عام أو نصف عام كما أشارت مصادر متعددة، جعل الأوهام باستئناف ما يسمى مسيرة السلام تحلّ محل الانفعال والصدمة، عبر الرهان على إدارة ترامب اعتمادًا على ثلاثة مؤشرات: الأول، تأجيل أو إلغاء نقل السفارة، والثاني، عدم تأييد إدارة البيت الأبيض للقرارات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في الأيام الأخيرة التي صادقت فيها على مخططات لبناء أكثر من ثلاثة آلاف وحدة استيطانية، وإعلانها أنها ستبحث هذا الأمر مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكأنّ هذا لا يشكل غطاء للموقف الإسرائيلي، والثالث، إعلان ترامب بأن صهره جاريد كوشنر سيحاول حل قضية القضايا المتعلقة بالصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنه إذا لم ينجح فلا أحد غيره يمكن أن ينجح، ما يعنيه ذلك بأنه سيعطيه فرصة قبل الإقدام على نقل السفارة التي يمكن أن تغير قواعد اللعبة برمتها، وتنطوي على تداعيات خطيرة.
تقلل القيادة الفلسطينية من خطورة ما يحدث أمام ناظرها من مقايضة بين إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية، وتلوذ بالصمت والانتظار إلى حين الاستئناف المأمول للمفاوضات. وتتجاهل هذه السياسة الضارة أن أقصى ما يمكن أن يقوم به ترامب هو السعي للتوصل إلى "اتفاق سلام" يؤمن المصالح والشروط واللاءات الإسرائيلية، كما يظهر من إصراره على أن تكون المفاوضات من دون تدخل خارجي.
إن هذا التطور المحتمل سيضع الجانب الفلسطيني أمام وضع حرج للغاية، فهو أمام استئناف المفاوضات ضمن سقف منخفض أكثر من سقف المفاوضات السابقة، ما يجعلها أمام احتمالين: قبول الجانب الفلسطيني بالاستسلام من خلال الموافقة على ما تعرضه إسرائيل، أو رفضه، وما يعنيه ذلك من فشل المفاوضات وتحميل الجانب الفلسطيني المسؤولية عن ذلك، ما يفتح الطريق لنقل السفارة وفرض الحل الإسرائيلي بالقوة وبدعم أميركي.
وهنام احتمال آخر يجب ألا تقلل القيادة الفلسطينية من شأنه، وهو أن تفضل إدارة ترامب المقاربة الإسرائيلية المطروحة في السنوات الأخيرة، التي عنوانها تفضيل الحل الإقليمي مع العرب، وإعطائه الأولوية على الحل مع الفلسطينيين، ليكونوا مرغمين على قبوله، أو مواجهة العزلة الشاملة.
ما يعزز الاحتمال الأخير إعلان نتنياهو مؤخرًا عن شروط تعجيزية للتفاوض مع الفلسطينيين، تتضمن قبولهم بإسرائيل كدولة يهودية، وباستمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الممتدة من النهر إلى البحر مقابل قيام "دولة" فلسطينية بلا سيادة على الأراضي المصنفة (أ) و(ب)، أي على حوالي 40% من أراضي الضفة المحتلة.
من المعيب أن يتم التهديد بالوحدة الوطنية والمقاومة الشعبية والمقاطعة إذا نقلت السفارة، وهي متطلبات أساسية لا غنى عنها، سواء نقلت السفارة أم لا، فمسألة السفارة تتخذ غطاء لعدم اتخاذ الخطوات المطلوبة والعاجلة لمواجهة الأخطار المحدقة، وعلى رأسها خطر الاستعمار الاستيطاني الزاحف بقوة.
إن المطلوب وضع خطة ملموسة تحدد ما هي السياسة الفلسطينية في حال نقل السفارة أو إذا لم تنقل، وإذا تم ضم مستوطنة "معالي أدوميم" أو لم تضم، وإزاء استمرار التوسع الاستيطاني الرهيب، والتنكر الإسرائيلي لكل الاتفاقات والالتزامات، ومواجهته باستعداد فلسطيني لتجاوز اتفاق أوسلو والتزاماته، وليس مطالبة "حماس" والجهاد وكل الفصائل بالموافقة على التزام حكومة الوحدة الوطنية بهذة الالتزامات بالرغم من اعتراف الجميع بعدم التزام إسرائيل بها، ما أدى إلى قتل ما يسمى خيار الدولتين عن طريق المفاوضات وإثبات حسن النوايا، بحيث أن ما يمكن أن يجري في عهد ترامب هو دفنه غير مأسوف عليه. أما خيار تحقيق الحقوق الوطنية عن طريق الكفاح وتغيير موازين القوى مرة واحدة أو على مراحل، فسيبقى دومًا ولن يسقط أبدًا.