بقلم / سما حسن
قالت لي أنها تكره الشتاء أكثر مما تكره فقرها، وأخفيت عنها أني أحبه وأراه ملهماً لي حين أتابع مشهد المطر من خلف زجاج الشرفة السميك، وسبب إخفائي لسر بهجتي بأجواء الشتاء وطقوسه، هو ما أردفت سريعاً لتقوله لي ووجهها يقطر حزنا وألما، وقد كانت قسمات وجهها تبدو متجمدة بفعل البرد الشديد علاوة على لون بشرتها الكالح الذي لوحته شمس الصيف الحارقة، فهي تعيش في منطقة مكشوفة على حدود غزة الشرقية، ولكني لم أكن أعرف أي بيت يضمها مع أطفالها الثلاثة، إلا حين قالت بسرعة أيضا وفي شبه تساؤل لا يخلو من سخرية قاتلة: هل تعلمين أننا نعيش في دفيئة زراعية؟
التقطت الكلمتين من فمها جاف الشفتين وبدأ خيالي يعمل، كيف تكون الحياة في دفيئة زراعية هجرها أصحابها ولم يعودوا يستخدمونها للزراعة بسبب قرب المنطقة من الحدود وتعرضها لإطلاق النار العشوائي من الجنود الإسرائيليين، أما في أيام الحرب فهي تكون من أكثر المناطق اشتعالا في القطاع، ولكنها تعيش في تلك المنطقة المهجورة، حيث هجرها زوجها هاربا إلى مصر عبر الأنفاق التي كانت تصل بين غزة ومصر تحت الأرض وبطريقة غير شرعية أصبح يعيش في الإسكندرية حيث تزوج بسيدة مصرية تعرف عليها من خلال "الفيسبوك" كما أخبرتني بتهكم مرير.
دفيئة زراعية تعني أن تكون الأرضية من الرمل المختلط بالطين، أما الجدران فهي عبارة عن أربعة صفوف من الحجارة في كل جهة وترتفع للأعلى بغطاء من النايلون السميك، وسقفها من النايلون المدعم بالخراطيم البلاستيكية، وليس لها باب إلا من قطعة من القماش المهترئ، وقد أقامت داخل الدفيئة التي ترص على جانبها حشيات رقيقة لأطفالها وتنزلق هي بينهم، أقامت فرنا صغيرا من الطابون تقوم بخبز الخبز والرقاق بواسطته فتأكل منه هي وأطفالها بعد أن تحصل على الدقيق من معونات "الأونروا" العينية، وتبيع في يوم الجمعة الرقاق للسكان القليلين المحيطين بدفيئتها، وتقتات بالقروش القليلة التي تحصل عليها مقابل بيعها لخبز الرقاق حيث اعتاد الغزيون استخدامه في إعداد وجبة غداء أيام الجمعة وهي "الفتة الغزاوية".
قالت لي: تخيلي عندما تشعرين بنفسك وسط أجواء الطبيعة الغاضبة أنك لن تستطيعي النوم، وسيغادرك هذا السلطان بعد أن تطرديه بقوة، خشية أن تشتد العاصفة فتقتلع دفيئتك عن الأرض ويطير معها أطفالك الصغار، تخيلي أن تمضي الوقت وأنت تستمعين لزمجرة الرياح في الخارج، وهذا الخارج الذي لا يفصلك عنه سوى طبقة من النايلون الذي سرعان ما يتمزق من مكان ما، فتمسكين بيديك المرتعشتين الباردتين طرفيه الممزقين لكي لا يتسع الثقب حتى ينبلج الصبح وتهدأ العاصفة.
في غزة توجد الكثير من المناطق التي يكره أهلها الشتاء لفقرهم وسوء أوضاعهم، كما هو الحال في منطقة "جورة الصفطاوي" كمثال وحيث يعيش حوالي خمسة آلاف نسمة في منطقة تنخفض عن مستوى سطح الشارعين الرئيسين بعدة أمتار ما يعرضها لكي تكون مصباً لماء الأمطار وقاذورات الشارعين، ويقضي الناس في تلك المنطقة أسوأ أيامهم خلال المنخفضات الجوية التي يحبها آخرون حيث يقبعون في بيوتهم تحت الأغطية ويقومون بشي الكستناء وشرب السحلب الساخن المزين بالمكسرات.
في هذه المنطقة العشوائية وغيرها وحيث تصنف في قطاع غزة المنكوب حوالي 70 من العشوائيات، يغيب الضمير الإنساني وينام القليل من المتخمين بالمال في راحة بال مميتة ولا يشعرون بالناس الذين أصيب أطفالهم بالأمراض النفسية والجسمية بسبب معيشتهم تحت مستوى الأرض بخمسة أمتار على الأقل.
السيدة التي قابلت والتي تعيش على خط النار لا تعرف لمن ترفع شكواها، وتصب جام غضبها وكرهها على الشتاء، وتعلن أنها تحب الصيف حيث تنام مع صغارها في العراء وتوقد الحطب طيلة الليل لكي تخيف الكلاب الضالة، أما في الشتاء فلا حيلة لها ولا لغيرها سوى كراهيته، ولكني أرى أن عليها أن تكره من ماتت قلوبهم ونامت ضمائرهم وممن ينتظرون حلول شهر رمضان ليفاخروا بإقامة موائد الرحمن.