بقلم / د.عاطف أبو سيف
في ظل الحديث المتزايد عن احتمالية أن يقوم الاتحاد الأوروبي بوقف مساهمته في صرف رواتب موظفي السلطة في غزة فإنه قد يبدو من المفيد قراءة علاقة الاتحاد الأوروبي بفلسطين مرة أخرى، العلاقة التي تأخذ أكثر من وجه وتتوزع على أكثر من محور.
لكن من المؤكد أن مثل هذه العلاقة هي استمرار وانعكاس في وقت واحد لعلاقة دول الاتحاد بالصراع العربي الإسرائيلي، حيث إن الكثير من الدول الكبرى في السوق الأوروبية المشتركة كما كان اسم المشروع التكاملي الأوروبي قبل تحوله عقب اتفاقية ماسترخت في العام 1992.
وبشكل عام لم يكن هذا الاستمرار والانتقال فيه حكراً على الصراع العربي الإسرائيلي فالدول الأعضاء في المؤسسة الأوروبية جلبت كل واحدة منها إلى مجال الاهتمام الجماعي اهتماماتها خلال حقبة الاستعمار.
طبعاً الحديث يدور أكثر حول بريطانيا (التي صوتت مؤخراً على الخروج من مشروع التكامل) وفرنسا وإسبانيا وإلى حد أقل ألمانيا وإيطاليا.
حتى بعد توسع الاتحاد شرقاً عقب انهيار جدار برلين فإن الدول الجديدة في الاتحاد جلبت معها اهتماماتها الشرق أوروبية التي تختلف بشكل أو بآخر عن اهتمامات الجنوب الأوروبي المتجه بحكم التاريخ والثقافة نحو المنطقة العربية. عموماً ما أرمي إليه أن انشغال الاتحاد الأوروبي بالصراع في المنطقة ناجم، إلى جانب أنه إنشغال حتمي لقوة صاعدة مثل الاتحاد الأوروبي، عن طبيعة تكوين المنظمة الإقليمية الأهم في السياسة المعاصرة.
ويمكن بقراءة سريعة لتطور مواقف الاتحاد من الصراع الكشف عن مدى تأثير مواقف الدول الأعضاء على تطور مواقف الاتحاد، وربما وفي مرات كثيرة بالعكس.
لقد اتسمت مواقف الاتحاد من القضية الفلسطينية بالكثير من التردد في بدايات نشوئه في نهايات خمسينيات القرن الماضي إثر توقيع اتفاقية روما بين الدول الست المؤسسة (الآن الاتحاد يضم 28 دولة) كما أنها اتسمت بتبني مواقف دوله الكبرى آنذاك خاصة فرنسا من الصراع.
فالقضية الفلسطينية ليست إلا قضية لاجئين هم ضحايا الصراع بين إسرائيل "المظلومة" وجيرانها الدول العربية المعتدية وعليه فإن أساس حل القضية الفلسطينية يكمن في حل قضية هؤلاء اللاجئين عبر توطينهم وإيجاد حل اقتصادي ومعيشي لهم.
لكن مع الوقت بدأ الاتحاد بتطوير مواقف أكثر تفهماً لأصل الصراع.
الأساس في ذلك هو الاستدارة التي قام بها الزعيم الفرنسي ديغول بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين ولمناطق من دول عربية مجاورة.
استدارة ديغول كانت بداية تحول الموقف الأوروبي، إذ بات واضحاً كما قال الأوروبيون في تقرير لندن أن المشكلة سياسية بامتياز وأن أي حل لها يجب أن يشمل أخذ التطلعات السياسية للفلسطينيين بعين الاعتبار.
التطلعات التي يكمن في جوهرها انهاء الاحتلال. بالطبع في ذلك الوقت تنامت فكرة الحل القائم على أساس القرارات الأممية 338 و 242 اللذين ظلما الفلسطينيين بتقييد طموحاتهم ضمن نطاق الرابع من حزيران.
وهذه قضية أخرى يمكن مناقشتها حول مدى قوننة المجتمع الدولي لطبيعة الحلول الممكنة. بكلمة أخرى صيغة مختلفة للاستعمار حول الممكن الوطني.
بيد أن التطور الأهم الذي سيطرأ على موقف الاتحاد سيكون خلال قمة البندقية وما صدر عنها فيما بات يعرف بإعلان البندقية في العام 1980 حيث أقر الاوروبيون بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتمت الإشارة لمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني.
وبعد ذلك تلاحقت المواقف الأوروبية التي شكلت مع الوقت افتراقاً مهماً عن الموقف الأميركي واختلافاً معه، حتى خلال النقاش حول إعلان الدولة في أيار من العام 1999 بعد انتهاء المرحلة الانتقالية من عملية السلام صدر عن الاتحاد ما عرف بإعلان "برلين" الذي قال الاتحاد فيه إنه سيعترف بدولة فلسطينية في حال تم التوصل لها بعد المفاوضات بين الجانبين.
من المؤكد أن الاتحاد أكبر ممول لخزينة السلطة الفلسطينية خلال السنوات النيف والعشرين من عمرها. ومن غير المؤكد إذا ما كان قد قرر الانسحاب من عملية التمويل بشكل كامل.
ورغم أن متحدثي الاتحاد أوضحوا أن ما يدور الحديث عنه هو إعادة موضعة التمويل، لكن لننتبه فإن النقاش حول مدى صوابية صرف السلطة للأموال التي تتلقاها من دافع الضرائب الأوروبي على غزة لم يتوقف منذ اليوم الأول الذي تلا سيطرة حماس على غزة.
وكانت قيادة السلطة تكافح كل سنة من أجل الحفاظ على صرف الأموال في غزة سواء عبر صرف الرواتب أو الشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم وبقية الخدمات.
لكن السؤال لب النقاش كان دائماً صرف الرواتب، بيد أن قضية الرواتب لم ترتبط فقط في غزة فقد ظهرت بقوة خلال انتفاضة الأقصى وما حاول اللوبي الصهيوني ترويجه بأن السلطة تصرف أموال دافعي الضرائب الأوروبيين على الإرهابيين (أفراد الأجهزة الأمنية الذين يشاركون في الانتفاضة) أو عائلات منفذي العمليات، إلى جانب بعض التقارير خاصة تقرير "المراقب العام" للاتحاد حول طرف صرف أموال الاتحاد من قبل السلطة مع تزايد الشكاوى من تفشي الفساد في أجهزة السلطة بعد تنامي الدعاية الإسرائيلية حول ذلك.
السؤال الأساس في كل ذلك، مع اعتبار أن هذا النقاش حول أموال الاتحاد الموجهة لموظفي غزة هو استمرار لنقاش قديم، يتعلق بنظرة الاتحاد إلى دوره في المنطقة.
المؤكد أن خروج لندن من الاتحاد سيعني تحولاً ملموساً في سياسات الاتحاد. وصعود اليمين للحكم في دول الاتحاد الأساسية سيكون له تأثير سلبي على سياساته التمويلية وليس على مواقفه السياسية ربما في ظل الصراع مع إدارة ترامب العنيفة تجاه القارة العجوز.
ربما سيكون من الصعب على الاتحاد أن ينسحب من المنطقة في ظل تنامي نزعاته التدخلية خلال العقدين الماضيين وفي ظل التنافس مع روسيا وواشنطن حول ذلك، وعليه فإن سياسة فلسطينية حكيمة في التعاطي مع المشكلة قد تبدد آفاق حدوثها، حتى لا يتحول الأمر إلى حكمة في السياسة الدولية تسهم في تعزيز رمي غزة إلى مصيرها.