بقلم/ الدكتور أحمد يوسف
كل الحركات في الساحة الفلسطينية تجري انتخاباتها دون أن يلتفت إليها أحد، إلا أن انتخابات حركة حماس تبدأ معها عمليات الرصد والمتابعة واطلاق التكهنات بشكل مبكر، حيث تشرع المواقع الإعلامية والأمنية في إسرائيل بنشر المقالات والتحليلات حول انتخابات حماس القادمة، وتأخذ بتظهير بعض الأسماء والشخصيات القيادية صاحبت الحظوظ وكأنها العالمة ببواطن الأمور.!!
يتبع هذه الأقلام الإسرائيلية موجة أخرى من الكتَّاب والصحفيين الفلسطينيين التي تبدأ بطرح موضوع الانتخابات وتناوله في وسائل الإعلام المحلية، ليتوسع النقاش أكثر فأكثر، ويصبح حديث الشارع وداخل أطر الحركة، بالرغم من التعميمات والتعليمات المشددة بأن هذا الموضوع بالذات ليس للنقاش، وهناك الكثير من التحذيرات والإجراءات العقابيّة لمن يخوض فيه، ولكن الإشكاليّة أن عالم الرسائل الالكترونيّة ووسائل التواصل الاجتماعي لم تبقِ لأحدٍ من سر، وهناك أجهزة أمنية ترصد ولا يفوتها شاردة أو واردة، وهي تغذي الجهات الإعلامية بما يخدم مصالحها ويسهِّل مهمة الخوض في الموضوع والتوسُّع في النقاش حوله.
إننا نتفهم أن الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة ترصد وتتابع بشكل حثيث لاعتبارات لها علاقة بالحرب المفتوحة بينها وبين حماس، ولكن لماذا الآخرون مأخوذون بهذا الشبق المعرفي لموضوع الانتخابات، ويجعلونها القضية الأولى في تغطياتهم الإعلاميّة؟!
لا شك أن حركة حماس هي حركة تميل في تحركاتها وعملها التنظيمي إلى السرية، بالرغم من كونها – على سبيل المثال – تحكم قطاع غزة منذ عشر سنين، وأجهزتها الشرطيّة والأمنيّة لا تغفل ولا تنام، وهي المتحكمة في كل مجريات الأمور، والقابضة بثقة على النواصي والأقدام.
حتى اللحظة، ما تزال الحركة تعتبر نفسها مشروعاً مقاوماً، وتحظر على كوادرها وقياداتها الحديث فيما تراه شأناً سرياً. لذلك، لا تميل الحركة لإجراء الانتخابات على طريقة "المؤتمر التنظيمي العام"، والذي غدا منذ أكثر من عقد من الزمان سلوكاً معتمداً بين الإسلاميين في معظم الدول العربية أو بين تجمعاتهم في الدول الغربية.
صحيح، أن حركة حماس أصبحت معظم قياداتها الدعوية والسياسيّة والعسكريّة معروفة للشارع الفلسطيني؛ لأن الغالبية تجاهر بمواقعها التنظيمية لما تمثله من مكانة ووجاهة ولفت نظر، ولم تعد السرية مقنعة بالشكل الذي يعيق إجراء انتخابات يتنافس فيها المتنافسون، ولقد سبق لي أن قمت بالرد على بعض من قام بطرح أسئلة تخص الواقع التنظيمي من خلال المشاهدات المتاحة، وقد جاءت على الشكل التالي: لماذا تغيب حظوظ الشباب في مواقع اتخاذ القرار في الحركات الإسلاميّة، وكذلك في حركة حماس؟
فقلت: هذا سؤال وجيه وفي محله، فالحقيقة هي أن هناك غياباً أو تغييباً لجيل الشباب على المستوى القيادي في الحركة الإسلامية، وخاصة في مجالسها الشوريّة العليا، وهي ظاهرة ملفتة للنظر في معظم الحركات الإسلاميّة؛ باعتبار أن القيادة هي ذات طابع أبوي وتحتاج كبار السن من أصحاب الخبرات الإدارية والأمنية وذوي الوجاهة في العمل الدعوي والتربية الحركيّة، وهذه لا تتوفر غالباً إلا فيمن تجاوز الأربعين أو المخضرمين من القيادات، والذين لهم عادة حضور تاريخي وميداني مشهود.
أما فيما يتعلق بأوضاعنا الحركية والتنظيميّة في فلسطين، فهناك حجج وذرائع لتقييد مواقع القيادة وحجزها لفئة محددة من القيادات هي في أغلبها تاريخية أو من تشهد لها السجون بالصلابة والثبات.. وفيما يتعلق بغياب الشباب أو تغييبهم، فإن هناك أسباباً مرجعها طبيعة لوائح الحركة وقوانينها، من حيث آلية العملية الانتخابية وسريتها، والتي لا تسمح بأي حملات انتخابية يقدم فيها الشخص نفسه، والتعريف بما لديه من رؤى وأفكار وطاقات عمل، يمكن على أساسها توفير القناعة لدى كوادر الحركة بأنه يمتلك الكفاءة والأهليّة التي تمنحه أصواتهم، وكسب القناعة بجدارة تمثيلهم.
للأسف، في ظل ما هو قائم ومعتمد من عملية انتخابية تكون فرص الشخصيات المألوفة للشباب من الأئمة والخطباء أو الإخوة الذين سبق اعتقالهم أو من الذين تعودوا الظهور في المناسبات الوطنية والدينيّة هم الأكثر حظاً للفوز من أشخاص أكاديميين أو من ذوي الطاقات المتميزة وأصحاب الكفاءات، ولكن إبداعاتهم ومجالات تألقهم تبقى بعيدة نوعاً ما عن مشهد الملاحظة والتقدير في غير أماكن عملهم، وبذلك تكون دائرة التعريف بهم محدودة، ومقيدة بأوساط وتجمعات بعيدة عن دوائرهم الانتخابية.
ومن الجدير ذكره، أن فرص ظهور الكفاءات ولفت النظر تجاهها يبدو عادة في اللقاءات الموسعة، مثل المؤتمر التنظيمي العام، حيث تتاح لمثل هؤلاء تقديم أنفسهم من خلال الأفكار والبرامج والرؤى التي يتقدمون بها، ويحاورون بها عن قناعة وثقة قواعد الحركة والتمثيل الجماهيري الأكبر لها، وتكون فرص المنافسة في مثل هذه الساحة متاحة لكل من يجد في نفسه الأهلية للقيادة أو من ترشحه مجموعة لديها القناعة به وبما يحمل من رؤى وأفكار.
ونظراً لأن فكرة "المؤتمر التنظيمي العام" غير معمول بها ضمن لوائح الحركة في فلسطين وقوانينها، وغير مسموح لأي شخص القيام بأي حملات انتخابية للتعريف بنفسه وكسب الأصوات لبرنامجه، يبقى الطريق مقفلاً أمام هؤلاء الطامحين من القيادات الشابة لأخذ مواقعهم في الدائرة القيادية الأولى؛ كمجلس الشورى العام أو المكتب السياسي.
إن الحركات الإسلاميّة بوجه عام وحماس بوجه خاص، تقتصر فيها قيادة الصف الأول على الأصناف الآتية: الشخصيات ذات الانتماء والسبق التاريخي في الحركة، وكذلك العلماء وأئمة المساجد والدعاة ورجال الإصلاح، إضافة إلى الإخوة الذين قضوا سنوات في السجون على خلفيات ذات علاقة بالعمل العسكري والأمني، والنواب في المجلس التشريعي أو المواقع المتقدمة في الحكومة؛ أي من أولئك الذين تتاح لهم فرص الظهور والتحرك بين كوادر الحركة، من خلال مواقعهم المتقدمة في الحركة أو الحكومة.
وفيما يتعلق بقيادات العمل العسكري، فإن هناك الكثير ممن قدمهم الميدان، وأخذوا مواقعهم في الصف الأول، من خلال تجليات بطولاتهم في ساحات الوغى؛ كالحروب أو في المواجهات الحدودية مع الاحتلال؛ أي أنهم منحوا هذه المواقع عن جدارة وبثقة من عملوا معهم أو قريباً منهم، ولعل بعض هؤلاء الشباب قد وصلوا إلى مواقع شورية متقدمة، ولكن عددهم لا يتجاوز الآحاد ولا يماثل حجم أعدادهم، وإن كانت هناك مؤشرات بأن فرص البعض منهم قد لاحت.
لقد أعجبتني تغريدة رائعة للقيادي النائب يحيى موسى حول موضوع الانتخابات الداخلية في حركة حماس، لتوافقها مع قناعتي، وكونها غدت مطلباً لدى الكثيرين من نخب الحركة ومفكريها، والتي جاء فيها: أتمنى على حماس أن لا تستعجل إجراء انتخاباتها العامة قبل أن تقوم بمراجعة شاملة لنظامها الأساسي، بالشكل الذي يضمن الوصول للنقاط التالية:
1- تحقيق أوسع مشاركة للأعضاء في العملية الانتخابية، وأن لا تبقى العملية في حدود النقباء والرقباء.
2- حرية التنافس بين المرشحين على قاعدة المساواة الكاملة في الفرص، من حيث الدعاية والوصول الى المعلومة واستخدام المقدرات التنظيمية.
3- أن تجري الانتخابات على أساس التنافس البرامجي وليس الأشخاص.
4- أن يتم الفصل في الانتخابات بين الدعوي والسياسي والتحرري، بحيث يختار كل قطاع ممثليه في مؤتمر الحركة العام؛ والمؤتمر هو الذي ينتخب القيادات العليا (التشريعية والسياسية والقضائية).
5- تحقيق تكافؤ الفرص بين الذكور والإناث، ولا بأس أن يتم اعتماد (كوتة خاصة) للنساء لفترة انتخابية أو أكثر تحيزاً للأخوات.
ورغم كون هذه النصيحة جاءت متأخرة، إلا أن الأخذ بها سيجد طريقه إلى التطبيق في دورات انتخابية قادمة.
المرحلة القادمة: المخاطر والتحديات
إن أهم شيء ينتظر حركة حماس فيما هو قادم هو حجم التحديات، التي ستواجه القيادة الجديدة، وإن كانت الكثير من المؤشرات لا تشي بتغيير كبير في ملامح الأسماء المعروفة تاريخياً، والتي تعهدت إدارة شئون الحركة وقيادتها لسنوات طويلة، وخاصة تلك الأطقم التي عملت في كنف القيادة السابقة للأخ خالد مشعل، والتي امتدت لقرابة عشرين عاماً.
ومن الجدير ذكره: إن مركزية قرار الحركة ومؤسساتها القيادية ربما تنتقل إلى الداخل، وخاصة إلى قطاع غزة، باعتبار ما يمثله القطاع - الآن - من ثقل عسكري وتنظيمي وقيادات تاريخية، إضافة لامتلاك حماس في القطاع زمام الأمور وسلطة الحكم بدون منازع.
وبالنسبة للخارج، فقد تعود الحالة لما كانت عليه في السابق؛ أي قبل استشهاد الشيخ أحمد ياسين، حيث كانت أنشطة الخارج ذات طبيعة إعلامية وإغاثية داعمة للحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
السؤال المطروح الآن هو: هل سيؤثر غياب الأخ خالد مشعل (أبو الوليد) عن صدارة المكتب السياسي كثيراً على مكانة الحركة وقدراتها في التحرك الإقليمي ؟
سؤال ليس من الصعب الإجابة عليه؛ لأن حركة حماس هي أشبه بمؤسسة، وليس للفرد مهما بلغت قوته وصلاحياته سلطات مطلقة، ولذلك فإن تنحي الأخ (أبو الوليد) عن قيادة المكتب السياسي للحركة لن تشكل خللاً أو إرباكاً في بنيان هذا الصرح العتيد، ولكن من الواضح أن ما يحتاجه القادم الجديد لتسلم راية للقيادة للتعامل مع التحديات التي تنتظره هو طاقة أكبر، وخبرة أوسع من تلك التي كان يتمتع بها الأخ (أبو الوليد)، وكاريزما بنفس قوة التأثير أو أكثر، وهذا يعني أن المطلوب في المرحلة القادمة هو قيادة جماعية بروح الفريق مع توافق تنظيمي يجتمع في بوتقته الكل الدعوي والسياسي والعسكري، ويمكن هذه القيادة من التعامل مع التحديات الداخلية للحركة، ومع الأوضاع والخلافات القائمة مع الفصائل، وخاصة حركة فتح والرئيس محمود عباس، وأيضاً باستعادة طيب العلاقة مع الدول العربية والإسلامية، وعلى وجه الخصوص مصر وإيران، كونهما دولتين بأيديهما أوراق كثيرة متعلقة بهذا الصراع مع الاحتلال، كما أنهما ذو علاقة بالمال والسلاح والتدريب والعمق الاستراتيجي.
من هنا، فإن ما هو قادم من تحديات ربما هو الأكبر في تاريخ الحركة منذ نشأتها، وهذا يتطلب أن تجد الحركة قيادة راشدة تلتف حولها، وتحيطها كإحاطة السوار بالمعصم.
نعم؛ عوَّدتنا حركة حماس الحفاظ على تماسكها ووحدة صفوفها، لكنَّ متغيرات الحالة الإسلامية في المنطقة، وهي التي كانت تمثل السند والنصير المادي والمعنوي لحركة حماس لم تعد بالقوة والمكانة التي كانت عليها، بعدما انهارت حركة النهوض العربي، وتراجعت حظوظ الإسلاميين في مشهد الحكم والسياسة، وكسرت شوكة الكثيرين منهم لصالح أنظمة الحكم والاستبداد.
اليوم، مع مشاهد العنف والدم الذي رسمت ملامحه فظائع تنظيم الدولة (داعش) في العراق وسوريا وليبيا وسيناء، فإن رأس الإسلام والإسلاميين أصبح في دائرة الاستهداف والمطاردة، حتى تيارات الاعتدال التي يمثلها الإخوان المسلمون لم تسلم هي الأخرى من الملاحقة واتهامات الإرهاب!!
إن ما ينتظر الحركة هو تحديات فوق طاقتها، وبدون قيادة ذات رؤية استراتيجية راشدة، وتقديرات سليمة لطبيعة المرحلة والمواقف المطلوب اتخاذها، من أجل كسب العمق العربي والإسلامي، وإصلاح العلاقة مع الحاضنة الشعبية، التي تضررت كثيراً بسبب الانقسام والاصطفاف الحزبي المقيت، والأهم كذلك هو الابتعاد عن لغة التصعيد العسكري، وعدم استعجال المواجهة المسلحة مع الاحتلال، وتغليب حكمة السياسيين على طيش العسكر وانفعالاتهم، حتى تجد الحركة الوقت الكافي لترتيب بيتها الداخلي، وتسوية ما تطمح له من علاقات مع دول الجوار، وضبط تحركات المتشددين التي تتفاقم تهديداتهم، وتشكل امتداداتها العابرة للحدود خطراً على قطاع غزة واستقراره وأمنه.
إن المنطقة العربية والإسلامية مقبلة على تغييرات يصعب تقديرها أو التكهن بأبعادها على خريطة المنطقة في ظل ما نسمعه من لغة التهديد والوعيد الصادرة عن الرئيس الأمريكي الجديد (دونالد ترامب)، وكيف سنواجه بعض التهديدات المتعلقة بإطلاق يد الاحتلال في استباحة أرضنا وتهديد مقدساتنا، وإذا ما حدثت مواجهات عسكرية بين أمريكا وإيران وتحول الشرق الأوسط إلى كتلة من اللهب، تأخذ معها كل الأولويات التي كانت كلها في السابق وقفاً لقضيتنا الفلسطينية.
ختاماً: قيادات بملفات محدودة
إن ضخامة حركة حماس كتنظيم له ساحاته الممتدة على جبهات عريضة في أرضنا المحتلة، وداخل تجمعات الفلسطينيين في الدول العربية والإسلامية، وفي الشتات الغربي، تتطلب قيادات ذات خبرات في العمل الدعوي والسياسي، وخصوصيات أمنية وعسكرية، وهذه لا تملكها قيادات عاشت معظم حياتها في محطات العمل الدعوي، وإن كان بعضها - الآن - لديه تجربة عمرها عشر سنوات في مجال العمل السياسي، وهناك أيضاً أسماء وكفاءات لمعت في ميدان العمل العسكري والأمني.
إن لدينا الآن ثلاث كتل حركية حرجة تحتاج رؤوساً مكتنزة الذكاء والفطنة كي تديرها، وتنهض بها، وإذا ما استمرت الهيكليات التنظيمية على خرائطها القديمة، فسوف تواجه الحركة تحديات داخلية تثقل كاهلها، وهذا معناه أن تخطي العقبات القائمة على الطريق يحتاج إلى إجراء مراجعات جادة وهيكليات بإطلالة جديدة.
قد تتمكن القيادة الجديدة للحركة من العمل على هذه المراجعات، ولكننا لن نشهد مثل هذه التغيرات قبل شهر مايو القادم، وإن كنا سنسمع الكثير عما ستأتي به قادم الليالي والأيام.
المقال يعبر عن رأي كاتبه