بقلم / طلال عوكل
قرار الكنيست الإسرائيلي الذي صدر يوم الاثنين، السادس من شباط الجاري والذي يقضي بشرعنة الاستيطان والمستوطنين، يشكل علامة فارقة بين زمنين ومرحلتين. ينطوي القرار الذي صدر على قدرٍ عالٍ من الوضوح إزاء النوايا التوسعية الإسرائيلية، ويضع حداً لمرحلة البحث عن السلام ورؤية الدولتين.
يتحول الحديث عن رؤية الدولتين إلى خطاب تحريضي تعبوي ناعم يسعى إلى تحقيق إنجازات سياسية ومعنوية للفلسطينيين على المستوى الدولي، أو يحيل مسألة تجسيد الدولة الفلسطينية إلى مرحلة لاحقة، دونها صراع مرير.
كانت إسرائيل ستتخذ مثل هذا القرار في كل الأحوال، بغض النظر عن ساكن البيت البيض، إذ لم يكن متوقعاً من إدارة مختلفة حتى لو كانت ديمقراطية، أن تتجاوز حدود النقد والتحذير، وربما الإدانة التي لا ترفع الغطاء الأميركي عن السياسة الإسرائيلية.
كان موقف إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الأكثر وضوحاً والأكثر حسماً بالمعنى النظري إزاء الاستيطان. الفارق شكلي بين الإدارة السابقة والإدارة الحالية، إذ لا معنى جوهريا لما أعلن عنه بنيامين نتنياهو من أنه قام بتنسيق المسألة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب سوى أن هذا الإعلان يفضح جوهر السياسات الأميركية، ويساعد الفلسطينيين على إجراء قراءة أكثر وضوحاً وأكثر واقعية إزاء إمكانية تحقيق السلام، وإزاء مواقف وسياسات أميركية يمكن أن تستدرك الوضع في اتجاه إبقاء الأمل بتحقيق رؤية الدولتين.
إسرائيل تعاملت مع الأراضي المحتلة العام 1967، على أنها أراضٍ متنازع عليها، حين فسرت قرار مجلس الأمن رقم 242، لكنها اليوم تتصرف على أن هذه الأرض، حق يتصرف به الإسرائيليون وحدهم وهم من يقرر هوية الأرض، والدور الذي يترتب على الفلسطينيين القيام به.
وبإصدار مثل هذا التشريع وبهذه السرعة خلال جلسة واحدة للكنيست، فإن إسرائيل تتواصل مع طبيعتها كدولة مارقة تتحدى القانون الدولي، وتتحدى إرادة المجتمع الدولي، ولا تتوقف عن توجيه الإهانات حتى لأقرب حلفائها، الذين حملوا ونفذوا وحموا مشروعها الاستعماري.
يصلح هذا القانون لأن يكون عنوان المرحلة المقبلة في العلاقة بين الفلسطينيين وحقوقهم وبين دولة إسرائيل التي تواصل التقدم نحو تعريف نفسها كدولة عنصرية، احتلالية، استعمارية، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بقيم الديمقراطية.
العالم كله أدان ويدين الاستيطان، وقرار الكنيست، ما عدا الولايات المتحدة الأميركية، لكن إسرائيل لا تعير لذلك أي اهتمام. ربما لم تتم بعد ترجمة قرار مجلس الأمن رقم 2334، إلى بقية اللغات العالمية، لكن إسرائيل وإدارة ترامب تنفذان تهديداتهما بنسف القرار الأممي.
أيهما أهم فعلياً قرار مجلس الأمن 2334، الذي رغم أهميته سيظل قراراً نظرياً، حامياً لحقوق تاريخية، أم قرار الكنيست المدعوم كلياً من الإدارة الأميركية؟ لن يتمرد العالم، ولن تخرج الملايين في شوارع العواصم العربية، أو غير العربية، احتجاجاً على قرار الكنيست، أو لحماية الشرعية الدولية، وسيمضي زعماء العالم الحر وغير الحر، وهم يتحسسون اللطمة التي تلقوها على وجناتهم.
يلفت النظر على نحو جدي ردود الأفعال الإسرائيلية على قرار الكنيست. لعل الموقف الذي عبر عنه زعيم التحالف الصهيوني هرتسوغ كان الأكثر قوة ووضوحاً، حيث يوصف وضع إسرائيل ومستقبلها في ضوء هذا القرار كدولة عنصرية غير ديمقراطية.
القرار عملياً يقسم المجتمع الإسرائيلي إلى نظامين، نظام هيمنة دولة الاستيطان وهو النظام المسيطر، ونظام تقوية دولة إسرائيل التي تسعى لرسم حدودها مع الفلسطينيين مع جرعة من الطمع إزاء بعض القضايا الخاصة بالأمن، والأرض والقدس.
النائب العام الإسرائيلي سجل اعتراضه على القرار، والمحكمة العليا الإسرائيلية قد تتخذ قراراً باعتبار قرار الكنيست غير دستوري وغير قانوني، لكن هذا من شأنه أن يؤجج التناقضات الداخلية، ويعطي للمعارضة سلاحاً جديداً، في مواجهة تغول اليمين المتطرف، غير أن الأمور لن تتغير.
بإمكان التحالف اليميني في الحكومة أن يجري تغييرات واسعة مثلما فعل ترامب، لإقصاء المعارضين، وربما إذا استفحلت الأزمة، تلجأ إسرائيل إلى خيارات الهروب من خلال تفجير الأوضاع مع الفلسطينيين أو على الجبهة الشمالية.
وزير البناء الإسرائيلي أعلن بوضوح شديد أن الحرب على قطاع غزة مقبلة لا محالة في ربيع هذا العام. منذ وقت طويل والحديث في إسرائيل يدور حول أن الحرب على غزة مسألة وقت ليس أكثر.
اليوم، إسرائيل مدعومة ومحمية من قبل الولايات المتحدة، كما لم يحصل من قبل واليوم، يتعرض نتنياهو للتحقيق بشبهة الفساد، واليوم، تشهد الساحة الداخلية الإسرائيلية توتراً وتناقضات تتزايد حدتها بين المعارضة والحكومة وبين الحكومة والفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل.
اليوم، تنظر إسرائيل بغضب إلى تحسن العلاقات بين مصر وحركة حماس، وتنشيط العلاقات التجارية بين مصر وغزة، واليوم، تتصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة. ثمة أسباب ودوافع كثيرة ترجح أن تقوم إسرائيل بحرب أخرى على قطاع غزة.
القرار الإسرائيلي ينهي مرحلة خطاب نزع الذرائع، فإن كان لهذا الخطاب أن يستمر فلأجل التغطية على عملية إعادة بناء القوة الفلسطينية، ولحث الكثير من الدول خصوصاً التي حضرت مؤتمر باريس، لأن تتقدم دون تأخير نحو اتخاذ قرار الاعتراف بدولة فلسطين.
هذا هو الحد الأدنى المطلوب من الدول التي باتت تدرك أن إسرائيل لا تسعى وراء السلام، وإنهاء المسؤولية الحصرية عن اندلاع الصراع على نحو واسع في المنطقة.
الاعتراف بدولة فلسطين هو الحد الأدنى للرد على اللطمات التي توجهها إسرائيل تباعاً لزعماء العالم. ومرةً أخرى ما لم يرتب الفلسطينيون أوضاعهم الذاتية، ويستعيدوا وحدتهم وقوتهم فإن العالم الخارجي بما في ذلك العربي لن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين حرصاً على حقوقهم.
وفي هذا الوقت بالذات يصبح المطلوب من الفلسطينيين كأولوية الاتفاق على كيفية التصدي للتحدي الإسرائيلي، حتى لا يجدوا أنفسهم أمام ردود متضاربة، وتعطي لإسرائيل ذرائع لارتكاب المزيد من جرائم الحرب والمزيد من التغول على حقوق الفلسطينيين.