بقلم / هاني المصري
احترت حول ماذا أكتب في ضوء وجود عدد كبير من القضايا المطروحة، فقررت في النهاية أن أكتب عن وصف حالتنا في ظل الفوضى التي نعيشها، خصوصاً بعد أن قرأت واستمعت لتحليلات وآراء ومواقف، منها صادر عن قيادات رسمية وفصائلية، أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد تصريحاته عن الاستيطان ينوي أو يقترب من اتخاذ موقف ينسجم مع القانون الدولي من الاستيطان، وأن رجل الدولة سيستيقظ ويحل محل المرشح الشعبوي للرئاسة.
هناك في أوساط الفلسطينيين من ينتقل من التطيّر والمبالغة بالمخاوف من ترامب وما يمكن أن يعمله بنا، إلى الثقة العمياء به، وأنه يمكن أن يكون المخلص القادر عن صنع المستحيل، أو رؤية نصف الكأس الملآن فقط بالتوصل إلى اتفاق للسلام الذي لم يستطع سابقوه التوصل إليه، وهؤلاء ينطبق عليهم المثل "الطفران بشوف البصقة شلن".
وهذا أيضاً ما حصل بالنسبة إلى نقل السفارة، إذ انتقل الحديث من اتخاذ قرار بنقلها في حفل التنصيب إلى اعتباره تراجعاً عن هذا الأمر، وفي كلتا الحالتين ليس صحيحاً التطير ولا الاطمئنان. فالسياسة الأميركية في عهد ترامب ستشكل في أحسن الأحوال استمراراً لنهج السياسة الأميركية المنحازة كلياً لإسرائيل بصرف النظر عن الرئيس، وفيما إذا كان ديمقراطياً أو جمهورياً، وفِي أسوأ الأحوال سيكون إسرائيلياً مثل أو أكثر من الإسرائيليين. وأغلب الظن أنه سيكون في المسافة بين السيئ والأسوأ، أي سيتخذ موقفاً لا يمكن الرهان عليه في أي حال من الأحوال. وهذا ليس من قبيل الكرم، وإنما لوجود اعتبارات لا يمكن تخطيها كلياً، وللتداعيات الوخيمة التي يمكن أن تحدث إذا اختار الأسوأ.
يراهن ترامب على النجاح، ويمكن أن يسير في واحد من خيارين: أن يرمي ثقله لإنجاح صهره جاريد كوشنر لإنجاز "أم الصفقات" والتوصل إلى حل للصراع الفلسطيني المزمن، أو يترك الحبل لإسرائيل لتفعل ما تريد، مع الحفاظ على "متاهة" حل الدولتين، وعدم إطلاق يد إسرائيل كلياً في مصادرة الأراضي واستيطانها، لأن المساحة المتبقية - كما قال ترامب – ضيقة، ولكن على أساس أن الاستيطان الموجود لا يشكل عقبة، مع وضع قيود على إقامة مستوطنات جديدة، أو توسيع المستوطنات القائمة خارج حدودها الهيكلية ومناطقها الحيوية.
لم يقل ترامب إنه تراجع عن فكرة نقل السفارة، بل قال: "إن الأمر ليس سهلاً وإنه قيد الدراسة"، وهذا يعني أن القرار بالنقل من عدمه لم يتخذ بعد، ونحن يجب أن نستعد في كلتا الحالتين لكل السيناريوهات، عبر إعداد خطط لكل الحالات، لا أن نهول أو نهون في ردود أفعال متناقضة مرتبكة على كل حدث أو تصريح. ويجب ألا تكون الخطط التي نضعها حبراً على على الورق وتهديدات لفظية مثلما فعلت قيادتنا خلال السنوات الطويلة الماضية، حين هددت بحل السلطة، والمقاومة الشعبية، والمقاطعة، ووقف الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية، التي تشمل سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني، وإنهاء علاقة التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي، وكما هددت بتدويل القضية، والمصالحة، وتفعيل عضوية فلسطين في محكمة الجنايات الدولية، بل يجب بذل أقصى ما نستطيع من جهود استعداداً للتعامل مع كل السيناريوهات، عبر توفير المتطلبات الأساسية لها، وهي: رؤية وطنية جامعة، وإستراتيجية سياسية ونضالية، ووحدة وطنية.
لم تذهب القيادة في تهديداتها إلى حد تبني مسار جديد، ولم تخص المواجهة المفروضة عليها، وامتنعت عن قبول الحلول المعروضة عليها، لأنها لا تستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية ولا تحفظ ماء الوجه. الآن لن تستطيع تجنب المواجهة وتجنب القبول بالمعروض عليها في نفس الوقت، وهناك خشية من أنها يمكن أن تخضع، خصوصاً إذا ما تقدم الحل الإقليمي الذي يبشر به نتنياهو منذ سنوات طويلة، وهو حل يقوم على إعطاء الأولوية للحل مع العرب، لأن هذا يجعل الفلسطينيين في وضع أسوأ يدفعهم إلى قبول المعروض عليهم، أو مواجهة العزلة والشطب.
الأمر المقلق هو أن قيادتنا جعلتنا في وضع غير جاهزين على الإطلاق للمواجهة، ولم ندرك حجم التغيير الحادث في المنطقة والعالم، والذي يمكن أن يحدث في عهد ترامب، ونكتفي بالمراقبة، والتحليل، والانتظار، والانتقال من النقيض إلى النقيض، من التفاؤل المفرط إلى التشاؤم المبالغ فيه، وهذا إحدى علامات العجز وانعدام الإرادة على الفعل.
لا توجد لدينا مؤسسة وطنية جامعة تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، لا في المنظمة المفترض أن تكون الممثل الشرعي الوحيد، ولا في غيرها. فالمجلس الوطني لم يعقد منذ زمن طويل، ومحاولات عقده متعثرة، فهناك خلاف حول عقد المجلس القديم الذي بلغ معدل أعمار أعضائه أكثر من سبعين سنة، أو الجديد الذي بحاجة إلى انتخابات على أسس جديدة، وإلى الاتفاق على الميثاق الوطني وعلى برنامج سياسي جديد. كما لا توجد لدينا مؤسسة فئوية فصائلية فاعلة لا في السلطة ولا في الفصائل، خصوصاً أن المجلس التشريعي معطل، والقضاء في حال لا يحسد عليه، وانتهاكات حقوق الإنسان حدث ولا حرج، والفساد يرتع، والهوة بين الفقراء والأغنياء تتسع، إذ يزداد الفقراء فقراً والأغنياء غنى، أما السلطة التنفيذية فتركزت في يد شخص واحد، وهو الذي يشرّع وينفذ بلا رقيب أو حسيب.
كما أن الإطار القيادي المؤقت (لجنة تفعيل المنظمة) سحب من التداول، لأن الرئيس و"فتح" لا يريدون إدخال "حماس" إلى المنظمة لئلا يغضبوا إسرائيل والإدارة الأميركية وأطرافاً دولية أخرى، وفِي ظل سيطرة "حماس" بصورة انفرادية على قطاع غزة التي تعتبرها إنجازاً لا يمكن التفريط به، ما يعني أن اشتراكها بالمنظمة سيضيف إلى مكاسبها من دون أن تدفع ما عليها. ولو توفرت النوايا الحسنة، وتم تغليب المصلحة الوطنية لكان هناك حل عبر إقامة شراكة كاملة تتحقق من خلال وضع خطة وطنية تطبق بالتزامن والتوازي، بحيث تنهي "حماس" سيطرتها الانفرادية على غزة، مقابل أن تنهي "فتح" هيمنتها على النظام السياسي كله.
في ظل هذا الوضع، من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - وضع خطة سياسية قادرة على التصدي للتحديات والمخاطر وتوظيف الفرص المتاحة، وتتعذر مقاومة الاحتلال مقاومة فعالة قادرة على الانتصار استجابة لدعوات بعض الكتاب والأوساط لوضع محاولات إنهاء الانقسام جانباً، والتركيز على شيء آخر، فبعضهم يقترح المقاومة، لأن إنهاء الانقسام بزعمهم مستحيل لأسباب فلسطينية وخارجية، متناسين أنه إذا كان الأمر كذلك فهذا لا يعني أن طريق المقاومة مفتوحاً، بل إن الانقسام يستنزف طاقات وإمكانات القوى الأساسية في صراع داخلي، إذ يحاول كل طرف بذل كل ما لديه للحفاظ على سلطته ومصالحه ومكاسبه، والعمل على إضعاف الطرف الآخر وإسقاطه وإقصائه، وفِي أحسن الأحوال، احتوائه.
لا يعني ما سبق توقف كل شيء إلى أن يتم إنهاء الانقسام، بل يعني أن الوحدة على قواسم مشتركة وأسس ديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية شرط الانتصار، إن لم نقل للصمود وبقاء القضية حية. طبعاً، هناك حل يتمثل بالجمع بين مسارات عدة تسير جنباً إلى جنب في نفس الوقت، من خلال عمل كل ما يمكن عمله لإنهاء الانقسام في سياق توفير وتعزيز عوامل الصمود والمقاومة والتواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين، وبما يكفل بقاء القضية حية، إضافة إلى تقليل المخاطر والخسائر، والحفاظ على ما تبقى من مكاسب، وإحباط المخططات والبدائل الإسرائيلية، خصوصاً في ظل ولوج إسرائيل في مرحلة تستعد فيها للإقدام على قفزة نوعية من خلال الانتقال من الضم الزاحف إلى الضم القانوني، ومن إدارة الصراع إلى حل الصراع وفقاً للشروط والإملاءات والمصالح الإسرائيلية.
لا يقتصر الخلل على النظام السياسي والأداء القيادي وغياب وتغييب المؤسسات والسلطات، وإنما امتد ليشمل المعارضة (إن صح إطلاق مثل هذا اللقب على من يعارضون النهج السائد). فالمعارضة جاءت على شاكلة نظامها، واكتفت بتسجيل المواقف للتاريخ من دون تقديم البديل والعمل على تجسيده.
كما امتد الخلل إلى النخبة التي من المفترض أن تكون الملاذ الأخير القادر على تقديم خشبة الخلاص، من خلال بلورة الرؤية القادرة على فهم الحاضر وكيفية التعامل معه من أجل تغييره من خلال القدرة على استشراف المستقبل. وبدلاً من ذلك تحولت النخبة في معظمها إلى مثقفين وخبراء وأكاديميين جاهزين لخدمة من يدفع أكثر في القطاع العام أو الخاص أو المنظمات الأهلية، وحتى إذا كان البعض منهم يتحلى بالعمق وموهبة التنظير والتحليل لا ينظر إلى نفسه باعتباره أحد عناصر أو حوامل التغيير، بل مهمته الإشارة إلى ما يجوز وما لا يجوز، أو الانشغال بالحوار البيزنطي عن الدولة والدولتين وحل السلطة أو تغييرها دون فعل ما يلزم لإنقاذ القضية والشعب والأرض.
الرهان كان وما يزال على الشعب الذي فجر 18 ثورة وانتفاضة منذ الغزوة الصهيونية الأولى، وهو قادر على تفجير ثورة أو انتفاضة جديدة تغير الموقف وتنقله رأساً على عقب في ظل وجود إرهاصات عديدة ومتعاظمة يحاول فيها أفراد ومجموعات طرق جدران الخزان، وتأكيد جدارة هذا الشعب بالحياة الحرة الكريمة، ولو لم يكن مثل هذا الاحتمال قائماً لنقل ترامب السفارة ولضمت إسرائيل مناطق (ج) ولما زالت القضية باقية بتمسك الشعب بها وإصراره على البقاء والكفاح لأجل تحقيقها.