بقلم / عبد الناصر النجار
ربما مرَّ قرار إحدى المحاكم الإسرائيلية اعتبار المسجد الأقصى مُلكا لليهود, دون الالتفات إليه كثيراً أو تقدير خطورته، بالرغم من أنه مؤشر واضح على أن تهويد القدس وفرض الأمر الواقع أصبح حقيقة.
تهويد المدينة المقدسة بما فيها الحرم القدسي, ليس وليد لحظة أو سنة، ولكنه بدأ منذ اليوم الأول للاحتلال، حيث أصرت القيادات العسكرية الإسرائيلية في حينه على السيطرة المطلقة على المدينة وضمها وتغيير طابعها الجغرافي والديموغرافي والثقافي والديني.
وقد استخدمت حكومات الاحتلال المتعاقبة مجموعةً من الإجراءات التهويدية، وراكمت إنجازات متتالية، بحيث أصبحت عملية التهويد هي الأساس وليس الاستثناء في المدينة المقدسة.
من أهم إجراءات الاحتلال كان الاستيطان الذي تسارعت وتيرتُه خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث أقرت سلطات الاحتلال خلال هذه الفترة بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، وضاعفت عدد المستوطنين ليصل إلى حوالى 300000 مستوطن في القدس الشرقية المحتلة, وبلغ عدد المستوطنات التي أُقيمت على أراضي محافظة القدس إلى حوالى ثلاثين ألف مستوطنة.
إقامة المستوطنات تسبب بمصادرة معظم الأراضي الفلسطينية الصالحة للبناء، وحاصر الأحياء والتجمعات الفلسطينية، واكثر من ذلك فإن الأحياء الفلسطينية الموجودة داخل جدار الفصل العنصري لم يعد هناك اي تواصل جغرافي بينها، وأصبحت مجموعةً من “الجيتوهات” في بحر الاستيطان.
في البلدة القديمة من القدس، كانت سياسة التهويد أشرس وأخطر، وما زالت ذاكرة المقدسيين والفلسطينيين حاضرةً منذ الأشهر الأولى للاحتلال، عندما هُدم حي كامل وتم تسوية منازله بالأرض، ألا وهو حيُّ الشرفاء (حي المغاربة) الذي أُقيم فوق أرضه الحي اليهودي، وتم توسيع ساحة حائط المبكى (البراق), كما زرعت سلطات الاحتلال أكثر من عشرين بؤرةً استيطانية داخل البلدة القديمة، وهي تتحكم بمداخل القدس القديمة كافة.
في نفس الوقت، فإن حفريات الاحتلال المتواصلة أدت إلى إقامة مدينة ثانية تحت البلدة القديمة وهي مهودة بالكامل, والزائرون الذين تمكنوا من دخول المدينة التي أُقيمت تحت الأرض يدركون خطورة ما يحدث. الحفريات لم تتوقف خاصة تحت المسجد الأقصى الذي أصبحت أساساته معرضةً للهدم والدمار, والمهندسون يؤكدون أن الانهيار ربما أصبح مسألة وقت ليس إلا.
مخطط التهويد الكامل لمدينة القدس استُخدمت فيه آليات ضغط قاتلة على الفلسطينين لتهجيرهم إلى مدن وقرى الضفة الغربية المجاورة. الضغوط شملت النواحي الاقتصادية من خلال فرض ضرائب باهظة، وارتفاع نسبة البطالة وعدم وجود فرص عمل للشباب الفلسطينيين إلا في الخدمات الدنيا ومنها النظافة. من بين الضغوط سياسة هدم المنازل الفلسطينية تحت حجج واهية، منها عدم الترخيص أو البناء في مناطق خضراء، أو ملكية الأراضي غير الواضحة, وقد وصل عدد هذه المنازل المدمرة عدة آلاف، ولعل إجبار الفلسطينين على هدم منازلهم بأيديهم هي سياسة أكثر من عنصرية وإجرامية لا يوجد لها مثيلٌ على مدى التاريخ.
كثيرٌ من المقدسيين يجبَرون على هدم منازلهم بأيديهم، لأن الخيار الآخر هو دفع عشرات آلاف الشواكل مقابل قيام آليات الاحتلال بالهدم.
ولهذا السبب، وفي ظل ازدياد عدد الفلسطينيين المقدسيين وعدم منحهم رخصاً للبناء، فإن الأحياء المقدسية أصبحت مكتظةً بشكل غير مسبوق، وأصبح إشغال الغرفة الواحدة لخمسة أو ستة أشخاص أمراً شائعاً، خاصةً في البلدة القديمة. وهذا أدى إلا ارتفاع بدل الإيجار ليصل معدل ألف دولار للشقة التي لا تزيد مساحتها على 120 مترا مربعاً, ولهذا اضطرت مئات العائلات للمغادرة الى أحياء تصنف مقدسيةً تقع خارج نطاق جدار الفصل العنصري، وهذه الأحياء مهددةٌ في كل لحظة بقرار إسرائيلي يخرجها من نطاق حدود بلدية الاحتلال في القدس بعد العام 1967. ولا بد من الإشارة أيضاً لسياسة تهويد المناهج الفلسطينية، وخاصةً منهاج التاريخ والجغرافيا، بحيث أصبح الطفل الفلسطيني المقدسي مجبراً على ان يتعلم أن هذه هي أرضُ الميعاد وليست أرضَ فلسطين التاريخية على سبيل المثال.
تهويد القدس جاء بمساهمة كل الأطراف الصهيونية في العالم، وصُرف على ذلك مليارات الدولارات، والسؤال اليوم أين هم مئات الملايين من المسلمين والعرب؟ ماذا قدموا للقدس سوى البكاء على الأطلال أو الصمت المخزي على اغتصابها بشكل كامل.