بقلم / أكرم عطا الله
من لا يعرف إسرائيل يحتار فيما يحدث عندنا، ومن يرى الصورة من تل أبيب يتمكن من رؤية المشهد كاملاً، لأن الارتباط بين المشروعين الوطني الفلسطيني والإسرائيلي يجعل من حركة أحدهما انعكاساً للأخرى، وهذه واحدة من طبائع الأشياء وأبجدياتها نظراً لهذا الحجم من الاشتباك في كل شيء، بدءاً من الأرض والمياه وصولاً لكل شيء بما فيه مشروع الكيان الخاص بكل منهما، فتقدم أي واحد سيكون بالقطع على حساب الآخر، أي أن تقدم المشروع الوطني الفلسطيني على حساب المشروع الإسرائيلي والعكس صحيح.
الفكر السياسي في إسرائيل أصبح أكثر وضوحاً في الأشهر الأخيرة، بحيث يعبر عن نفسه من تصريحات وتصورات لقادة سياسيين وكذلك مفكرين وأساتذة جامعات، مثل مردخاي كيدار وجامعة بار إيلان وهي جامعة اليمين الإسرائيلي، إذ باتت تعتبر العقل السياسي للمؤسسة القائمة في الدولة العبرية. ففي الآونة الأخيرة بدأ ما كان مخفياً يخرج للعلن ويعبر بشكل أو بآخر عن مفهوم إسرائيل للحل مع الفلسطينيين والسياسة الفلسطينية، والتي تتجاهل وجودها في الضفة الغربية والحديث عن غزة كمركز لتلك الكيانية، بل إن ما هو موجود فيها مؤهل لإنشاء هذا الكيان، أي أن الفكر السياسي بات يتحدث عن دولة غزة.
البعض يعتقد أن تلك قراءات غير واقعية، والبعض يتحدث بالموافقة على المشروع بما ينسجم مع رؤية التحرير الطويل، والبعض بات أكثر قلقاً ليس ارتباطاً بقدرة إسرائيل على فرض حقائق الأمر الواقع كما فعلت في الضفة، والذي أنهى عملياً حل الدولتين قبل الإعلان عن تأبينه وخصوصاً مع تراجع القضية الفلسطينية بعد انتخاب الرئيس ترامب وتساوقه مع الرؤية الإسرائيلية محاطاً بكونغرس أكثر دعماً لإسرائيل من الرئيس نفسه، والذي بات يتقدم بمشاريع إلزامية بنقل السفارة بل ومعاقبة الخارجية الأميركية اذا لم تفعل ما يعني تشريع موت الحل.
بالعودة للتاريخ، فالقصة بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي في عهد حكومة شمعون بيرس عندما بدأت مراكز الديمغرافيا تعطي أرقاما ونسبا تشاؤمية عن عدد اليهود والعرب في فلسطين التاريخية، وتنظر للمستقبل بسوداوية، بل ووضعت موعداً محدداً ستتغلب فيه أعداد العرب على أعداد اليهود، وهذا أضاء كل الأضواء الحمر في تل أبيب، بل واستدعى نقاش ما سمي حينه بـ «الأزمة الوطنية» في الكنيست الى الدرجة التي جعلت عضو الكنيست يصرخ مطالباً بفض الجلسة، وأن يذهب كل عضو هنا وأولهم رئيس الوزراء لممارسة «واجبه الوطني» مع زوجته.
منذ ذلك الوقت وضعت إسرائيل خطتها الاستراتيجية للحل على مستويين لتعديل الميزان الديمغرافي، الأول وهو تهجير يهود من الخارج وعينها على يهود الاتحاد السوفييتي، والثاني هو التخلص من أكبر كم من الكتلة العربية تحت الحكم الإسرائيلي، فكان الخيار التخلص من غزة وليس الضفة لسببين؛ الأول لأن الكتلة السكانية في قطاع غزة تتزايد بتسارع أكبر من الضفة وخارج السيطرة لأن الثقافة الإنجابية في غزة مختلفة عنها في الضفة، وثانياً لأن الضفة تشكل جزءاً من أعمدة الأمن القومي الإسرائيلي، أما غزة التي تمنى رابين أن يصحو ليجد البحر ابتلعها فهي منطقة طرفية مزدحمة صغيرة المساحة بلا موارد.
من هنا، كانت غزة أساس التفكير بالكيان الفلسطيني، وهكذا كانت عملية السلام التي بدأت منتصف تسعينيات القرن الماضي تركز على التخلص من القطاع ليكون الاتفاق على غزة وفيها يكون مقر الحكم الفلسطيني، وهذا ما أدركه الرئيس ياسر عرفات الذي اختار أن يكون أسيراً وشهيداً في الضفة على أن يكون رئيساً في غزة بعد فشل الموعد المحدد للحل واندلاع الانتفاضة وإدراكه للنوايا الإسرائيلية خاصة بعد العودة من كامب ديفيد التي كانت آخر المناورات في حينه.
لم تكن المفاوضات سوى غطاء لما اتضح في دوائر التفكير الإسرائيلية لحل ما أسموه «بالأزمة الوطنية». ومع استمرار الحديث الفلسطيني عن دولة في حدود 67 حدثت الضربة الأكبر عام 2007 بإخراج غزة من سيطرة السلطة وانفصالها عن الضفة الغربية، حيث أنشئت فيها مؤسسات موازية، وبات أمر استعادتها أو عودتها واحداً من المستحيلات، حيث فشلت كل الوساطات الإقليمية والمحلية وجلسات الحوار في إعادة أو استعادة غزة للسلطة.
أصبح المشهد كالتالي، غزة تتبلور فيها مؤسسات خاصة وملامح كيان مستقل قادر على الحياة اذا ما رفع الحصار، وفي الضفة تزداد سيطرة الإسرائيلي على كل شيء، وآخرها إعلان منسق شؤون المناطق فتح صفحة إلكترونية لمخاطبة السكان مباشرةً، وألا تمر مصالحهم عبر النظام السياسي القائم هناك، إذ تتآكل السلطة رويداً رويداً وصولاً لما يشبه ادارة ذاتية للسكان أو حكما ذاتيا تحت الاحتلال، ومع وصول ترامب وإغلاق أبواب العمل الدبلوماسي وانحسار دور وزارة الخارجية، فالحكم الذاتي بلا خارجية، يتضح أن المشروع الإسرائيلي يسير على أقدام حقيقية.
من المسؤول عن ذلك؟ إسرائيل تفكر ليل نهار وأي تقدم لنا على حسابها هذا طبيعي، ولكن المسؤول عن كل ذلك هم الفلسطينيون أنفسهم، هم الذين هيؤوا الأرضية المناسبة واتضح كأنهم استدرجوا إلى حيث الإرادة الإسرائيلية كالتلميذ المؤدب. فصلوا غزة عن الضفة هذا فعلٌ من حماس، أما السلطة وحركة فتح فقد تجاهلتا غزة وبدا كأنهما يقطعان شعرة العلاقة دون بذل أي جهد لعودتها أو استعادتها، بل إن مؤتمر حركة فتح السابع وخصوصاً تجربة المجلس الثوري الذي غابت عنه غزة كأنه يعزز عملية القطع تلك.
منذ سنوات، هناك دولة تقوم بإنشاء ما يشبه بنية تحتية لغزة على شكل شوارع ضخمة، بينما تلك ليست أولوية غزة التي تنام على الظلام وتشرب مياهاً مالحة. ولو تم سؤال غزة عن أولوياتها ستكون الشوارع الضخمة آخر اهتماماتها. لكن لا دولة دون بنية تحتية، وتلك تم العمل بها مبكراً لم تنتبه لماذا؟ ومفارقة سماح الإسرائيلي لتلك الدولة باستيراد أسمنت في الوقت الذي كانت تمنع دخوله للبناء حتى لو كانت تعرف أن جزءاً من هذا الأسمنت يذهب للأنفاق، تلك المفارقة.
والمفارقة أن تلك الدولة كانت تمر عبر تل أبيب وينسق مندوبها مع رام الله وينفذ بالتعاون مع الحكم في غزة، هل كان كل ذلك مصادفات؟ أم أن الجميع كان شريكاً في دولة غزة التي تتبلور ملامحها؟ في السياسة لا شيء بالصدفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بدولة كل شيء فيها محسوب بدقة متناهية في مراكز الدراسات، دولة مسكونة بالهواجس وتخطط بشكل إستراتيجي لكل شيء..!!