المقال يعبر عن رأي كاتبه
بقلم / عبد الغني سلامة
بعد أن كان المسيحيون الفلسطينيون يشكلون نحو ثلث سكان البلاد في القرن التاسع عشر، ونحو 20% عشية النكبة، لم يعودوا يشكلون اليوم سوى أقل من 2%. وحسب الباحث "غطاس أبوعيطة"، فإن عدد المسيحيين اليوم في فلسطين بقدر بِـ 167 ألفاً، بينهم 115 ألفاً داخل الخط الأخضر، ونحو 40 ألفاً في الضفة الغربية، و9 آلاف في القدس، و3 آلاف في قطاع غزة.
حتى مدينة بيت لحم حيث مهد المسيح، فهي شبه خالية من الأسر المسيحية، وهناك قرابة ربع مليون من أبناء المدينة يقيمون في المهاجر.
أما القدس حيث كنيسة القيامة، فبعد أن كان عدد المسيحيين فيها قبل النكبة قرابة 30 ألفاً، أصبحوا الآن أقلية، كما هي حالهم في مدينة الناصرة ورام الله، حيث تتقلص أعدادهم بشكل محزن.
في واقع الأمر، لم يتوقف نزيف الهجرة المسيحية لا من فلسطين ولا من البلدان العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، لأسباب وعوامل موضوعية، بيد أن الهجمة الصهيونية على فلسطين أضافت أسبابا أخرى سرعت من هجرة المسيحيين الفلسطينيين، فعلى إثر النكبة، نزح من فلسطين نحو 750 ألف لاجئ، من بينهم نحو 60 ألف مسيحي، وبعد نكسة حزيران هُجِّر 338 ألف فلسطيني، من بينهم قرابة 11 ألف مسيحي، وهؤلاء كانوا يشكلون ما نسبته خُمس مجموع المسيحيين. وعلى مدى سنوات الاحتلال، ونتيجة الممارسات القمعية الإسرائيلية استمر تدفق الهجرة الفلسطينية ولكن بأعداد أقل بكثير، وبوتيرة بطيئة، وبطبيعة الحال كان من بين المهاجرين مسلمون ومسيحيون، حيث كان يترك الضفة الغربية ما بين المسيحي والمسلم نحو ثمانية آلاف شخص كل سنة، ومن غزة نحو الأربعة إلى الخمسة آلاف شخص.
بيد أن الحملات الإسرائيلية الممنهجة استهدفت المسيحيين بشكل خاص، حيث أجبرت مئات الأسر المسيحية على ترك أحيائها في القطمون والطالبية وغيرها من أحياء القدس، كما استهدفت اللد والرملة من قبل.
وفي الانتفاضة الأولى استهدفت بيت ساحور، وفي الثانية تركز القصف الإسرائيلي على أحياء بيت جالا.
يتسرع البعض باتهام المسيحيين بضعف انتمائهم لبلدانهم، بدليل سهولة هجرتهم! وهذا اعتقاد خاطئ؛ فهناك عوامل اقتصادية واجتماعية تدفعهم للهجرة، شأنهم شأن بقية البشر؛ مثلاً للدراسة، للعمل، لتحسين ظروف الحياة، أو للبحث عن بيئة أفضل، أو لمجرد التغيير، وهذه أسباب طبيعية للهجرة تحدث مع أي إنسان على وجه البسيطة، ولكن، لأن المسيحيين أقلية فإن أي أعداد للمهاجرين منهم تبدو كبيرة ولافتة للنظر.
بيد أن عوامل ثقافية وسياسية إضافية أثرت على المسيحيين العرب خاصة، وحولت هذه الظاهرة إلى موجات لهجرات واسعة.
أولى هذه الموجات بدأت في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وتصاعدت أكثر أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، ومن بين أسبابها الاضطهاد الديني وحملات التطهير العرقي (خاصة في العراق، ومذابح الأرمن)، وحملات الملاحقة الأمنية من قبل السلطات التركية ضد النخب المسيحية المثقفة التي ساهمت في بلورة الحركة القومية العربية، ما دفع أوساطاً منهم للهجرة نحو الأميركيتين.
لكن هذه الموجة من الهجرة لم تقتصر على النخب السياسية، بل ارتبطت بظروف المعيشة القاسية التي بلغت حد المجاعة.
حاليا، يتدفق ملايين المهاجرين العرب إلى أوروبا وغيرها، وأغلب هؤلاء تركوا بلدانهم بقصد الهجرة، والسبب الرئيس هو الوضع السياسي المتأزم، والوضع الاقتصادي المتردي، بالإضافة للوضع الأمني المتدهور، ما يعني أن المسيحي مثله مثل المسلم يهاجر حين تضيق به الحياة، ويفقد أمنه وتجبره الظروف على الرحيل، وحين يجد أماكن أفضل للتقدم وللعمل، وبخاصة فئة الشباب.
صحيح أن هجرة المسيحيين العرب متواصلة منذ عقود، بيد أنها تصاعدت بشكل خطير في العقدين الأخيرين، لدرجة تخطت أسباب الهجرة الطبيعية، وبات واضحا أن جهات متعددة تعمل بشكل ممنهج ومنظم على تفريغ المشرق العربي من التواجد المسيحي، حتى انخفضت أعدادهم إلى النصف. بعضها يعمل وفق مخططات سرية، وبعضها يعمل علانية، بالعنف والقتل والتحريض، وافتعال المشاكل، فضلا عن التحريض الطائفي المكشوف، سواء في خطبة الجمعة التي تتضمن عادة دعاء على النصارى واليهود! أو في وسائل الإعلام الأخرى.. إضافة إلى أن انتشار الخطاب الديني المتشدد أثار مسألة الهوية، ودفع بمن لا يعنيهم هذا الخطاب إلى التساؤل عن موقعهم في المجتمع، وإلى البحث عن حقيقة علاقتهم مع غيرهم من أبناء الوطن الواحد.
في العراق تعرض المسيحيون لعملية ترحيل ممنهجة، بدأت مع الاحتلال الأميركي وبتشجيع منه، وبتنفيذ من الجماعات الدينية المتعصبة مثل القاعدة.. وما أن استولت داعش على الموصل حتى قامت بطرد جميع المسيحيين من المدينة، بعد أن صادرت بيوتهم وممتلكاتهم.
في سورية أيضا مارست الجماعات الدينية المتشددة، ومنها جبهة النصرة، تحريضا على المسيحيين، وكل ذلك في سياق إعادة هيكلة التركيبة الإثنية والطائفية في المنطقة وفقا لمخططات التقسيم التي تتغذى على الخطاب والتحريض الطائفي.
وفي قطاع غزة، حيث تتواجد أقلية مسيحية تحت حكم حماس، يجدر التنويه لتصريح للبطريرك ميشيل صباح قال فيه: "يجب أن نشهد لحماس أنها ترعى المسيحيين، ولا سيما في وجه بعض الفصائل والفئات الأخرى المتطرفة".
وثمة أسباب إضافية تدفهم للهجرة، من بينها طبيعة القوانين التي تحد من حرياتهم الدينية، مثلا في بلدان عربية، بعض القوانين تمنع أن يقيم المسيحي قداسا إلا داخل الكنيسة، وربما يتطلب ذلك تصريحا، في دول اخرى بناء أو ترميم الكنيسة بحاجة إلى تصريح، وغالبا (خاصة في مصر) لا يمنح مثل هذا التصريح.
اليوم، تبلغ أعداد المسيحيين العرب ما بين 10 إلى 15 مليون شخص، تتواجد غالبيتهم في السودان ومصر (7-12 مليون).
في العراق بعد أن كان عدد المسيحيين فيها يتجاوز المليون وأربعمائة ألف شخص، تقلص إلى أقل من أربعمائة ألف.. في لبنان انخفضت نسبتهم من نحو 55% إلى أقل من 40% بسبب الحرب الأهلية اللبنانية.
في سورية بعد أن كانت نسبتهم في القرن التاسع عشر نحو 20% من السكان، لا تتجاوز نسبتهم الآن 10%.
وتقدر أعداد من هاجروا من المسيحيين العرب بحوالى الأربعة ملايين، أي ما يقرب من ربع أعداد المسيحيين في الوطن العربي.
وإذا ظلت نفس الظروف، ونفس الوتيرة من الهجرة، فإن عدد المسيحيين العرب سيتقلص بعد عشر سنوات إلى نصف العدد الحالي.