بقلم /أكرم عطا الله
بقينا فترة من الزمن على امتداد السنوات الماضية نتحدث عن قوى سياسية عاجزة بل وصانعة أزمات، مستبعدين قدرتها على فكفكة ما صنعته من عقد أصبحت تطوق مشروعنا الوطني بحبال من مسد، وأصابته ضرباتها الطائشة إصابة بليغة نازفة، واستمرت تخنقه بقبضاتها الأمنية حد الموت، فتوقف عن الحياة بلا انتخابات ولا حياة ديمقراطية ولا معابر ولا كهرباء ولا اقتصاد ولا تحرير حتى ... كل شيء توقف.
لم نحمل الفصائل المسؤولية وخاصة حركة حماس التي قامت بمغامرة 2007 التي أدت الى ما آلت إليه غزة من موت بطيء، لأن هذه الفصائل حالة نظرية منفصلة عن الواقع أو قوة عسكرية مجردة أو معزولة كما يحدث في الانقلابات العسكرية، بل لمحاولة الضغط عليها باعتبارها صانعة قرار في المصالحة وإعادة بناء النظام السياسي.
لكن الحقيقة أن لدينا انقساما بين طرفين وصراعا بين حركتي فتح وحماس بغض النظر عن دور وحجم ومسؤولية كل منهما، لكن نحن أمام نتيجة، قطيعة بين الحركتين أدت الى هذا الانشطار في كل شيء بالمعنى الجغرافي والسياسي والثقافي، ويزداد معه التغول ضد الحياة المدنية وحقوق الإنسان الطبيعية المسلوبة والتي يتم اعتقال المواطن عندما يطالب بها.
لكن الحقيقة الأصعب أن هذا الانقسام له مؤيدون ومريدون ومقاتلون ومدافعون بكل شراسة عنه وعن كل السياسات المعمقة له وكل التجاوزات ضد المواطنين وضد المصالحة حتى، هؤلاء هم مؤيدو الفصائل الذين يملؤون الفضاء العام ووسائل التواصل الاجتماعي دفاعاً عن السياسات والخروقات، عندما يتعلق الأمر بحزبهم يقومون بحملات منظمة وعشوائية ضد الخصوم تتجاوز حتى الادراك بأن هناك آخر يستحق الحياة حتى، حملات من التشهير والهجوم التي تضعنا أمام التفسير الأشمل للانقسام، وهو أن المجتمع نفسه والشعب هم حماة الانقسام وضياع الحقوق.
الأسئلة كثيرة فحركة حماس في قطاع غزة تعتقل خصومها السياسيين والناشطين وتحاول إسكات معارضيها، فقبل فترة تم الاعتداء على أمين سر هيئة العمل الوطني في غزة محمود الزق واعتقال الكاتب عبد الله أبو شرخ.
مؤيدو الحركة كانوا يدافعون بشدة عن هذه التجاوزات الخطيرة أو على الأقل صمتوا جميعاً على وسائل التواصل الاجتماعي سكوت الرضا، وهنا ما يجب أن نراه وكذلك في الضفة الغربية لو سألنا مؤيدي حركة فتح عن تجاوزات الضفة أو الاعتداء على خضر عدنان هل يرفضون ذلك؟ بالعكس فان رأي بعضهم كان يبرر ما يحدث ويتهم خضر عدنان ويحمله المسؤولية. هكذا الأمر اذن اذا ما نظرنا بشكل أعمق.
الشعب الفلسطيني كله مشارك في الانقسام، وكله مسؤول عن دعمه واستمراره ومسؤول عن عدم اجراء المصالحة، فلو أن الفصائل وجدت شعباً موحداً ضد الانقسام لانتهى منذ زمن.
ولكن الفصائل التي تشارك في صناعة الرأي العام أصبحت أسيرة لهذا الإجماع الشعبي المنقسم بين فريقين يقف بكل قوة ضد الآخر وضد المصالحة معه، والأمر الذي لا نراه جميعاً ونحن نتحدث عن أن المصالحة مطلب شعبي، وهناك إجماع لإتمامها لا نرى أن هذا الإجماع متباين الرؤية حول تفاصيلها، فمؤيدو حركة حماس يريدون ويدافعون ويناقشون حول مصالحة وفق رؤية الحركة ولا غير، ويفضلون بقاء الانقسام على مصالحة بقواسم مشتركة، وكذلك مؤيدو حركة فتح لهم رؤية تنسجم مع رؤية الحركة البعيدة عن رؤية حماس.
الرأي العام الفلسطيني أصبح جزء هاماً من صناعة الأزمة ومانعاً كبيراً لانهائها، هذه الحقيقة الواضحة وما نراه من قبل مناصري الفصائل ينبغي النظر له باعتباره واحداً من ممكنات القوة الفاعلة في المجتمع.
وأحياناً نجد المريدين أكثر تطرفاً وتشدداً من قادة الفصائل نفسها، ونجد الاتهامات بينهم أكثر قسوة عن تلك التي نسمعها بين الناطقين باسم القوى، مخترعين مصطلحاً شعبياً جديدا «السحيجة» وهم الذين يؤيدون الحزب بعمى مطلق على الصواب وعلى الخطأ أيضاً وتلك الكارثة.
التجربة الأخرى في علاقة الحركة السياسية بالرأي العام الذي لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً بتحويله الى حالة فاعلة في السياسة والمجتمع، هو أن كل مواطن لديه اتجاهاته السياسية والاجتماعية والثقافية.
وهنا الجديد في علاقة الرأي العام بالمثقف والذي يمكن قياسها من ردود الفعل التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي، فالمثقف عندما يتحدث لصالح اتجاه معين نجد أصحاب هذا الاتجاه يرفعونه الى مصاف كبار المثقفين، واذا ما كتب معترضاً نجد نفس الاتجاه يجرده من قدراته المهنية مشككاً حتى بقدراته ومؤهلاته الثقافية. النتيجة أن الرأي العام لا يريد مثقفين ولا كتابا ولا صحافيين بل يريد أبواقا تتحدث باسمه، فهو لا يحترم الثقافة ولا الفكر ولا الصحافة ولا الكتابة الا اذا كانت تدافع عن حزبه السياسي حتى لو خاطئاً، أما أن تنتقد حزبه فتلك مدعاة للشبهة والتساقط والتمويل والتشكيك في شخصية الكاتب، وتلك وحدها مدعاة للتفكير في جدوى الكتابة نفسها في مجتمع أحرق كل شيء ويقف على كومة من الركام. لأن قيمة الكاتب لم تعد بنظر المؤيدين بحجم ما كتب من كتب أو مقالات ولا بحجم المواقف بل بالقدرة على تحويله الى أداة صغيرة في صراع الكبار ولعبة السلطة، تحويله الى بوق او سحيج كما يطلقون على أنفسهم، لأن الفصائل نفسها لا تعترف بالمثقف ولا تشيد بالمقال الا اذا كان مادحاً لها ولنهجها، أما أية ملاحظات نقدية للمسار فتلك كفيلة بوضع الكاتب في اللائحة السوداء.
التجربة طويلة ومدعاة للحزن عندما نكتشف أن الأزمة تكمن في الشعب نفسه والرأي العام الذي أصبح عبئاً على القضية نفسها وعلى كل مؤسسات المجتمع القائمة وعلى المثقفين، لأن الرأي العام يريدهم شعراء بلاط زعيمهم وحزبهم حتى وان ضل الطريق وحاول المثقفون الاعتراض والتصويب، إنها ثقافة القبيلة ورعيتها، وهي الثقافة التي جسدت الأزمة العربية بتفاصيلها والتي أنتجت كل هذا الاضطراب لو كان وعي الشعب مختلفاً ....لو كان موحداً وصاحب قرار أو غير منساق لانتهى الانقسام منذ زمن، علينا الاعتراف بذلك.