بقلم: طلال عوكل
بعد أيام قليلة تحل الذكرى الخمسون لحرب حزيران التي وقعت في الخامس منه عام 1967. ربما كان من المنطقي ان تتخذ تلك الحرب طابع الهزيمة او النكسة، حيث لم يستسلم نظام الزعيم الكبير الراحل جمال عبد الناصر، ودخل الجيش المصري مرحلة حرب الاستنزاف.
وربما كان توصيف تلك الحرب بالهزيمة او النكسة في ذلك الحين منطقيا، خصوصا مع اندلاع الثورة الفلسطينية المسلحة التي اختطفت راية الصراع، وجعلت الفلسطيني في مقدمة النضال التحرري، بدون إسقاط دور الجيوش العربية والحروب الكلاسيكية. لم تقدم الثورة الفلسطينية صاحبة نهج الحرب الشعبية طويلة المدى، نفسها كبديل عن دور الجيوش العربية، بل كانت تصر على التكامل بين المنهجين. الجيوش العربية في دول الطوق بنيت، وتشكلت عقيدتها القتالية انطلاقا من الشعور بالمسؤولية القومية، وقد تعمق هذا الشعور أيضا لأن حرب حزيران أدت الى احتلال سيناء والجولان، بالإضافة الى كل ارض فلسطين التاريخية.
ولأنه ما كان ممكنا تحرير سيناء او الجولان، فقط من خلال شن حروب محدودة جغرافيا، فقد تداخلت وتشابكت بعمق المصالح الوطنية الفلسطينية بالمصالح الوطنية المصرية والسورية. كان عبد الناصر زعيما قوميا، تحرريا من طراز فريد، حيث استحوذ خطابه التحرري الوحدوي على قلوب الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، الأمر الذي شكل قيدا حقيقيا على سياسات الأنظمة العربية، التي لم تكن قادرة على الخروج عن ذلك الخطاب، ولم تكن تجرؤ على تخطي الخطاب الناصري رغم خلافات البعض معه.
حرب تشرين عام 1973 شكلت المنعطف الأول والأساس والاهم في تغيير دور الجيوش العربية، وفلسفة التحرر الوطني القومي.
انتصرت الجيوش العربية خصوصا الجيش المصري ومن ثم السوري والعراقي، وكان بإمكانها مواصلة القتال بنجاح ضد إسرائيل بالقدر الذي اشعر زعماءها (إسرائيل) في ذلك الوقت بالخوف على وجود الدولة. لكن الحسابات جعلت الحرب الباسلة تقف عند حدود جغرافية معينة، ما دفع البعض لاعتبارها حربا تحريكية وليست تحريرية.
اتفاقية كامب ديفيد شكلت بداية النهاية لدور الجيوش العرية والحروب الكلاسيكية في الصراع مع إسرائيل، فلقد خرجت القوة المركزية الأساسية الأكبر متمثلة في الجيش المصري بعد ان استعادت مصر سيناء بالمواصفات التي يعرفها الجميع.
منذ ذلك الوقت هدأت الجبهات العربية المحيطة بفلسطين، الا من تلك التي شغلتها الثورة الفلسطينية المسلحة، وكل جبهة منها وجدت لذاتها المبررات الكافية للحفاظ على الهدوء، واللعب على القوى الفلسطينية اللبنانية التي واصلت القتال. ومع توقيع اتفاقية أوسلو، وقبلها اتفاقية وادي عربة، انتهى كل حديث عن دور الجيوش العربية، وحتى الفلسطينيون تخلوا عن منهج الكفاح المسلح، واتخذت حرب التحرير الشعبية طابعاً مختلفاً، تم اختصاره بالمقاومة الشعبية، وأشكال المقاومة السياسية والدبلوماسية.
خلال هذه المرحلة، تصدر حزب الله مشهد المقاومة المسلحة ولاحقاً تقدمت حركتا حماس والجهاد الإسلامي، واتخذتا مواقع مهمة في مشهد المقاومة المسلحة، وخلال هذه الفترة، بدأت إسرائيل تتسرب إلى بعض الدول العربية لتقيم مع بعضها علاقات من تحت الطاولة، ومع بعضها الآخر من فوق الطاولة. بعد احتلال العراق وانفجار الصراع في سورية، واستنزاف جيشها في الصراع الداخلي، ختمت إسرائيل بالشمع الأحمر على كل إمكانية لدور الجيوش العربية في الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يعد موضوع الصراع ضد إسرائيل التي تأسست عام 1948 في بال احد.
المشهد اليوم يشير الى تراجعات مستمرة، وسريعة، فلقد بات من الصعب تحرير الأرض المحتلة منذ عام 1967 ما رسخ وجود دولة إسرائيل، التي نشأت عام 1948 على 78% من ارض فلسطين التاريخية.
اليوم أصبحت النكسة او الهزيمة نكبة أُخرى بعد نكبة عام 1948، اذ ان محصلة نتائجها خلال الخمسين عاما منذ وقوعها، ترقى الى مستوى الولادة الثانية لإسرائيل.
العرب اليوم لم يعودوا منشغلين، ولا للحظة واحدة، في ان يعيدوا بناء جيوشهم وقدراتهم لتحرير فلسطين، وكأنهم يقبلون بها كأمر واقع، لا مجال للهروب منه، لا بل ان العرب اليوم يتسابقون على إقامة العلاقات مع إسرائيل، التي ينظرون إليها باعتبارها المنقذ.
تغيرت أولويات العرب، وكل ذلك بفعل فاعل، أصله أميركي إسرائيلي، اذ اصبح الحفاظ على النظام العربي الرسمي او ما تبقى منه، هو الهدف، وان إيران هي العدو الرئيسي للامة العربية، بينما تحولت إسرائيل الى حليف يرتجى رضاؤه.
نجحت إسرائيل والولايات المتحدة، اللتان أسستا لظهور نشاط الجماعات الإرهابية، في ان تقمعا هذا التحول، طالما اصبح الإرهاب هو العدو المتحد مع إيران، وتحولت جماعات المقاومة من حزب الله الى حماس وأخواتها الى جماعات إرهابية، اما إسرائيل دولة الإرهاب فتحولت الى دولة مقاومة للإرهاب ودولة مسالمة.
هذا هو الواقع المرير الذي تعيشه أمة العرب اليوم، التي تنفق مئات مليارات الدولارات على حروب وصراعات، كان يمكن ان تحيل المنطقة العربية كلها منطقة ناهضة، متطورة، وقادرة على اللحاق بركب التطور الصناعي والحضاري.
كل هذه التحولات والتجهيزات والتحالفات والحشود الضخمة وصفقات السلاح والجيوش العرمرمية، لم تعد قادرة على انتزاع الحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية على الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967.
وبغض النظر عما يقال عن طبيعة المقاومة الفلسطينية، من حيث الجدوى او من حيث ان كانت تشكل الأسلوب الأمثل والأساسي في مثل هذه الظروف، إلا ان التبدلات التي أصابت فلسفة وأدوات الصراع مع إسرائيل وأهداف خوض هذا الصراع، أطاحت بالكثير من القيم والمفاهيم والأدوار حتى بات الفلسطيني وحيداً عارياً مجرداً من عمقه العربي والإسلامي، بعد ان كان طليعة للنضال التحرري العربي والإسلامي.
المقال يعبر عن رأي كاتبه