الكاتب والمخرج/نورس أبو صالح
اية ممزقة وبقايا مقعد فخم ومشهد يبدو أنه من حلب أو حمص، ولا فرق هنا فقد تشابهت المشاهد علينا بفعل البراميل المتشابهة التي نزلت على رؤوس البشر والحجر، وقد ألقي بجانبها دراجة هوائية ولعبة أطفال مشوهة. هذا هو الترويج الصوري لما تفتق عنه آخر عقل درامي عربي، موجهاً كل ماله وكاميراته ووجوه ممثليه وتقنيات تصويره، ثم يخرج الصوت الرخيم متباهياً بأنه التقط مصطلحاً قرآنياً، فيقولها خائفاً من تحريكها، مُسكّناً نهاية المقطعين، "غرابيبْ سودْ"، بعد قليل.
فقط في هذا الترويج البصري الأولي يبدأ قضم الصورة، وكأن الغرابيب حالة منفصلة عن كل ما يحيط بها، وكأن هؤلاء الحفنة القاتمة قد ظهرت من الفراغ، وسط الخراب الذي ظهر من الفراغ، واقتات على البشر الذين عانوا من الفراغ، فأين غاب ذاك المُغَيّب؟ وأين ذهب ذاك المسبب للمساحات التي ظهرت فيها الغرابيب؟ أم أنه إمساك بطرف الذيل المعوج، تاركين الكلب يلهث، ويستمر في سعاره دون أدنى اشارة إلى أن الذيل يتبع سيده.
لن أخوض في سذاجة النص، وتلقين المشاهد، والتعويل على ما يسمى بالقصص الواقعية، والإمعان في استغباء الجمهور، وتلقيمه بالملعقة كل جزئيات التعميم، واللمز بطقوس معلومة في الدين والمجتمع، تحت ذريعة "أن البدايات تكون هنا، والنهايات في الغرابيب".
ولن أستجدي البراءة بالقول إنهم أناسا غريبة عنا، وأن هذا الفهم من الدين ليس الذي نفهمه، وأنني أرفض قلباً وقالباً تصورهم وتصوراتهم، وأن صنيعهم وإنتاجاتهم المرئية الشاهدة على بشاعة ما وصلوا إليه هي محط استنكار القاصي والداني والمؤمن والملحد والمحافظ والليبرالي، هذا إن عزلناهم ولم نشكك في منبتهم و صنيعتهم، ولكن.
تعالوا إلى لكن هذه، إن الخطر الكامن في عزل هذه الغرابيب في أقفاص، وإدارة دفة الكاميرا فقط باتجاهٍ واحدٍ، ليس مهاجمتها هي كظاهرة، ولا مواجهة إرهابها بالفن، بل تبرئة للمسبب الأول لوصول الغرابيب إلى بيوتنا المهجورة، المهجورة بفعل ظلم من لم يستمع لمطالب الناس وهي تذوق الرصاص في سلمية مميتة. تبرئة الذي قتل كل أملٍ في شباب متطلعٍ إلى "هاي هي الحرية"، فكان الثمن برميلاً أبكماً متفجراً، أحال مدنه إلى خرابات، امتلأت بالغرابيب السود.
ولم يتوقف عن تبرئته فقط بل تجاوز إلى تبني كذباته، في استحداث مصطلحات لم يعلم بها الأولون ولا المتأخرون، فتساق النساء راضيات في أولى الحلقات، في مشهد مبتذل بالسواد، إلى الجهاد الذروة، في نكاح المجاهدين، فلا هن نساء سويات ولا هم مجاهدين حقاً، ولا هناك جهاد بهذا الاسم. لكن من يرفع الصورة النمطية التي ترتسم الآن في ذهن المثقل من إفطار متخم؟ وهو يتابع مع الجيل الجديد، خطر حلقات القرآن وصلوات الجماعة في شهر القرآن والتروايح؟
هل غاب عن القائمين عن الإنتاج، أنه إسلاموفوبيا معلبة، وتحتاج إلى ترجمة فقط لكي نحظى بصورة راسخة لدى الغرب المشبع بها أصلاً؟ أم أن مثل هذه الأشياء لا تغيب؟ هل استحضر المنتجون والناشرون، أنهم يبثون هذا العمل في مجتمعات جمهورها يتلفع السواد تقليداً أكثر منه تديناً في الكثير من الحالات، فيسمونهم غرابيب سود؟
هل وعت الشاشة التي تجمعنا، أنها تتبنى وجهة نظر أبشع نظام عرفته البشرية، في مأساة القرن؟ وتزيد على ذلك في أنها تريد أن تخبر الله بكل شيء، في طفل خرج من تحت أنقاض براميله المتفجرة، وتلقي بلائمتها على النتيجة متجاهلة حتى الغبار الممزوج بالدم على وجه عمران، فيما يصدح باقي أطفالنا في الشهر الفضيل، مقطعاً في عملٍ ينبذ العنف على ما يبدو، "لنفجر لنفجر".
المقال يعبر عن رأي كاتبه