بقلم/ أكرم عطا الله
للعام العاشر على التوالي، تعيش غزة حصارًا غير مسبوق وربما هو الأقسى على الإطلاق. كثير من الدول والمناطق تمت محاصرتها ولكن بالشكل الذي تعيشه غزة وبهذا الزمن لم يمر! تلك السنوات كانت كفيلة بالإطاحة بشعب كان يومًا ما شعلة النشاط والثورة، تحول بمجموعه إلى كتلة بشرية لم تتوقف عن الأنين بانتظار موت خافت لهذه المنطقة التي كانت معمل تجارب لخبراء السياسة وهواتها أيضًا.
في رمضان تتجلى الأزمة لدى شعب جعل منه المتصارعون على السلطة مجموعات من المتسولين المهدورة كرامتهم والباحثين عما يغطي فريضتهم في هذا الشهر، عائلات بأكملها لا تجد ما تأكله تعد أيام الشهر التي بدت طويلة لأن التزاماتها مختلفة، أطفال يشتكون أمهاتهم؛ لأنهم كرهوا البطاطا المقلية التي تتكرر يومياً يتيمة ووحيدة على مائدة الإفطار، والشكوى إلى الله هي سلوتهم الوحيدة ودعاء الحزانى الغاضب على كل من أودى بهم إلى هذه التهلكة يسمع حتى في الشوارع.
الأسواق بدت خالية من الناس، البائعون يشتكون قلة الرواد، ونساء وأطفال يمدون أيديهم ليظفروا من المتسوقين بشواكل قليلة علها تمكنهم من العودة لعائلاتهم بشيء يمرر إفطار يوم، وأمام هذا المشهد يبدو الحديث عن العزة والكرامة وكل الكلام الكبير شيء بعيد تماما عن واقع نزع الكرامة عن كل أب وكل أم ألقى بهم الفقر إلى الشوارع.
في رمضان، من الطبيعي أن يطرق باب منزلك عشرات المحتاجين لأن الحياة انغلقت في وجوههم ولأن لديهم عائلات تريد أن تأكل أي شيء، ومن الطبيعي أن يقول رب أسرة: إن أبناءه يتناولون على السحور الخبز والشاي فقط ومن الطبيعي أن تستقبل عشرات المكالمات من أناس يشكون همهم وذلهم، وأن تسمع بكاءهم بين الكلمات فتقف عاجزاً وتتساءل هل يعرف المسؤولون والذين انتهوا بغزة إلى هذه النهاية كل هذا؟ هل يعرفون أنهم يحكمون حطام شعب انتزعت إنسانيته ولم يعد همه سوى وجبة طعام؟
هذا ليس الشعب الذي نعرفه والذي ملأ الدنيا شموخا وكبرياء تحول إلى سيل من اليتامى على موائد اللئام، أي سعادة يعيشها مسؤول تسبب بكل هذه الآلام للناس وأي راحة يشعر بها وهو يعرف أن هذا الشعب البائس لا يتوقف عن الدعاء عليه؟ وأي مستوى من المسؤولية هذه الذي لم تستطع أن تتفق على إنقاذ هؤلاء البسطاء من هذا الواقع الذي يستمر في الغرق أكثر؟ فمن أحدث كل هذا الثقب في مركبنا وكسر أشرعتنا ينبغي محاسبته فالكرامة الوطنية هي كرامة أبناء الوطن وأفراده فردا فردا ومن يكسر كل هذه الأنوف ويستمر فهو فاقد لأي إحساس وطني وهنا تساؤل عن جدارة الأمانة وجدارة المسؤولية.
في رمضان، توقفت زيارات الرحم، فلا مال حتى للمواصلات فالأزمة أكبر من وصفها لأن الإحساس والألم والعواطف لا يمكن ترجمتها على ورقة صماء، والأسوأ أن الناس باتت تعرف أن الفشل الذريع في توافق العجزة بات الحقيقة الوحيدة المؤكدة في غزة ولا أمل في الخلاص؛ في ظل قيادات أصبحت الناس تجهر بأنها تبحث عن مصالحها ومواقعها دون أي اعتبار لشيء آخر، فالانتخابات أصبحت جزءاً من الماضي الذي لن يعود فالوضع مثالي للحاكمين هنا وهناك، فلماذا التفكير في التغيير الذي يهدد عروش من تسببوا بكل هذه الكوارث؟
علينا أن نكون أكثر صراحة مع أنفسنا دون التلاعب بالكلمات والشعارات لإخفاء الحقائق كما اعتدنا دوما للتهرب من المسؤوليات فقد أصبحنا محترفين في التبرير والادعاء إلى درجة باتت لا تطاق لشدة انكشافها، الحقيقة التي أمامنا أن هذا الحصار بدا فعليا بعد الرابع عشر من حزيران قبل عشر سنوات، أي بعد صراع الإخوة الألداء وسيطرة حركة "حماس"، حتى لا نظل كثيرًا نلقي المسؤولية على إسرائيل التي تحاصرنا وكأننا بريئون من دم شعبنا هذا لا يجوز، إن طرد السلطة من غزة جعل إسرائيل تبرر كل ما ترتكبه ضد غزة وهنا يجب أن نتوقف أمام انفسنا ليس فقط لنقول من المسؤول عما حدث بل لنمسك بطرف حبل النجاة.
إن استمرار الوضع في غزة يعني تفاقم الكارثة، هنا منطقة جغرافية صغيرة يتكدس بها مليونان من البشر وتفتقر للموارد ويتزايد الناس بشكل كبير في نفس المساحة ويتصارعون على نفس الموارد القليلة، وهذا معناه أن الزمن في غير صالح غزة، فما كان يكفي من كهرباء لعشر ساعات يوميا من الطبيعي أن يتقلص أكثر ومع استمرار الحصار تنعدم فرص العمل أكثر، ومن الطبيعي جداً أن ينهار المجتمع ونجد هذا العدد من المتسولين الذين يملؤون الشوارع.
بلا تجميل، وبلا تخويف من أن هناك من يظهرون غزة بمظهر لا يليق بها، هذا هو الواقع لمن يريد أن يراه ولم تعد الحلول الترقيعية تجدي أمام ما اهترأ مع الزمن، فالثقوب أصبحت أكبر من رتقها وانكسار النفس أكبر من ترميمها والخوف يزداد كلما استمر عناد الإخوة الألداء .. أحدهم يشعر بأن الوضع في غزة نموذجي ويدعو لرفع الحصار دون أن يقرأ تعقيدات اللحظة السياسية، والآخر يخصم رواتب الموظفين باعتبارها لحظة "أخميدسية" حين صرخ "وجدتها" في رواتب الموظفين كأنها الحل السحري لقصة غزة وبتأخير عشر سنوات وبين هذا وذاك يعلق شعب وسط معركة جميعنا يدرك أنها معركة على السلطة وامتيازاتها وإن قالوا غير ذلك.
لم يعد ينفعنا ما يقوله كل المشتغلين في تبرير السياسات وتبرير الفقر والإفقار وصناعة الأزمات والكوارث، ومشكلة حقيقية إذا اعتقدوا أننا مقتنعون بكل ما يقال، فقد كشفت السنوات العشر الماضية من صراعات عن أنه لا أحد يحتمل آخر ولا أحد يريد شريك آخر ولا أحد يفكر في قضايا الناس .. كل الكلام عن الشراكة والانتخابات والتوافق ونصائح ألف باء السياسة يبدو أنه ليس لها علاقة بصراعات القبائل، وإلى حين أن نكف عن العبث ستبقى غزة ترفع أيديها للسماء.. تنتظر فرجاً من الله علّه يستجيب في رمضان لهؤلاء البؤساء والمساكين الذين يصومون ويفطرون على بصلة هذا المستوى من السياسيين.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه