بقلم الكاتب/ د. مصطفى يوسف اللداوي
يترقب سكان قطاع غزة بفارغ الصبر وبكثيرٍ من الأمل، نتائج الحوارات التي جرت في القاهرة بين يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة، وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني القيادي محمد دحلان، المتصدر للتيار الإصلاحي في حركة فتح، والمتطلع إلى أدوارٍ وطنيةٍ جديدةٍ انطلاقاً من قطاع غزة، وقد انشغلت مختلف الأوساط الفلسطينية الشعبية والرسمية بهذه الحوارات، وشعرت بجديتها وأهميتها، في الوقت الذي شكك فيها البعض وأبدى مخاوفه منها، وقلل من أهميتها وإيجابية نتائجها، ورأى فيها تناقضاً وعدم انسجامٍ، واجتماعاً بين المتناقضين ووحدة بين المتعاكسين، ولقاءً هشاً بين أعداء الأمس وخصوم الماضي، الذين صنعت بينهم الأيام في سنواتها الماضية جسوراً من الحقد والكراهية، وأنهاراً من الدماء والضحايا، وثاراتٍ لا تنسى وانتقاماتٍ لا تموت، إذ لا تزال آثارها باقية وتداعياتها المؤلمة حاضرة.
لكن سكان قطاع غزة الذين يتطلعون بأمل إلى هذه الحوارات، لا يقفون عند أوهام الماضي وتراكمات السنين التي خلت، ولا يريدون أن يعيشوا أبد الدهر أسرى الأخطاء وعبيد الأحقاد، ولا يريدون الاستمرار في دفع فاتورة الاختلاف وضريبة الانقسام، لهذا فإنهم يعولون كثيراً على هذه التفاهمات ويستبشرون بها خيراً، ويتوقعون منها أن تسفر عن خطواتٍ عمليةٍ وانفراجاتٍ ملموسةٍ، وإجراءاتٍ على الأرض حقيقية تنعكس إيجاباً على سكان القطاع، ويشعر بها المواطنون ويلمسها السكان، تخفف من معاناتهم، وترفع الحصار المفروض عليهم، وترمم جراحهم وتبلسمها، وتجمع شعثهم وتوحد صفهم.
ويسكنهم الأمل أن تفتح التفاهمات الجريئة معبر رفح الموصد الأبواب دونهم، وتنظم حركة المسافرين والعابرين فيه بالاتجاهين، وتنهي أزمة قوائم الانتظار ولوائح التنسيق ومعاناة الترحيل، وتنساب بموجبه الحركة التجارية بسهولةٍ، وتصل البضائع المصرية والعربية وغيرها بحريةٍ إلى أسواق قطاع غزة، تنافس المنتجات الإسرائيلية وتطردها من الأسواق، أو تقلل من انتشارها وتحد من رواجها، وتحرك عجلة الاقتصاد الجامدة، وتزيد من فرص العمل، وتحارب البطالة المميتة، وتخلق فرصاً حقيقية ووظائف جديدة، تشغل المواطنين، وتبعث فيهم الأمل من جديد، بعد أن كاد يقتله الحصار، ويقضي عليه اليأس صراع الأخوة واحتراب الرفاق.
ويحذوهم الأمل إلى غير ذلك مما يقوى المتحاورون على صنعه، والرعاة على توفيره، والممولون على تشغيله، سواء كان توليداً للكهرباء، أو تحليةً للمياه، أو شقاً للطرق وتسريعاً لعملية إعادة الإعمار، أو تعويضاً للسكان عما أصابهم وحل بهم بسبب الحروب الإسرائيلية الثلاثة، فضلاً عن المباشرة في إجراءات المصالحة الاجتماعية، وأداء الذمم المالية، ودفع الديات المتوجبة، التي من شأنها أن تضمد الجراح وتهدئ النفوس، وتلطف القلوب، وتطفئ جمرة الانتقام المتقدة، وغير ذلك مما يأمل به سكان القطاع ويتطلعون إليه.
ولما كان كلا الرجلين التربين الندين العنيدين القويين من قطاع غزة، وقد سكنا مدينة خانيونس وأقاما في مخيمها، ولعبا في أزقته وركضا في جوانبه، وكان لهما فيه ذكرياتٌ وحكايات، عاشوها فترة الصبا وأيام الدراسة، وخلال سنوات المقاومة ومراحل المواجهة، وما زال أهلوهم فيه يسكنون، ومثل غيرهم فيه يعانون ويقاسون، ويشكون ويتألمون، ويأملون ويتمنون، ويرجون ويحلمون.
لهذا فقد كانت لقاءاتهم جديةً، وحواراتهم بناءةً، واتفاقياتهم صادقة، تدفعهم معاناة أهلهم، وتحركهم آماله، وتحذوهم أمنياته، ويحرضهم على تقديم التنازل لبعضهما ما يلاقي أهلهم من ويلات الحروب ومرارات الاعتداء، والإحساس باليتم وتخلى الأخوة والأشقاء عنهم وعن قضيتهم، وما يشكون منه من ضيق الحصار وقسوة العقاب، ولؤم الشريك وظلم الجار والقريب، وحصار العدو والصديق، وغير ذلك من انسداد الأفق وغياب الأمل وضياع المستقبل، وقد شعرا باجتماعهما معاً بعظم الأمانة التي يحملون، وثقل المسؤولية التي يديرون، وخشيا العجز وخافا من الفشل، فأقدما على الحوار بجرأة، وأبرما الاتفاق بقوة، وباشرا بمباركة مصر الخطوات العملية لتنفيذ بنود ما اتفقا عليه، وبقي الأمل يحذوهما نحو إنجازاتٍ أكبرٍ وآفاقٍ أوسع.
قد يرى البعض في هذا الاتفاق مضيعة للوقت، وخسارة للجهد، وتجربة فاشلة للمجرب، وتسليم القيادة للمجهول، والمغامرة بها بدون ضمانات، وفيه تنازل عن الثوابت، وتخلي عن القيم، وخيانة للدماء وتفريط في حق الشهداء، ومكافأة في غير محلها ولغير أهلها، وغير ذلك مما يمكن ذكره في هذا المقام على قاعدة عدم الثقة، والتاريخ الأسود والماضي الملوث، ووجوب الانتقام وعدم النسيان، وسفاهة العفو والمغفرة، وعبث المصالحة والاتفاق، مما يدفعهم لنقد الاتفاق ورفضه، وعدم القبول به والاطمئنان إليه، وفتح النار عليه بقصد قتله أو وأده، وحرمانه من الفرصة ومنعه من التجربة، ظانين أنهم بهذا يحسنون صنعاً ويسدون نصحاً، ويخدمون برأيهم شعبهم ويساعدون أهلهم.
لكن الحقيقة أنهم بمواقفهم الرافضة يزيدون في معاناة أهلهم، ويعمقون مأساتهم وينكأون جروحهم، ويجبرونهم على العيش في غيتو الجوع والفقر والمرض والحصار والحرمان، ولا يقدمون لهم البديل الشافي ولا الحل الذي يغني، لذا فإن على المعارضين لهذه التفاهمات أن يتوقفوا عن معارضتهم، وأن يكفوا عن انتقاداتهم، وليسعوا إلى تحصين هذه التفاهمات وتوسيعها، وضمان صدقيتها واستمرار العمل بها، ولتكن عيونهم على أهلهم في قطاع غزة، وليشعروا بهم وبمعاناتهم، وليعيشوا آلامهم وأحزانهم، عندها ستتغير لهجتهم وستتبدل نبرتهم، وسيكون خطابهم إن كانوا مخلصين لوطنهم ومحبين لشعبهم مختلفاً، ومنصفاً متزناً، وإلا فإني أراهم يدعون أهلهم للانتحار، ويدفعونهم للانهيار، إذ أن واقع القطاع مزري، وحاجة السكان كبيرة، ومعاناتهم شديدة.
دعونا نرأف بحال أهلنا ونحسن إليهم، ونقف معهم وإلى جانبهم، ونخفف عنهم ونساندهم، وهم الذين وقفوا مع المقاومة وكانوا سبباً في انتصارها، وأساساً في ثباتها، وقد قدموا الكثير من أجلها، وضحوا بأعز ما يملكون لتبقى رايتها مرفوعة وكرامتها موفورة، وإن كان للمتحاورين أهدافٌ أخرى وغاياتٌ خاصة، فإن هذا التفاهم يخدم أهلنا ويأخذ بأيديهم، ويساعدهم ويمد يد العون إليهم، فلنؤيده لأنه حاجة للشعب، ولنباركه لأنه في هذه المرحلة ضرورة للأهل.
المقال يعبر عن رأي كاتبه