قائمة الموقع

خبر لماذا تنهار التحالفات العربية؟

2017-08-12T07:18:52+03:00

بقلم: محمد الجوادي

أتيحت لأجيالنا الراهنة أن تشهد مرة بعد أخرى تصدعات شديدة وانهيارات متتابعة في التحالفات العربية، سواء في ذلك التجارب الوحدوية (المتحمسة أو الاضطرارية) والمجالس الإقليمية والتحالفات السياسية أو العسكرية.

وربما يدفعنا الإنصاف لمستقبل أمتنا أن ننصرف -في هذا المقال- تمامًا وكلية عن فكرة المؤامرة بكل تفريعاتها وتجلياتها، لنبذل عناية جادة في تقصي بعض العيوب البارزة في تحالفات العرب الفاشلة، على أن نفعل هذا من دون جلد للذات ومن دون نرجسية ونرجسية نقيضة.

أول هذه العيوب هو التوريط والتورط، بل وحب التوريط والانتشاء بالتورط، وأبرز واقعة تحت هذا العنوان هي توريط القيادة السورية لمصر في شن حرب ١٩٦٧، وهو توريط سابق على التوريط الأكثر كارثية والذي هو توريط عبد الناصر للقوات المسلحة المصرية في هزيمة ٥ يونيو/حزيران ١٩٦٧.

وكما نعلم من وقائع التاريخ؛ فقد بدأت نُذُر الحرب بشكاوى مدوّية استجارت فيها القيادة السورية من الحشود الإسرائيلية المتأهبة للهجوم على الجبهة السورية، واستغاثت هذه القيادة بالزعامة المصرية والقوات المسلحة المصرية لإنقاذها من هجوم وشيك أصبح مؤكدًا.

ومع أن العلاقات بين النظامين المصري (الناصري) والسوري (البعثي) في ذلك الوقت كانت متوترة بل حادة التوتر؛ فإن عبد الناصر وجد في هذه الاستغاثة السورية فرصة مواتية لاستعادة ألق الزعامة وإظهار الشهامة والنخوة، رغم أن الاستطلاعات الحربية المصرية أكدت عدم وجود أية حشود.

وكان من هذه الاستطلاعات ما قام به رئيس الأركان المصري الشهير الفريق أول محمد فوزي (القائد العام ووزير الحربية فيما بعد الهزيمة)، وليس سرًا أن كثيرًا من تقارير المراقبة الدولية (عسكريًا وصحفيًا) نفت تماما وجود الحشود العسكرية الإسرائيلية، لكن توريط القيادة السورية لعبد الناصر نجح بسهولة بسبب عاملين مهمين:

- أولهما أن عبد الناصر نفسه كان مرحبًا جدًا -في عقله الباطن- بمثل هذا التوريط، وإن تظاهر بقدرته المحسوبة على رفض التورط والنجاة منه وتحديد توقيته.

- وثانيهما أنه كان متورطًا بالفعل في حرب اليمن، كما كان خارجا من توريطات سريعة غير مشهورة في الكونغو وتنزانيا والجزائر.

العيب الثاني هو إيثار تعويم القيادة، أو بتعبير أكثر توضيحًا: تجنب الأخذ بفكرة القيادة المسؤولة، ونحن نعرف أن هذا الغموض يمثل خميرة مؤكدة للفشل الذي ينتظر أي تحالف مصاب بالغموض في تحديد قائده؛ لكنه يمثل في الوقت ذاته عنصرًا احتياطيا مهما يلجأ إليه الساسة، إذ يهيئ لهم تحقيق الرغبة في تفادي الخسران ويمكّنهم من إلقاء المسؤولية على عاتق الحلفاء والشركاء.

ومع أن التجارب المتكررة أبانت مدى فداحة الخسائر المترتبة على هذا العيب؛ فإن التحالفات العربية لا تزال ترحب به جزئيًا وكليًا على حد سواء؛ وعلى سبيل المثال، فإن التحالف الذي أعلنته السعودية من طرف واحد لخوض معركة عاصفة الحزم لم يقطع بقيادتها لهذا التحالف على مستوى القيادة السياسية، مع أن هذه القيادة بدت مفهومة الطابع ومتسقة من حيث اللياقة السياسية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تم الإعلان عن اشتراكها في التحالف.

بيد أن الأمر لم يقف عند القيادة الأعلى ولا عند القيادة العامة التي كان من الممكن أن تكون حكرا على وزير الدفاع السعودي أو من يوازيه؛ وهكذا فإنه بمرور الوقت تمثلت -أو انحصرت- أهم العوامل أو المظاهر الدالة على القيادة السعودية للتحالف في أن المتحدث باسم العمليات الحربية وتطورها على أرض المعارك كان هو المتحدث العسكري السعودي.

وكان هذا التمثل شبيهًا جزئيًا وليس كليًا بما تبقّى في تلافيف الذاكرة العربية من صورة أو صدى عمليات الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية منذ ربع قرن، وهو ما سمي بحرب تحرير الكويت أو عاصفة الصحراء، مع الفوارق المتعددة، ولا نقول مع الفارق.

 

العيب الثالث هو الهروب من التحديد المكتوب للأهداف والخطوط العامة لآلية العمل؛ وغالبا ما يتم القبول بهذا الهروب التلقائي تحت دعوى الحفاظ على السرية والانتفاع بمناخها في حماية الخطوات العملية من الانكشاف أمام الأعداء.

بل لقد علمنا التاريخ أنه كثيرًا ما يتم الترحيب بهذا النهج والقبول المحبب به من القيادات السياسية، باعتباره ضمانا للخلاص من المحاسبة التاريخية والسياسية عن طريق اللجوء إلى الروايات اللاحقة أو البعدية، لتبرير أي فشل متوقع بأقوال معهودة من قبيل القول بأن الخطوة كانت خداعية، وأن التكتيكات كانت مناورة، وأن خطوات العدو كانت مراوغة، وأن ظروف المناخ تغيرت بصورة مفاجئة...

وتمثل كل هذه الصياغات حلولًا بديعة لإزاحة الخطأ من على أكتاف القيادات المسؤولة بسهولة ويسر، قد لا يتوافران في حالة الخطط المكتوبة والتوجيهات الاستراتيجية المحددة.. إلخ، بيد أن كل هذه المزايا تتبدد أمام عيوب ضخمة من قبيل إشاعة روح اللامسؤولية عند القيادات المتوسطة والصغرى.

وكذلك من قبيل فقدان التوجه العام للجنود (في التنمية والحرب على حد سواء)، ومن قبيل التضحية بأبرز العوامل المعنوية وهو الشعور الداخلي بالانتصارات في خطواتها المتتالية أو في جزيئاتها المتكاملة، وهو شعور فائق الإيجابية والتأثير ومستأهل للتضحية من أجله بكل سحر خفي تمثله روح العمل المستور مهما كان مكثفا وجادًّا.

العيب الرابع من عيوب التحالفات العربية هو تعجل الفوز، وكأن العرب يربطون دوما بين التحالف والفوز، مع أن طبيعة التحالف تتطلب أو ترتبط بالتأني القادر على تحقيق نصر مضمون المقدمات، إذ إن الهزيمة لا تليق بالتحالف إن جاز أن تكون من حظ مَنْ يدخل المعركة بصورة فردية.

ويتجلى نفوذ هذا العيب بصورة مزعجة في البحث عما يسعد الجماهير المتطلعة إلى الإبهار في النتائج المترتبة على اجتماع القوى وتضافرها، وذلك من حيث تظن هذه الجماهير أن النتائج لا بد من أن تتوازى مع ما قُدّم لها من تصوير إعلامي لقوة التحالف وقدراته وحجم موارده.

ومن الطبيعي أن هذه السمة -التي ربما نتجاوز حين نعدها عيبا- تمثل نوعًا من أنواع الضغط المُلحّ على القرارات والتوجهات؛ وقد تصل درجة هذا الضغط إلى حدٍّ يقود إلى استجلاب الأخطاء بدلا من أن يتوقف عند عدم الانتباه إليها فحسب.

ومع أن الانتباه إلى الخطورة الكائنة في مثل هذا العيب لا يخرج عن كونه أمرًا سهلًا ومتوقعًا؛ فإنه كثيرًا ما يغيب أو يتلاشى بسبب ما اشتهر عن العرب من شغفهم العميق ببعض مفاخر الطبيعة البشرية في الزهو بالأحلاف، والأمل في النصر، والتطلع إلى المكاسب، وهي سجايا حميدة إذا ما تعلق الأمر بالحماسة "الشعرية" لكنها كفيلة بنتائج كارثية في بعض الأحيان.

العيب الخامس من عيوب التحالفات العربية هو الميل الغريزي أو الجيني (الوراثي) للقبول بالاضطلاع بقدر ما من الخيانات المحسوبة؛ وربما يمثل هذا العامل أسوأ العوامل، وذلك راجع إلى كونه لا يُكتشف في وقته، كما أنه لا يخصم من قوة التحالف وقدرته فحسب بل يضيف -في الوقت ذاته- إلى قوة العدو، بما أن خصمه في هدوء مستغلا أرصدة حلفائه الذين وضعوا ثقتهم فيه.

    ونحن نعرف أن مجال الخيانة الاستراتيجية في التحالفات العربية واسع بسعة الأرض المحيطة بالمعركة، فضلًا عن تضاريس أرض المعركة، لكننا ربما لا نعرف أن الخيانة هي أقوى العوامل التي تحيل التحالف من مصدر للقوة إلى مصدر للانتحار، وتجعل من نجاحه رابع المستحيلات.

العيب السادس هو ضجيج الخطاب الإعلامي، وهو ضجيج غير مدروس فضلًا عن أنه غير مطلوب في غالب جزيئاته؛ ومن المؤسف مثلا أنه في أحدث التحالفات العربية تحول هذا الضجيج إلى حرب فاقت في سُمّيتها وعداوتها ما يمكن لأي حرب إنسانية أن تصل إليه.

وقد حدث هذا بسبب مزايدات مبالغ فيها صدرت عن رؤى مفتقرة إلى المهنية، وموغلة في المراهقة، وحريصة على التعبير عن وجودها بأسوأ صورة محتملة، متناسية كل ما يمكن أن يوصف به التحالف -حتى ولو من باب الخداع- من روح دفاعية أو اتقائية للآثار غير المرغوبة أو غير المحتملة.

وقد نجح هذا الضجيج الإعلامي -من حيث لا تحتمل الساسة- في تصوير التحالف على أنه هجوم ضارٌّ وضارٍ بطريقة حريصة على المبالغة في استعراض القوة، وكأنها في أرض السيرك لا في أرض العلاقات الدولية، كما عبّر هذا الضجيج الإعلامي -من دون أية دواع موضوعية- عن مشاعر لا ترحب عادة الإنسانية المتعقلة بإعلانها وتفضل أن يُدارى عنها، من قبيل الحسد الظاهر واستكثار النعمة على من يُعتقد أنه ليس جديرا بها.

وفضلًا عن هذا؛ فإنه فيما يخص بنية التحالف -من حيث هو تحالف- كان هذا الضجيج نفسه معبرًا عن الرغبة الدفينة في فصم التحالف، من حيث عجزه عن التمييز بين ما قد يجوز له انتقاده ومحاربته وما لا يجوز.

وهو ما أضاف عبئًا جديدًا من الفشل الذي فرض نفسه بدون مبرر على تحالف تصور نفسه قادرًا على المفاجأة الكاسحة، فإذا هو أسير لمفاجأة الفشل؛ وتصور ثانيًا أن آلياته قادرة على تحقيق الحسم، فإذا هي لا تنجز إلا الخصم السريع والمتوالي من رصيد الدول المتحالفة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

اخبار ذات صلة