بقلم: أكرم عطا الله
قبل العام ونصف العام من الآن، جاء السيد محمد المدني، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" إلى قطاع غزة؛ لحضور تأبين أمين سر المجلس الثوري السابق لحركة "فتح"، حمدان عاشور، الذي توفي في القاهرة. التقينا في خيمة العزاء وطلب الرجل أن نلتقي هو والدكتور إبراهيم أبراش وأنا؛ ليستمع حول مسار المشروع الوطني والسياسة الإسرائيلية.
التقينا مساء اليوم الثاني في غرفته بالفندق ولمدة أربع ساعات. جلسنا ثلاثتنا نستعرض السياسات الإسرائيلية ورؤية مراكز الدراسات فيها للصراع وللحل وأساتذة الجامعات الإسرائيلية هناك والأحزاب القائمة والإجماع الذي يتحقق منذ عقود وأين يريد أن يذهب بنا.
أذكر أنني قلت له بعد العرض: إنني لا أرى في السياسة الإسرائيلية أبعد من دولة غزة، فالسياسة هناك انتقلت من الجنرالات للحاخامات بعد الانزياح الحاصل في الشارع الإسرائيلي نحو اليمين وانعكاساته على القرار السياسي، وارتباطًا بذلك فإن الضفة الغربية هي "أرض التوراة"؛ لأن أحداثها تمت هناك، وبالتالي فإن حل الدولتين انتهى تمامًا وأمامنا الفعل اليومي الاستيطاني الإسرائيلي لإنهائه والسيطرة عليها جغرافياً وديموغرافيًا.
لكن إسرائيل لا تستطيع في نهاية الأمر إلا إقامة كيان فلسطيني أمام العالم؛ لأنها لا تستطيع للأبد أن تكون دولة احتلال ولا مكان سوى غزة، استعرضنا يومها السياسة بدءًا من الكتيب الشهير "دولة غزة" والذي صدر في ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً لأوسلو الذي كان تحت عنوان غزة، مرورًا بالانقسام الذي وضع حجر الأساس لهذا المشروع.
الكتاب الذي نشره أبراش كان يعزز في نقاشه لتلك النظرية، وهو أحد المفكرين الفلسطينيين القلائل الذين كتبوا في هذا الأمر، وقدم رؤيته متكاملة خلال السنوات الماضية، وفي نقاش ذلك المساء باستفاضة وبذكاء.
اتفقنا على أن غزة هي العنوان بالنسبة لإسرائيل للحل مع الفلسطينيين، ولكن هل تقام تحت حكم حركة "حماس"؟ بالقطع لا، لأن منظمة التحرير عنوان الفلسطينيين ستظل تطالب بدولة فلسطينية وبالتالي يتطلب ذلك نقل قيادة المنظمة والسلطة إلى غزة يوماً ما لتكون على رأس المشروع وسيأتي ذلك اليوم إذا لم ننتبه وإذا استمر هذا الخلاف ونرى أنفسنا مستدرجين بهذه الطريق.
لماذا العودة لهذا الحديث الآن؟ هناك أجواء سياسية صاخبة وحركة كبيرة والحديث عن صفقة القرن وحديث متسارع عن مصالحة فلسطينية واستلام السلطة الوطنية لغزة وحالة إضعاف لحركة "حماس" بدأت منذ سنوات وتكثفت في الأشهر الأخيرة، ووسط كل هذا لم يصدر عن أي مسؤول أميركي تلميح أو تصريح يشي بحل الدولتين فما الذي يجري إذن؟
الموافقة الأميركية المفاجئة على المصالحة والصمت الإسرائيلي يثيران الريبة، فإسرائيل التي كانت تعتبر أن المصالحة "إضرار كبير بالأمن القومي الإسرائيلي" و"يجب الوقوف بحزم أمامها والعمل على إفشالها بكل الوسائل "تحتفظ بالصمت تجاه ما يجري، فهل غيرت موقفها بإعادة ربط قطاع غزة بالضفة الغربية وإنهاء مشروع فصل غزة الذي عملت عليه بكل إمكانياتها البحثية والعسكرية والمالية أم أن ما جرى خلال السنوات الماضية منذ الانسحاب أنضج مخططها؟
ليس هناك مصادفات سياسية، خصوصًا لدى إسرائيل، عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين لأن ما يجري حاليًا يتكشف أن مراكز الفكر وضعته منذ عقود. ومع التطورات الحاصلة والتآكل الشديد الذي حدث للمشروع الوطني الذي أصبح هشًا إلى درجة كبيرة يمكن أن يحدث هذا التحول في الموقف الإسرائيلي ولنذهب إلى سيناريو افتراضي وقد لا يكون خياليًا ولكن ينبغي استعراضه.
إن تمت المصالحة التي يجري الحديث عنها وسط حالة الضعف الشديد والتربص الأشد والاستهداف الذي لا يتوقف فهذا يتطلب عودة السلطة إلى غزة، وهنا ستبدأ ورشة إعمار هائلة تتطلب تواجد الحكومة الشرعية ودون أن ندري يجري نقل أو عودة سفارات الدول إلى غزة بحجة وجودها كدول مانحة إلى جانب الفلسطينيين في منطقة العمل التي يجري فيها إنشاء ميناء ومطار تعمل عليه شركات ودول كبرى وهنا يتطلب وجود الرئاسة أيضًا.
وعلى الجانب الآخر، يجري إكمال إضعاف السلطة في الضفة الغربية إلى حد التلاشي. ومن يراقب السلوك الإسرائيلي هناك يمكن أن يلمس ذلك بدرجة كبيرة سواء كجهة السيطرة على الأرض أو الاستيلاء على صلاحيات السلطة وتعزيز مكانة الإدارة المدنية كبديل عنها، وهذا لم يعد سراً إذ اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الأسبوع الماضي، أن جيشه يعد خطة لتوسيع طواقم الإدارة المدنية في الضفة، قائلاً: "لا يوجد لدينا سوى 307 موظفين لذا أنا سأقوي الإدارة المدنية وأوسعها".
وفي تصريحات ليبرمان كما نقلتها القناة السابعة قال: "إن الاستيطان يشهد طفرة غير مسبوقة منذ العام 2000"، ناهيك عن إعطاء المستوطنات صفة مجلس بلدي، بالإضافة لاتصال الإدارة المدنية المباشر بالمؤسسات وإعطاء لتصاريح وبالمواطنين، إذ أعلنت الإدارة المدنية التي كان يجب أن تنتهي عند توقيع اتفاق أوسلو فتحت قبل أشهر صفحة إلكترونية للتعامل المباشر مع المواطنين، في خطوة اعتبرها المراقبون سحبًا لصلاحيات السلطة، بالإضافة لإعلان فرع طولكرم قبل ثلاثة أيام الطلب من المواطنين الممنوعين مراجعة فرع الإدارة هناك لحل مشاكلهم.
إن تمت المصالحة في هذا الوضع فهو يعني إزاحة "حماس" عن السلطة وتعزيز غزة ونقل الإمكانيات الفلسطينية إلى غزة، وأهمها الإمكانيات السياسية والقيادة الشرعية، وهكذا نجد أنفسنا وبرغبتنا الوطنية الصادقة نسير باتجاه خاطئ. هل هذا يعني أن نتوقف عن المصالحة؟
المصالحة تعتريها عقبات كبيرة وألغام هائلة ستنفجر تباعاً إذا لم يجر التعامل معها بهدوء، لكن ينبغي التحذير من إسرائيل التي تفكر بدهاء مستغلة اقترابنا من الانهيار وتحويل مشروعها إلى مشروع خلاص إنساني بالنسبة لنا، لذا يجب الذهاب باتجاه مصالحة جدية تجعل غزة تابعة للسلطة وليست حاضنة السلطة، فرعاً وليست مركزاً، دون نقل القيادة أو الحكومة إليها لأن الصراع الحقيقي في الضفة وعليها والكفاح ضده الاحتلال والاستيطان والإدارة المدنية وانتزاع الصلاحيات وعدم التفريط بأي شيء وحذار أن نجد أنفسنا كلنا في غزة حتى لو انتقلت كل السفارات وأن يبقى مكتب الرئيس هناك كما فعل الشهيد ياسر عرفات الذي كان يعرف ماذا تخطط إسرائيل ..!
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"