قائمة الموقع

خبر «قيامة أرطغرل» والتهاوي العربي..

2017-10-21T06:54:57+03:00

بقلم: رياض سيف

لم أكن يومًا من مشاهدي المسلسلات التركية على الإطلاق، بل كنت أحد الذين يلومون المحطات العربية على عرضها المسلسل التركي؛ كون هذا الفعل يأتي على حساب عرض المسلسل العربي، ما يؤثر سلبًا على صناعة الدراما العربية، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المسلسل التركي يمتد إلى مئة حلقة وما فوق، ندرك كم هي الحصة الكبيرة التي يستهلكها المسلسل التركي على حساب المسلسل العربي، ناهيك عن مبررات أخرى في عدم توافق الطرح التركي مع التقاليد العربية المسموح بها أخلاقيًا وتربويًا إلى ما هناك من أسباب فنية في التطويل في المشاهد والتكرار في المعلومة، الذي يعتبر مملًا في عرف الدراما العربية. مع الاعتراف بحرفية التقنيات الفنية والتكوينات وجمال الصورة التي تتفوق فيها على الأعمال العربية.

لكن (وهي كلمة مشتركة بين العربية والتركية) تغيرت الصورة تمامًا لدي، حين شاءت الصدف أن أتابع حلقة من مسلسل «قيامة أرطغرل» على إحدى القنوات العربية، وكانت كفيلة بشد انتباهي إلى هذا العمل الكبير، بل ودعاني شغفي إلى أن أحرك مؤشر البحث عن بداية حلقاته عبر «اليوتيوب» لأشاهد أجزاءه الثلاثة والتي تقدر بثلاثمائة حلقة تلفزيونية جمعت بين التاريخ والحكاية عبر أحداث درامية تحمل الكثير من المعاني والرسائل والأصالة التي يعتز بها كل تركي ومسلم؛ كونها تحكي قصة قبائل الأوغوز والأتراك التي كانت مجرد قبائل رعوية تواجه الصراع فيما بينها، كما تواجه عدوان التتار والصليبيين، ليظهر من بين قبيلة الكاي أرطغرل بن سليمان شاه ليقف في وجه الخيانة الداخلية ويصد عدوان الأعداء وفي ذهنه بناء الدولة التي تمجد اسمه لآلاف السنين، وكان له ذلك في ابنه عثمان مؤسس الدولة العثمانية من بعده.

وكان لانتقاء المخرج لشخوصه أثر في نجاح عمله، فأنت أمام شخوص من الماضي مرسومة بشكل لا يدع مجال للشك لدى المشاهد في أنه يشاهد ذات الشخوص نفسها في زمنها. فكل شخصية بشكلها وأدائها وهيئتها وضعت في المكان الصحيح. وكان الجميع أبطالًا متميزين في مواضعهم.

ورغم التطويل في الحوار والتكرار في المعلومة، وأحيانًا رغم الحوارات التي هي أقرب إلى الخطابة التقريرية منها إلى الحوار الدرامي والتي من شأنها أن تشعر المشاهد بالملل والتي لو أن كاتبًا عربيًا كتبها لاعتبرت سقطة قاتلة بحقه، إلا أنني ولأول مرة أجد أن كل هذا التطويل والتكرار في نقل المعلومة لا يقلل من شأن المسلسل بل يزيده نكهة خاصة لا تقل نكهة عن حكايات ما قبل النوم التي كنا نسمعها صغارًا من جداتنا وأمهاتنا بكل شغف وانتباه وهنا تكمن البراعة والحنكة في قلب مفاهيمنا عن الدراما التي عرفناها.

وأهم ما في هذا العمل المتميز أنه يعيد قراءة التاريخ برؤيا درامية مشوقه تُنمي روح الكبرياء لدى الأجيال وتزرع قيمًا عظيمة في الانتماء والتربية الإسلامية السامية في نفوس الصغار قبل الكبار. بل وتمنحهم جرعة حب الفداء والتضحية من أجل أوطانهم ومعتقداتهم النبيلة. هي مدرسة متكاملة انعدمت في مناهجنا التعليمية وجاء هذا العمل لسد نقص كبير وخطير في نشأة إنساننا الذي بات يتخبط من هول ما يجري حوله من تزوير وانسياق خلف إعلام مغرض ومدروس من قبل بعض محطاتنا العربية التي تمسك بعصب الإعلام وتوجهه حسب ما هو مخطط لها في إفراغ العربي من قيمه وأخلاقه وانتمائه نحو وطنه وأمته.

وهذا ليس العمل التاريخي الوحيد الذي تقدمه الشاشة التركية لتعزيز انتماء أبنائها لوطنهم بل هناك أعمال كثيرة وكبيرة ويبقى أرطغرل هو الجذر الذي تستقي منه الأعمال الأخرى عظمتها وقوتها.. ومنها ما يعرض مؤخرًا بعنوان (السلطان عبد الحميد) وغيره من الأعمال التي تستحق المتابعة..

أما وقد انحدرت الدراما العربية عن تقاليدها واستبدلت ثيابها بأعمال العنف والقتل وقطع الرقاب، ما يرتقي بها إلى فكر «داعش» وما تمثله من خطر على اعتياد المشاهد وتقليده لتلك التصرفات البغيضة إضافة إلى نقل صورة العشوائيات بصورها السيئة واستثارة الغرائز والتسابق على كسر المحرمات في إطار ممجوج، الغرض منه ليس معالجة ما هو معوج بل اعوجاج ما هو غير معوج بحيث فاقت بجرأتها الأعمال التركية الحديثة والتي نأخذ عليها المأخذ الكثيرة، بل وعممت الظاهرة لتطال معظم الأعمال العربية إن لم تكن كلها، دون أن تكسر هذا النهج بأعمال تخفف من وطأة هذا الهجوم اللاأخلاقي بعمل تاريخي نفخر به أو بقضية إنسانية ووطنيه نعيشها في زمن يموت ويشرد وتنتهك فيه أعراض الإنسان العربي، وتحتل أراضيه من قبل الفرس والروم والعجم والبجم.. حيث تغير في هذا الزمن العربي ثالوث الممنوعات الرقابية (الدين والجنس والنظام) ليحل محلها (التاريخ العربي، وقضايا الأمة، وكل ما يمت لفلسطين بصلة).

وحتى إذا ما صادفنا وشاهدنا عملًا عربيًا تاريخيًا أو معالجة درامية لعمل من التراث العربي وجدنا أن هذا العمل يُحرف لمصلحة وجهة نظر مشوهة، القصد منها النيل من نهج ما لا يتفق مع نهج الحقيقة التاريخية وإن اتفق في بعض المواقف إلا أن هذه المواقف تجير لمصلحة مغرضة بحق تاريخنا وينحرف بأفكار الجيل إلى التشويه والتعميه .

قيامة أرطغرل وغيرها من الأعمال المشابهة بكل معانيها ومراميها شاهدة على فشل القوى الناعمة العربية، بل يجعل منها متهمة بالتواطؤ سواء في الفعل الدرامي أو البرامج التلفزيونية التي أجمعت على إعلاء السلطان على الوطن، وتبديل ما هو سامٍ بما هو رخيص، ولمجرد متابعة بسيطة لما يجري على الشاشات العربية من ردح وذم ودعوات الفرقة، بل إلى استعداء العدو على الأخ العربي، نجد أي انهيار وصلنا إليه وأي هاوية تجاوزنا قعرها.

والسؤال هنا على لسان عنترة العبسي: هل غادر الشعراء من متردم، وبالمعنى الحديث للجملة هل فقد الكتاب أدواتهم ليصنعوا لنا ملاحم مجيدة تعيد للإنسان العربي هيبته وتنمي في الأجيال القادمة تربيتها الوطنية وانتماءها. وحب التضحية من أجل قيمها وإنسانيتها، وتحصين الذات العربية مما يخطط لها من مؤامرات تمس كيانها وجذورها ومعتقداتها.

أعتقد أن الكثيرين مثلي يحتفظون في أدراجهم بنصوص بحجم قيامة أرطغرل وهم مدركون تماماً أنهم إنما يكتبون لأمل بعيد المنال في ظل تهافت شركات الإنتاج والمحطات العربية على قلب المجن وتقديم ما يأمره بهم أسياد المال المرتبطين بأهوائهم وشبقهم الشخصي أو الموجهين من قبل تحالف الشر القاضي بتعهير الجيل العربي الجديد بكل ما هو شاذ ومهين، حتى يبقى الاحتلال سيد الموقف وتبقى العبودية قائمة لنهب الثروات، ونزع ما تبقى من كرامة عربية ترفض أو تقاوم.

عوراتنا تكشفها أعمال الآخرين التي تمجد تاريخها وتعمل لأجل مستقبل أجيالها، أما نحن فنلهث خلف الفتات مما يقدمه الإعلام العربي من تفاهات لا ينجو منها حتى الموسم الرمضاني.

فمتى نستيقظ من غفلتنا وندرك أننا إلى منزلق خطير تضيع فيه الهوية والتاريخ ويصبح المستقبل مظلمًا أكثر مما هو عليه.

فمتى تستيقظين يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ....

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

اخبار ذات صلة