شمس نيوز/ صابرين عزيز
"ماذا حملتَ لعشر شمعاتٍ أضاءت كفر قاسم
غير المزيد، من النشيد، عن الحمائم
والجماجم؟
هي لا تريدُ... ولا تعيدُ
رثاءنا.. هي لا تساوم"
في رثاءٍ حارق أطلق الشاعر الفلسطيني محمود درويش أسئلته عبر قصيدته، " كيف صارت بركة الدمِّ نجوماً وشجر؟"، كغيره من الشعراء والكتاب الفلسطينيين، بوصف حجم الدموع الحارقة وبشاعة الجريمة الإنسانية التي قامت قوات الاحتلال ضد المدنيين.
في مثل هذا اليوم قبل واحد وستين عامًا، كانت هناك قرية تحلم بالقمح وأزهار البنفسج وأعراس الحمائم، تنبت في رحمها السنابل، جاء العدو الإسرائيلي برئيس حكومته ووزير دفاعه، دافيد بن غوريون، وحصد الزيتون، والريح ليبني مقبرةً صامتة من الجماجم، خلال مجزرةٍ بشعة بالتزامن مع اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر لعام 1956.
ظروف المجزرة**
بعد أن قررت قيادة الجيش الإسرائيلي فرض حظر التجول على سـكان القـرى العربية المتاخمة للحدود الأردنية آنذاك، كخطواتٍ تحضيرية لشن حرب على مصر، نقل قائد المنطقة الوسطى تسفي تسور الأوامر للضباط والألوية الميدانيين، وأوكلت مهمة تطبيق حظر التجول على وحدة حرس الحدود بقيادة الرائد شموئيل ملينكي، وبقيادة مباشرة من قائد كتيبة الجيش المرابطة على الحدود يسسخار شدمي.
أوعز شدمي لملينكي بتنفيذ حظر التجول بيد من حديد، وبلا اعتقالات؛ إنما باستعمال القوة ضد المخالفين، وحين سُئل عن مصير من لم يعلم بالحظر أجاب شدمي"الله يرحمه"، وأمر أن ينفذ منع التجول من الساعة الخامسة مساءً حتى السادسة صباحًا.
وأُبلِغ مختار القرية قبل نصف ساعة فقط من بدأ منع التجول، والذي حذر أن مئات من أهل القرية يعملون خارجها ولم يعودوا بعد ولن تكفي نصف ساعة لإبلاغهم، إلا أن مندوب الجيش أجابه أنه سيتم الاهتمام بهم.
وفي الخامسة مساءً، أي بعد نصف ساعة فقط من إبلاغ المختار، بدأ العمال والفلاحون العرب بالعودة إلى القرية بعد الانتهاء من عملهم، خلال ساعة واحدة أوقف جنود حرس الحدود كل عائد للقرية، وتأكدوا من هويتهم بأنهم من سكان كفر قاسم وأمروهم جماعة بعد الأخرى بالاصطفاف على حافة الطريق ثم أطلقوا النار عليهم تنفيذًا لأمر ضابطهم شالوم عوفر الذي قال "احصدوهم".
خلال ساعة واحدة سقط في طرف القرية الغربي 43 شهيداً، وفي الطرف الشمالي سقط 3 شهداء، وفي داخل القرية سقط شهيدان، كان من بين الشهداء في كفر قاسم تسع نساء، وواحد وعشرون طفلاً وفتًا دون الثامنة عشرة، كان إطلاق النار داخل القرية كثيفًا وأصاب تقريباً كل بيت، وجرح ثمانية عشر آخرين.
وبعد كل عملية "حصاد" كانت فرقة حرس الحدود تبتعد عن الطريق غربًا عن الجثث حتى لا تثار مخاوف القادمين الجدد قبل وصولهم إلى موقع الفرقة، تمت عملية القتل على تسع موجات، وفي موقع آخر لاحق الجنود عمال عائدين وأطلقوا النار عليهم من الخلف.
وقام أفراد شرطة حرس الحدود، بعد المجزرة البشعة مباشرة، بتكديس جثث الشهداء الـ "49" في شاحنة، والقائهم في منطقة قريبة من مركز الشرطة في بلدة رأس العين "روش هعاين" القريبة، تم دفن الجثث هناك بشكل موقت، وبعد يومين تقرر دفنهم في مقبرة القرية، حينها استدعى الجنود أفراد من القرية للتعرف على الجثث، وتشخيص 47 جثة وبقيت جثتان لامرأتين لم ينجح أحد في التعرف عليهن بسبب كثرة التشويه.
ودفن الشهداء في كفر قاسم بعد أن استدعت قوات الحكم العسكري عنوة عمال من قرية جلجولية المجاورة، وأجبرتهم على حفر القبور، وتحت حالة من التهديد والخوف تمت عملية الدفن، ودون الاهتمام بحرمة الميت والشريعة الإسلامية.
انتهاء حظر التجول**
أعلن عن انتهاء أمر منع التجول في 56/10/31 الساعة العاشرة صباحًا، ومباشرة خرج أهالي كفر قاسم عن بكرة أبيهم إلى الشارع الرئيسي في القرية، متوجهين إلى مدخل القرية الغربي وليكتشفوا حجم المجزرة والقتل وكانت آثار الدماء تصبغ المكان، وأخذوا يروون ما شاهدوا وما لحق بهم، وسرعان ما سار السكان في مسيرة غاضبة إلى بيت المختار مطالبين بعدم السكوت على مجزرة القرية الدامية.
وخلال وقت قصير، تبيين أن عملية دفن الضحايا كانت خاطئة وغير مقبولة، مما حدا أهالي القرية لاحقًا بالخروج الجماعي متحدين وترتيب دفن يليق بالشهداء، وقد وصلت قوات كبيرة من حرس الحدود إلى القرية في ساعة الجنازة المجددة، وأمرت الأهالي بالالتزام بالهدوء.
وصل عدد الضحايا إلى (49) شهيداً، 2.5% تقريبًا من عدد سكان كفر قاسم الذي لم يتجاوز الألفي نسمة آنذاك، ولم تبق عائلة في كفر قاسم إلا وفقدت شهيدًا.
وعندما وصل خبر المذبحة إلى قيادة الجيش والحكومة، أصدروا أمرًا يمنع نشر أي تفصيل عما حدث في كفر قاسم، وفرض على القرية نفسها حصار كامل، ولم يسمح لإنسان بالخروج من القرية أو الدخول إليها، بما في ذلك أعضاء الكنيست.
لم يكشف النقاب عن المجزرة إلا بتاريخ 13/11/1956، نشر أول خبر في الصحف بعد أسبوع من المجزرة بتاريخ 6/11/1956، وأفاد الخبر أنه: "تشكلت لجنة تحقيق للبت في أحداث كفر قاسم، جلجولية والطيبة"، وأضاف أن "بعض العرب قتلوا وأصيبوا أثناء منع التجول الذي فرض على هذه القرى في 29 تشرين الأول.
وحاولت الحكومة إخفاء الموضوع ولكن الأنباء عن المجزرة بدأت تتسرب فأصدرت الحكومة الإسرائيلية بيانًا يفيد بإقامة لجنة تحقيق، توصلت اللجنة إلى قرار بتحويل قائد وحدة حرس الحدود وعدد من مرؤوسيه إلى المحاكمة العسكرية، استطاع الناشط الإسرائيلي لطيف دوري، وعضوا الكنيست توفيق طوبي ومئير فلنر اختراق الحصار المفروض على المنطقة ونقلوا الأخبار إلى العالم.
عضو الكنيست عن الحزب الشيوعي الاسرائيلي توفيق طوبي، كان أول من طالب بالتحقيق في الموضوع بعد أن عرف عن المجزرة بواسطة نائب عربي تابع لحزب "مباي"، إلا أن مراقبة شديدة فرضت على سجلات الكنيست حالت دون نشرها، وقام بدورة بإدراج الموضوع على جدول الكنيست إلا أن طلبه رفض، لكن الأمر بدا بالانكشاف، مما اضطرت الحكومة إلى إصدار بيان.
وجاء في البيان "أنه في ذلك التاريخ أعلن منع التجول، بهدف المحافظة على حياة الناس وأن عددًا من الناس الذين عادوا إلى بيوتهم بعد فرض منع التجول أصيبوا على يد حراس الحدود وعين رئيس الحكومة لجنة تحقيق لتستوضح ظروف الحادث" على حد زعمهم.
في 20/11/1956 قام أعضاء الكنيست توفيق طوبي وماير فلنر بالدخول إلى كفر قاسم تسللًا محاولين جمع الشهادات ومعرفة الحقيقة، من خلال استخدام حصانتهم البرلمانية، ودونت الشهادات وقاما بنشر مذكرة بعد ثلاثة أيام، وزعت إلى مئات الأشخاص في الداخل والخارج وباللغة العربية والعبرية والانجليزية، تطرقت الشهادات إلى أسماء الضحايا وظروف قتلهم وطالبت بمحاكمة المسئولين.
وقررت لجنة التحقيق التي شكلت بعد استماعها للشهود، دفع تعويض 1000 ليرة لكل عائلة وأحالت قسم من المسئولين لمحكمة عسكرية، صدر بعدها عدد من البيانات التي لم تذكر عدد الضحايا واستمر كذلك منع التجول.
وما يزال العدو الإسرائيلي ينكل باستمرار بالشعب الفلسطيني دون رادعٍ لجرائمه البشعة، ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم، بل تعمل المحاكم الإسرائيلية إلى التخفيف من الحكم، والتساهل معهم، ثم مكافأتهم على إنجازهم بالمزيد من الترقيات.