بقلم: طلال عوكل
مع أن الأحداث لا تقررها التواريخ الحادة، إلاّ أن من أهم مناقب العمل الجماعي بغض النظر عن طبيعته، هو المراجعة السنوية للبرامج والمخططات والمشاريع وهذه في الغالب تتم مع نهايات كل عام، عسى أن يكون فعل المراجعة، سبيلًا لتحسين الأداء والمنتوج في العام الجديد.
على أن العام المنصرم، بما انطوى عليه من متغيرات جامحة وخطيرة، خصوصًا في الشهر الأخير، يجعل من نهاية العام فرصة طبيعية للمراجعة النقدية، وما أحوج الفلسطينيين إلى مثل هذه المراجعة الوطنية.
لا يمر العام على الفلسطينيين، على نحو روتيني، فكل عام يحمل معه، الكثير من المتغيرات التي تستحق التوقف عندها، والعام المنصرم لم يكن استثنائيًا، غير أن ما طرأ في الشهر الأخير، فرض على الفلسطينيين مراجعة ليس لعام واحد وإنما لما يقرب من ربع قرن.
القرار الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي المتهور وعديم الخبرة السياسية كسر الزجاج الشفاف الذي تختفي وراءه مجمل السياسات والاستراتيجيات الأميركية، بما يعيد استظهار الصورة الحقيقية لدولة عدوانية، لا تتعرف إلاّ على مصالحها الأنانية الخاصة، ولا تحترم أي شراكة، حتى مع مثيلاتها من الدول إلاّ حين يتعلق الأمر بإسرائيل.
قبل سنوات كثيرة مضت، كان سؤال العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة محل جدل واختلاف بين من يقول إن إسرائيل هي الولاية الثالثة والخمسين من الولايات المتحدة وبين من يرى فوارق في المصالح، والاستراتيجيات. الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية خلال السنوات السبع الماضية، وعرفت بـ"الربيع العربي"، كشفت عن طبيعة ذلك الربيع بما أنه ربيع للمخططات الأميركية الإسرائيلية، التي تستهدف إعادة تقسيم المقسّم العربي لكي يسهل الانقضاض عليه، ونهب ثرواته ومصادرة حرياته. بعض العرب لا يزالون مفتونين، بالمراهنة على دور أميركي وإسرائيلي مختلف، يؤمّن لهم الحماية والاستقرار لأنظمتهم التي تحتاج إلى التغيير والتحديث. الولايات المتحدة هي التي تختار للآخرين أعداءهم وتزجّ بهم في أتون صراعات دامية، وها هي تعيد صياغة دور الجماعات الإرهابية، وتساعدها على الانتقال إلى أماكن مستهدفة أخرى بعد أن عاثت تدميراً وتخريباً في دول عربية أخرى.
لن يرتدع العرب، وليس من الواضح أنهم يدركون مدى خطورة المراهنة على دعم وحماية أميركية، وهم يتطلعون إلى دعم وتعاون وحماية من قبل إسرائيل، التي تتطلع إلى توسيع نفوذها، وسيطرتها على المنطقة بما يتجاوز أرض فلسطين التاريخية وحقوق أهلها.
الوضع الفلسطيني لم يكن بعيدًا عن منطق المراهنة على إمكانية أن تؤدي العملية السلمية عبر المفاوضات، إلى استرجاع بعض حقوقهم التاريخية، لكن آخر العام، شهد ما يشكل صدمة قوية لقلب ضعف خفقانه، وتراجعت كفاءته. قرار ترامب، ضرب كل الحسابات، ووضع حدًا لكل المراهنات، حيث أنه أنهى ربع قرن من البحث المضني عن سلام تبخّر يومًا بعد الآخر، بسبب المخططات الإسرائيلية التوسعية التي حظيت كل الوقت بتواطؤ أو دعم الولايات المتحدة.
ترامب أرغم الفلسطينيين على تغيير وجهتهم، إذ لم يعد ثمة مجال لمتابعة العمل والنضال، على أساس رؤية الدولتين، والقبول بالحد الأدنى، من حقوقهم التاريخية. أميركا تدفع الصراع إلى نهايات مفتوحة تعيد الأمور إلى نصابها، حيث أن الصراع لا يمكن أن يكون صراع حدود، ولا هو صراع على أساس قرارات الأمم المتحدة، فقد عاد ليكون صراعًا على كل أرض فلسطين التاريخية وكل الحقوق التاريخية.
لقد وضع ترامب حدًا للمراهنة على دور أميركي، أو غير أميركي، ووضع حدًا لادعاءاته بشأن تحقيق صفقة القرن، التي تحولت إلى صفعة قرن، للفلسطينيين والعرب، وحتى للمجتمع الدولي وقراراته ومواثيقه، وتراثه.
بعد قرار ترامب لم يعد العرب عربًا، ولا المسلمون مسلمين، بينما بقيت إسرائيل الدولة التوسعية العنصرية هي ذاتها، وهم ذاتهم الفلسطينيون مع كثير من خيبة الأمل، والشعور بالظلم التاريخي، وحسابات مرتبكة، وخيارات غامضة. المرحلة كلها في ضوء ذلك تحتاج إلى مراجعة نقدية، واعترافات بالأخطاء والخطايا، وإعمال العقل الوطني الجامع لاشتقاق أطر ووسائل وأشكال مواجهة التحديات القادمة. لا يمكن ولا يجوز لطرف واحد أن يحمّل نفسه ويتحمل المسؤولية عن تحديد الخيارات، ووضع الاستراتيجيات للمرحلة المقبلة بما تنطوي عليه من تهديد حقيقي للوجود الفلسطيني. ولكل ما تصارع عليه الفلسطينيون حد الانقسام، كان الصراع على السلطة وعلى القرار والنفوذ، هو عنوان الانقسام وسببه، واليوم ينبغي أن يقف على رأس أولويات الكل الفلسطيني، المواطن الذي بصموده على أرضه يشكل الضمانة لخوض الصراع وتحقيق الإنجاز.
لن يفيد الفلسطينيين المراهنة على بدائل دولية عن الولايات المتحدة، أو المراهنة على أن تعيد الأمم المتحدة لهم حقوقهم، ولا حتى المراهنة على عرب، يلهثون وراء مصالحهم الخاصة، واستقرار بلدانهم حتى لو كان ثمن ذلك القضية الفلسطينية وأهلها. المراهنة ينبغي أن تنعقد أولًا وقبل كل شيء على الوحدة الوطنية وعلى صمود الفلسطينيين على أرضهم ثم بعد ذلك نواصل البحث في كل مكان عن حقوقهم.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"