بقلم: حسين حجازي
لم يتراجع إذن هذا الرئيس للإدارة الأميركية عن قراره الذي أثار كل هذا الرفض على مستوى العالم، بل إنه زاد على ذلك بقوله إنه فخور وحصل على مرتبة الشرف أنه استطاع ان يزيح القدس عن الطاولة، ولم ينس أن يمتدح صديقه نتنياهو الذي التقى به في دافوس. وفي الوقت الذي كان يقول هذا الكلام كانت مندوبته في الأمم المتحدة تشن هجومًا شخصيًا على الرئيس ابو مازن الذي «أهان الرئيس ترامب وأنهى اتفاق اوسلو»، وزادت أن أميركا أي إدارتها لن تركض وراء الفلسطينيين أو ترجوهم من أجل أن يعودوا إلى المفاوضات أو العملية السياسية.
وكان الرجلان الصديقان ذهبا في الواقع إلى منتدى دافوس ربما ليس من أجل مناقشة الموضوع الفلسطيني او العملية السياسية كأولوية، ولا بالتأكيد محاولة إنقاذ العولمة الاقتصادية التي ما برح ترامب يشكل تهديدًا لها، وإنما كيف يمكن إقناع الأوروبيين الحاضرين بقوة هناك في كيفية إعادة فتح الاتفاق النووي وإلغائه مع إيران، حيث استبق نتنياهو الذهاب إلى دافوس بإعداد مشروع قرار جديد للكنيست ليتيح للرجل اتخاذ قرار الحرب، ليس على مستوى الحرب مع غزة أو جنوب لبنان وإنما إيران، وهذا هو القصد دون الرجوع الى مناقشة هذا القرار مع أي مستوى في الدولة.
والمسألة واضحة، يريد الرجل ان يقول للرئيس الأميركي الذي دعمه بقوة انه هو أيضا عند الطلب، واننا سيد الرئيس نعود الآن الى المنطلق الرئيسي والأساس في علاقتنا او تحالفنا، أي ان إسرائيل هي الشرطي الوكيل او كلب الحراسة ومخلب القط في المنطقة، وهذا اقل ما نفعله. وأشاد الرئيس ترامب بدوره بهذا الوفاء عندما قارن بين الفلسطينيين والإسرائيليين قائلا: هأنتم ترون، ندفع للفلسطينيين وكثير من الدول مئات الملايين من الدولارات ولكنهم لا يقدرون ذلك ولا يحترموننا، ووحدها إسرائيل التي تقدر ذلك.
ويشبه هذا الفصل الأخير من اللعبة أو هذه الدراما السياسية الطريفة أو التي لا تخلو من الطرافة وقدر من الإثارة والتشويق، مشهد إزالة الطواقي أو الطرابيش أو الاقنعة نوع من اللعب على المكشوف. ولكن أحدًا هنا لا يطرح السؤال الجدير وحده أن يطرح ولأنه لا يطرح فانه يترك فراغًا غامضًا يظل عالقًا أو حلقة غير مغلقة في بناء أو إعادة تركيب هذه العملية بين الطرفين أو بالشراكة بينهما.
ولقد أصبح واضحًا أن الهدف الاستراتيجي المشترك هو ضرب إيران التي تمثل في هذه القصة معسكر الأعداء أو العدو المركزي، ولكن الشرط لإتمام هذه المهمة يقتضي توحيد معسكر الأصدقاء أي إقامة ما يسمى التحالف السني العربي الإسلامي مع إسرائيل. ولكن هذا بدوره لن يتأتى إلا إذا أزيلت القضية الفلسطينية من الطريق لكيما يتم استبدال أسباب العداء بين العرب وإسرائيل بعوامل التحالف والاتفاق ضد العدو المشترك أي إيران.
وهنا السؤال، أين العملية السياسية التي تقتضي تسوية القضية الفلسطينية؟ والجواب هي صفقة القرن التي ينتظر الإعلان عنها في وقت لاحق، وهي ما زالت بعد في الأدراج. وكل ما يقال حولها هو مجرد إشاعات أو تكهنات.
«اذ أعلن عنها دونالد ترامب الآن حتى يتم وضع السلطة الفلسطينية والرئيس أبو مازن أمام الأمر الواقع». دعا بنيامين نتنياهو المعلم أو الأستاذ ترامب دون إظهار ذلك لئلا يستفز رئيسًا يعاني من تضخم الشعور بالغرور والنرجسية، ويعتبر نفسه العبقري الوحيد. وهكذا يوجد الفلسطينيون الطرف الذي يبدو الأضعف أمام تحقيق هذه الاستراتيجية، باعتبارهم الرقم الصعب في إفشال هذه الاستراتيجية، إذا كانت هذه العملية السياسية لحل القضية الفلسطينية أو إزاحتها لا يمكن أن تتم بدون موافقتهم. وغير ذلك يقول حال الفلسطينيين: فلتشربوا من البحر أو تذهبوا إلى الجحيم.
«اصمدوا إذن أيها الفلسطينيون ولا تخضعوا لدونالد ترامب»، لأن النصر صبر ساعة وهو سوف يسقط ولن يكمل سنوات ولايته. وهكذا سوف يظهر فجأة ومن دون تمهيد جون كيري وزير الخارجية الأميركي السابق على هامش الصورة، في اللقاء الذي قيل أنه جرى بينه وبين حسين آغا أحد المقربين من الرئيس أبو مازن، إنما لكي يوجه من خلاله رسالة إلى الرئيس أبو مازن يشد من عضده ويحثه على المضي في موقفه الرافض لما يسمى بصفقة القرن.
وهكذا سوف نجد أنفسنا ليس في قلب العالم كما لا زلنا بعد قرار ترامب الأحمق حول القدس، ولكن هذه المرة في قلب الصراع المحتدم بين الحزب الديمقراطي والجمهوري في أميركا نفسها، وربما الأدق في الاصطفاف الداخلي الأميركي بين الديمقراطية أو الليبرالية، وبين اليمين العنصري المتطرف والذي يضم الانجيليين الصهيونيين الذين يمثلهم حزب دونالد ترامب الخفي والخاص ونائبه مايكل بينس. وهو اصطفاف تبلغ فيه نسبة من يؤيدون إسرائيل في أوساط الحزب الديمقراطي هي الأدنى في تاريخ هذا الحزب، علمًا ان اليهود الأميركيين يصوتون تاريخيًا بنسبة 70% للحزب الديمقراطي.
وربما يكون من البديهي أو تحصيل الحاصل أنه في الوقت الذي أقدم فيه ترامب على كسر قواعد اللعبة التقليدية بإزاحته القدس عن الطاولة، لم تعد هناك طاولة يتم عبرها التفاوض أو عقد صفقات من أي نوع. ولكن السؤال الذي لم يعد ممكنًا إخفاؤه ويطرح بقوة هو التالي: أيهما يسبق في السقوط أو الانزياح، كلا هذين الرجلين الملاحقين بقوة من قبل رجال التحقيقات في كل من إسرائيل وأميركا، أم سقوط وانهيار ما يسمى بصفقة القرن؟، وعليه من أي شيء يفزع أو يخاف أو يقلق الفلسطينيون، إذا كان معسكر الأعداء يشبه عند هذه المرحلة لقاء «التعيس وخائب الرجاء» ؟.
لكننا مع ذلك لا نوجد نحن والحزب الديمقراطي الأميركي وحتى أوروبا التي تتوقع وتنتظر هي الأُخرى سقوط الرجل في وضع جيد ومريح، إذا كان من يخلف ترامب هو نائبه مايكل بنس الأكثر تطرفًا، وهذه المرة عقائديًا حتى ليبدو للبعض أزيَد أو أكثر من نفتالي بينيت. ولقد كان وقت في ثمانينات القرن الماضي حين كان جورج بوش الأب نائبًا للرئيس يسخر شخصيًا من أهمية هذا المنصب بإطلاقه وصف «وعاء البول» على من يكون نائبًا للرئيس.
لكننا كنا شهودًا قبل سنتين حين جاء نائب الرئيس الأميركي السابق الذي كرمه باراك أوباما في نهاية ولايته بوسام تقديرًا لدوره، على خطاب ألقاه أمام الكنيست الإسرائيلي وقال فيه عبارته الماضية بحزم: «كفى، هل تريدون وإلى متى أن تواصلوا الحياة على حد السيف؟». ولنا أن نقارن الآن بين خطاب مايكل بنس قبل أيام أمام الكنيست وهذا الخطاب. أما في إرث جورج بوش الأب رئيسًا فهو عقده مؤتمر السلام في مدريد ومعاقبته إسرائيل بوقف قروض الائتمان، وعليه فان الرهان ربما يظل على تناقض أميركا مع نفسها وتفوق وجهها السياسي الأكثر توافقًا مع العالم. وما يحدث الآن أننا قد نكون في هذه الذروة غير المسبوقة من سباق المسافات القصيرة بين هذه التناقضات، ويبدو أننا نشهد بعد الإجماع العالمي حول القضية الفلسطينية انتقال هذه القضية إلى قلب الاستقطاب الأميركي الداخلي.
الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"