بقلم: حسين حجازي
ينسى الناس أو يتجاهلون ولا سيما الزعماء السياسيين منهم وهم في غمرة صراعاتهم في الحياة أو انشغالهم في محاولة تحقيق طموحاتهم، أن معركة واترلو التي ترمز إلى الهزيمة انما هي النتيجة المصيرية التي ينتهون إليها، واترلو الخاصة بكل منهم والتي تعبر عن هذه الجبرية أو الحتمية القاسية، التي تمثلها مجموعة القوانين أو السنن الطبيعية والتي وحدها تظل العامل الحاسم الذي يتحكم في حياة البشر كما التاريخ نفسه. وهي القوانين الأكثر عمومية وشمولية التي استغرقت منذ الأزمان القديمة وحتى الآن جهود الفلاسفة في محاولة فهمها أو التأمل في آليات فعلها.
وهكذا ما بعد الصعود يأتي الهبوط والانحدار وما بعد التمدد والتوسع يحدث التراجع أو الانكماش، وفيما ينتظرون العدو هناك من الخارج يكتشفون أخيرًا أن العدو هم أنفسهم. ولسوف يظل الفضل في اكتشاف وصياغة الأبعاد التي تنطوي عليها هذه المفارقات إلى العبقري وعالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون، وإن كانت هذه الرؤى متضمنة كنوع من فلسفة التاريخ في القرآن الكريم وتعاليم السيد المسيح.
وربما أفضل من عبر عن هذا التناص التاريخي أو التعارض القدري بين هذه الأدوار التي تمثلها شخصيات في التاريخ، هو المؤرخ الكبير في عصرنا ويل ديورانت الذي لاحظ أنهم في البداية يكونون مثل آخيل البطل الإغريقي في الأسطورة اليونانية، ولكنهم في النهاية مثل أبيقور فيلسوف البحث عن اللذة او السيجار الفاخر والشامبانيا غالية الثمن. وأنه بعد أيوب أي سفر الرجل الصالح أو الزاهد والمستقيم الذي يأتي ذكره في العهد القديم، يأتي سفر الجامعة المفعم بالنزعة المتشائمة التي تكاد تقترب من العبثية إزاء الوجود الإنساني والتاريخي. فكل شيء باطل " باطل الأباطيل" وليس سوى قبض الريح وكآبة الروح كنتيجة لكل ما يفعله الإنسان.
هل هذه هي اذن لحظة قبض الريح وكآبة الروح، أو هي كذلك معركة واترلو الخاصة بهزيمة واندحار ونهاية الحياة السياسية لبنيامين نتنياهو؟، بعد أن أمضى في الحكم تسع سنوات متواصلة بخلاف أسلافه السابقين، حتى ظن نفسه في وقت من الأوقات انه ملك اسرائيل المخلد الذي يتجاوز حتى بن غوريون، ولأنه هو الرجل السياسي الكبير الذي لا يمكن لإسرائيل العاقرة أن تجد له بديلًا يحكمها، وبالتالي فان لا شيء ينتظره خصومه أو الصحافة أو أعداؤه سوف يحدث.
والواقع أنه لا يبدو من ردود أفعال الرجل أو أقواله وخطاباته بعد إعلان الشرطة توصياتها بتقديم لائحة اتهام ضده، بتهمة الفساد وخيانة الأمانة والارتشاء، أنه يعتبر للحظة بأن ما يحدث هو هذه النهاية أو واترلو الخاصة به، وإنما ينكرها، ينكر كل ذلك. ولكن حتى نابليون بونابرت عام 1815 حينما حشد جيشه في آخر معاركه الكبيرة وذهب إلى واترلو لملاقاة الحلفاء أعدائه، فانه وقد اعتاد على الانتصارات في حروبه السابقة لم يشك للحظة واحدة أن هذه هي نهايته وآخر معاركه، وأنه بعد ذلك سوف يتم نفيه وحيدًا إلى إحدى الجزر في البحر.
وهكذا أردنا من هذا السياق التاريخي مقاربة الأزمة التي يواجهها نتنياهو، في محاولة إبراز وجهة نظر أُخرى مفادها أن الرجل لن يستطيع هذه المرة النجاة أو الخروج سالمًا من هذه المعركة التي تبدو أخيرًا هي واترلو الخاصة أو القاضية لمستقبله السياسي. وذلك بخلاف بعض التقديرات والتحليلات التي تذهب إلى أن المسالك أو الممرات القانونية المعقدة وهي حبالها طويلة، وأن الرجل وقد قرر أو عقد العزم على عدم اختيار ما فعله في فضيحة أو مخالفة أقل منها مثل اسحق رابين وحتى إيهود اولمرت، أي بعدم إيلاء معايير أو قيم او اعتبارات أخلاقية تتعلق بالاستقامة أو الشرف كما الفروسية والشجاعة الأدبية والنبالة، بأنه سوف يذهب إلى النهاية او آخر المطاف في محاولة الاحتيال القانوني والمراوغة وكل أشكال المناورات الأُخرى، لإبطال الاتهامات الدامغة الموجهة له وبالتالي النجاة.
والواقع أنه يمكن الموافقة على بعض من رأى أنه في ماضي الرجل تمكن قبل ذلك من النجاة تحت وقع الموجة الكاسحة لما سمي الربيع العربي، وأن بعض الثورات المضادة الارتدادية التي أعقبت ذلك، إنما جاءت بمثابة تقديم كنز استراتيجي لإسرائيل وله. وصحيح أيضًا ما ذهب اليه البعض ونحن أيضا هنا من أن بعض العرب أبدوا استعدادًا في الآونة الأخيرة للقبول أو التعامل بل التحالف معه، ولكن إذا استطاع ان يقدم البضاعة اللازمة أي إنهاء الاحتلال ودفع الثمن للفلسطينيين.
وصحيح أيضًا أن المعارضة في إسرائيل ضعيفة ومفككة وأنه يملك بالمقابل ائتلافًا يمينيًا متطرفًا يتمسك ببقائه لئلا يتفكك وتذهب ريحه، ولكن الصحيح أيضًا ان جميع هذه العوامل لا تستطيع الصمود إزاء الحقيقة او المتغير الاستراتيجي الذي حدث، وهو أن الرجل تم المس به أو ضربه أو طعنه فيما يخص المسألة التي تتعلق بشخصه. وهنا المسألة، فبعد الآن لن يكون هو نفسه سواء أمام الإسرائيليين أنفسهم أو العرب الذين كانوا مستعدين للقبول به، وأمام الأوروبيين الذين لم يحبوه منذ زمن. ولكن الأهم بعد الآن أمام دونالد ترامب نفسه الذي وصل الى حد وصفه "بالكذاب" الأسبوع الماضي، دونما اعتبار حتى لمعايير اللباقة أو الكياسة الدبلوماسية في مراعاة ما اعتُبر صديقًا. وهو ما طرح سؤالًا كبيرًا عن مدى صدقية وثبات ما اعتُبر صداقة بين الرجلين.
أما المتغير الخارجي المهم فهو فشل عملية قتل الدولة السورية، وتشكُّل توازن جديد يحد من إمكانية حصول إسرائيل على جزء من الكعكة أي النفاذ بالجولان كما كان يخطط نتنياهو. ولكن أيضًا يحد من قدرته على المناورة أو المغامرة العسكرية للهروب من أزمته الحالية.
وواقع الحال أن سقوط الطائرة الإسرائيلية إف 16 تاج قوة إسرائيل وهيبتها، إنما يوازي السقوط الذي يواجهه نتنياهو. وإذ بدا ذلك انكشافًا على الجبهة الشمالية مع محور سورية وحزب الله وحتى إيران وروسيا، فانه يتماهى ويتزامن بصورة رمزية تدعو إلى التأمل فيها، مع انكشاف داخلي تقف إسرائيل ككل أمام مفترق طرق أخير بين عهدين او عصرين، إزاء ما يبدو واضحًا أن عهد أو زمن الموجة اليمينية في إسرائيل يقترب من نهايته، ولعل هذا هو مغزى ما يحدث الآن.
الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"