بقلم/ د. عرفات شكري
عندما أعلنت الإدارة الأمريكية في شهر (يناير/ كانون ثاني) من هذا العام تخفيض دعم الأونروا بـ ٦٥ مليون دولار من أصل حزمة الدعم المقررة للأونروا كانت ردة فعل اللاجئين الفلسطينيين سلبية تجاه هذا القرار. ليس من أجل حاجتهم لهذا المبلغ بقدر ما تعكس هذه الخطوة تخوفاتهم من سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه قضيتهم بشكل عام، وخاصة ضمن ما بات يعرف ب "صفقة القرن".
وإن لهذه التخوفات ما يبررها، فالرئيس الأمريكي قد أعلن قبل أسابيع قليلة اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل دون أن يعترف بأي حق للفلسطينيين فيها، في سابقة لم يقدم عليها أي من الرؤساء السابقين. بل وفي تصريحات لاحقة اعتبر أن موضوع القدس قد تم الانتهاء منه وإزاحته عن طاولة النقاش. ولهذا ومع ازدياد الحديث عن قرب إعلان الإدارة الأمريكية عن طرحها لرؤيتها للسلام في الشرق الأوسط فإن الموضوع الأخطر الذي يخشى أن يتم إلغاؤه هو موضوع اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم، كما هو منصوص عليه في القرارات الأممية والقوانين الدولية.
ورغم هذه التخوفات من "صفقة القرن" الأمريكية فيما يتعلق باللاجئين فإن نظرة متفحصة على سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تنبئ أن تغيرا كبيرا قد حدث عليها خلال السبعين سنة الماضية أي منذ النكبة الفلسطينية عام ٤٨ وصولا إلى الوقت الحالي. أي أنه وحتى قبل إعلان ترمب عن خطته الجديدة فإن السياسة الأمريكية تجاه اللاجئين كانت سلبية جدا وخاصة في العقود القليلة الماضية.
فالرئيس ترومان الذي حدثت في عهده النكبة وتم إقامة دولة إسرائيل كانت سياسته تقوم على محاولة إعادة مجموعة من اللاجئين إلى ديارهم تقدر بمائتي ألف لاجئي وتوطين الباقي في الدول العربية. ورسالته الشهيرة التي أرسلها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون مشهورة في هذا السياق. إذ طلب منه بلهجة قوة بل وبنوع من التهديد أن يسمح بإعادة ٢٠٠ ألف لاجئ فلسطيني إلى ديارهم ضمن حل شامل لهذا الصراع، وتحقيق السلام بين إسرائيل والدول العربية. ولكنه فشل في مسعاه وتراجع عنه بعد ممارسة ضغوط من قبل اللوبي الصهيوني في أمريكا ضده. وكما يقول كثير من المحللين فإن إصرار الرئيس ترومان هذا لعودة اللاجئين إلى فلسطين كان مرده إلى سياسة الاحتواء والتصدي لنفوذ الاتحاد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط، أكثر منه حرصا على إعادة الحقوق إلى أهلها. ورغم ذلك فإنها تبقى المحاولة الأمريكية الجادة الأولى والأخيرة لإعادة بعض اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
وخلال فترة ٤٨ ومع ازدياد حدة المعضلة المتعلقة باللاجئين قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر عام ٤٨ بالتصويت على قرار ١٩٤ القاضي بعودة من يرغب من اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتعويض من يرفض العودة. وقد صوتت الولايات المتحدة على هذا القرار وقتها. وبعد تزايد أعداد اللاجئين في الدول العربية المجاورة لفلسطين وزيادة أعباء استيعاب اللاجئين عن قدرة هذه الدول صوتت الولايات المتحدة عام ٤٩ أيضا لصالح قرار الأمم المتحدة القاضي بإنشاء وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الأونروا.
وانتقالا إلى الخمسينات والستينات من القرن الماضي حيث كانت قضية اللاجئين ما زالت حديثة نسبيا فإن السياسة الأمريكية كانت قائمة على ضرورة حل قضية اللاجئين بإعادة توطينهم في الدول العربية. وضمن هذا التصور كان لا بد من قيام نهضة اقتصادية في هذه الدول لإغرائها بقبول توطين اللاجئين على أراضيها. وتتالت المبادرات الأمريكية لتحقيق هذه الرؤية مثل خطة جونستون عام ١٩٥٢، ومشروع دوليس ١٩٥٥ ومبدأ أزينهاور ١٩٥٧ وخطاب لندين جونسون في الأمم المتحدة عام ١٩٦٧ وغيرها من المبادرات التالية.
وفي العقدين التاليين اتسمت سياسة الإدارة الأمريكية بالغموض بخصوص اللاجئين. فتارة كان يتم إسقاط القرارات الدولية بخصوصهم وتارة كان يتم إهمال الحديث عنهم حين الحديث عن حل للصراع العربي الإسرائيلي. وتارة أخرى كان يتم الحديث عن حل قضيتهم ضمن تصور شامل لحل الصراع في المنطقة ككل.
أما في عقد التسعينات والألفين فقد تميزت السياسة الأمريكية بخصوص اللاجئين بوقوف واشنطن بصورة أكثر وضوحا لجانب إسرائيل. فخلال فترة رئاسة بيل كلينتون توقف الإدارة الأمريكية عن التصويت لصالح التجديد السنوي لقرار ١٩٤ في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم بعد ذلك تحول الموقف الأمريكي للتصويت ضد هذا القرار بحجة أن المفاوضات هي المرجعية في موضوع اللاجئين، وما يتفق عليه الطرفان هو المعتمد وليس القرارات الدولية.
ثم بعد ذلك وفي عهد الرئيس جورج بوش تحديدا وخارطة الطريق التي تبناها فقد ورد ذكر موضوع اللاجئين مختصرا وكانت رؤية الحل لموضوعهم بأن يتم بطريقة عادلة وعملية ومتفق عليها من قبل الطرفين. وهذا بطبيعة الحال كان يعني إلغاء القرارات الدولية التي تحفظ حقوق اللاجئين بل وجعل الحل مستحيلا إذ جعلته منوطا برغبة إسرائيل، التي ترفض عودة أي لاجئ فلسطيني إلى أرضه.
وفي عهد الرئيس باراك أوباما فقد صرح في أكثر من مناسبة أن حل موضوع اللاجئين يكمن في عودة بعضهم إلى الدولة الفلسطينية التي ستقام وليس إلى إسرائيل. هذا علاوة على الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، مما يعني ضمنا أن لا حق لأي لاجئ فلسطيني في العودة إليها.
وبوصولنا إلى عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فإن الطريق أمامه ممهدة للقضاء على هذا الحق. وكل ما عليه القيام به هو أن يسير على نفس الخطى التي سار عليها أسلافه من الرؤساء السابقين بتأكيد يهودية دولة إسرائيل وعدم وجود الإمكانية العملية لعودة أي لاجئ. وبالتالي فإن حل موضوع اللاجئين هو بإعادة توطينهم في أماكن سكناهم. بل إن بعض وسائل الإعلام الأمريكية تناولت مؤخرا موضوع اللاجئين ضمن الحديث عن خطة "صفقة القرن" المتوقع الإعلان عنها قريبا وقالت بأن هذه الخطة لا تتضمن حتى كلمة حل "عادل" أو "عملي" لموضوع اللاجئين.
ومن هذا الاستقراء السريع للسياسة الأمريكية المتعلقة باللاجئين وما يتوقع من الرؤية الأمريكية القادمة بخصوصهم فإن موضوع اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم بات أمرا محسوما من حيث إسقاطه وعدم الاعتراف به. وهذا لا يعني بالضرورة التسليم بمثل هذه التوجهات والاستسلام لها. بل يمكن لجموع اللاجئين في كل مكان أخذ زمام المبادرة وعدم الارتكان إلى أي جهة رسمية للدفاع عن حقوقهم. فقد أثبتت التجربة على مدى السبعين سنة الماضية أن الجهات الرسمية يمكن الضغط عليها وبالتالي يتم تقديم تنازلات مؤلمة. أعتقد أن على اللاجئين، إن أرادوا الدفاع عن حقوقهم، أن يقوموا بتوحيد جهودهم وتنظيم صفوفهم ونبذ الحزبية المقيتة التي شملت مختلف أطياف الشعب الفلسطيني، وأخذ زمام المبادرة والتحرك على الصعيد الداخلي والدولي لبيان أن لا حل لهذا الصراع ما لم يشتمل على حل لقضية اللاجئين حسب ما نصت عليه القرارات الأممية.
وبخصوص مصير الأونروا فإنها ستبقى قائمة ما بقيت قضية اللاجئين. وذلك لأنها تؤدي دورا مهما في رعاية اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وكذلك في الدول العربية المستضيفة للاجئين. وإذا اختفت الأونروا عن الوجود فإن رعاية اللاجئين تصبح عبئا كبيرا على عاتق إسرائيل بصفتها دولة محتلة. كما أن ترك ملايين اللاجئين في دول الشتات دون رعاية أو وظيفة أو مستقبل سيؤدي إلى تفجر الأوضاع أشد مما هي متفجرة أصلا. وهذا بالتأكيد ليس في مصلحة أحد. ولعل هذا ما يفسر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الداعم الأكبر لميزانية الأونروا. وحتى لو انخفضت نسبة الدعم الأمريكي للأونروا فإن دولا غربية أخرى ستسد هذا النقص. وأخيرا فإنه رغم الانتقادات الشديدة التي توجه أحيانا لأداء الأونروا في أروقة الكونغرس الأمريكي إلا ان اللوبي الصهيوني هناك رغم قوته المعروفة لم يسع إلى حشد قواته للتصويت ضد الأونروا أو عرقلة عملها. وذلك لأنه يدرك أهمية بقاء الأونروا وأداء دورها ضمن الظروف والمعطيات الحالية.