بقلم: مهند عبد الحميد
جولة أولى بدأت في يوم الأرض الدامي خسرتها دولة الاحتلال وإدارة ترامب، وذلك حين قدمت إسرائيل نفسها أثناء الاحتفال بالأعياد اليهودية والمسيحية دولة ترتكب مذبحة بدم بارد سقط فيها 18 شهيدا و758 جريحا بالرصاص الحي، فضلاً عن مئات المصابين بالرصاص المطاطي وبقنابل الغاز من بين جموع المحتجين السلميين، بينما قدمت إدارة ترامب نفسها حامية لمرتكبي الجريمة وهي تمنع إصدار بيان من مجلس الأمن يدعو إلى ضبط النفس واحترام القانون.
هذا الموقف الأميركي يعد من أكثر المواقف صلفا واستفزازا وتوحشا. الخسارة الأميركية الإسرائيلية جسدت الإفلاس السياسي والأخلاقي وجاءت على شكل نوع من عزلة دولية لدولة الاحتلال وإدارة ترامب مقابل ارتفاع مستوى التضامن مع الشعب الفلسطيني.
ولم تُحل الإدانات من هنا وهناك إلى محاسبة كما هي الحال في كل مرة، ولكن ورغم الهيمنة الأميركية على المؤسسات الدولية، ثمة محاولات دولية للتحقيق في جرائم قتل المحتجين الفلسطينيين السلميين بدم بارد.
يعرف القاصي والداني أن قطاع غزة على وشك الاشتعال، جراء الحصار الخانق والتهميش السياسي والظروف المعيشية البائسة، وجراء السياسات الداخلية الفلسطينية أيضا.
الضفة الغربية بدورها مرشحة للالتحاق بالانفجار، وبمستوى ما فإن التجمعات الفلسطينية في الخارج لن تكون محايدة.
وفي الآونة الأخيرة تزايدت محاولات احتواء الوضع وقطع الطريق على الانفجار عبر اجتماعات دولية أبرزها في واشنطن - دون مشاركة فلسطينية -.
لكن المحاولات باءت بالفشل، وكانت ادعاءات السلام الاقتصادي قد تحولت إلى كذبة كبيرة في غياب العامل السياسي وانغلاق أفق الحل الذي يقبل به الشعب الفلسطيني، بل إن محاولة تصفية القضية الفلسطينية وتقرير مصير شعب نيابة عنه زاد الأمور توترا واشتعالا.
خلافا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، انبرت دولة الاحتلال لاعتماد مشاريع تفكيك وإلحاق مكونات الشعب وقطع الطريق على صيرورته الكيانية، مستخدمة مختلف الأساليب الاستعمارية والعنصرية. لكن مآل تلك المشاريع هو الفشل رغم الخراب والتشوه والخسائر التي تخلفها. لا يوجد لدى إسرائيل غير الاستثمار في تفكيك البنية السياسية الفلسطينية وقطع الطريق على بناء تشكيلة اقتصادية اجتماعية وتطور الكيانية الفلسطينية إلى دولة مستقلة.
مقابل ذلك، لا يوجد لدى الحركة الوطنية غير الاستثمار في بناء طاقة الصمود والبناء والتطور لدى الشعب الفلسطيني. من هنا يكتسب تقييم ما حدث في قطاع غزة يوم الأرض أهمية كبيرة.
بالأمس في يوم الأرض تدفق عشرات الآلاف كبارا وصغارا أفرادا وعائلات ومجموعات، وتمركزوا قرب الحدود.
القوى المنظمة للفاعلية وفرت الاحتياجات كالخيام ومراكز تجمع ومنصات حوار إضافة إلى الإسعاف والماء وكمامات واقية من الغاز.
كان مشهدا احتجاجيا سلميا بامتياز، أحدث تأثيرا كبيرا في الرأي العام العالمي، وقد أثبت هذا المشهد وتأثيراته الكبيرة في يوم واحد الحاجة إلى هذه الميادين في القطاع وفي الضفة للتعبير عن المواقف الشعبية ولتنظيم فعاليات تستقطب متضامنين وحلفاء حقيقيين وتخاطب الشعوب الشقيقة أولا وشعوب العالم حول المؤامرة الأخطر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، ويجدر القول، إنه من هذه الميادين والتجمعات الحاشدة يقرر الشعب ما يريد وما لا يريد، ويشارك في صنع القرار الوطني، ويشارك في الإصلاح وفي إعادة بناء الوحدة الوطنية، وفي فك الحصار.
لكن دولة الاحتلال التي أعدت الدبابات والقناصة والطائرات بدون طيار لم يرق لها هذا المشهد، فقد كانت بانتظار اقتحام الشبان للحدود ليتسنى لها الرد عليهم بما أوتيت من قوة من أجل حسم سريع وبالضربة القاضية حتى لو أدى ذلك إلى قتل المئات وإلصاق ذريعة تهديد أمن إسرائيل بهم.
دولة الاحتلال تعمل ما في وسعها لفرض أساليب معينة للمواجهة بالاستفزاز، وتحاول أن تستدرج القوى والشبان إلى مواجهة عنيفة.
وكان اقتراب شبان بصدور عارية من الخط الفاصل مناسبة لقنصهم وإلحاق الموت بهم أو جرحهم.
من أجل ذلك فإن وجود ميادين وساحات احتجاج يتطلب ضبطا وربطا وتنظيما وإدارة ومسؤولية وتخطيطا وأولويات فضلاً عن تأمين احتياجات لوجستية.
العكس من ذلك هو التعامل دون نظام والسماح للشبان بالارتجال والمغامرة غير المدروسة التي ينتظرها المحتلون.
إن من شأن ذلك استبعاد أو استنكاف العدد الأكبر من المواطنين عن المشاركة، فكلما كان عدد المشاركين أكثر كان التأثير أقوى والعكس هو الصحيح.
العمل العشوائي المرتجل والسماح بوقوع خسائر بشرية عالية سيقلل من عدد المشاركين. إن ذهاب الناس لمرة أو مرتين لا يكفي.
وهناك فرق جوهري بين رؤيتي المواجهة، الأولى مرتجلة وعشوائية والثانية احتجاج منظم ومفتوح للاستقطاب الداخلي والخارجي، وفرق جوهري في النتائج وفي الجدوى السياسية والوطنية بين الممارستين.
وفرق جوهري في الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يبدو موحدا ما عدا استثناءات قليلة كمظاهرة الـ 300 شخص في تل أبيب ضد القمع الدموي الإسرائيلي، ومقالات منددة بالسياسة الإسرائيلية وبأعمال القتل في الصحافة الإسرائيلية وعبر وسائل الاتصال الاجتماعي فقد جرى فصل موظف لأنه كتب في مدونته أنه يخجل من كونه إسرائيليا بسبب جرائم القتل.
أمامنا فرصة سانحة لإعادة بناء مقومات الصمود وهزم ما يدعى بصفقة القرن، وانتزاع الحق بتقرير المصير بعيدا عن كل تدخل ووصاية وضغوط، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية وإنهاء الانقسام.
إذا كانت هذه أهداف التحرك والمبادرة لدى كل القوى السياسية، فإن الانحياز للاحتجاج المنظم والمتعاظم يكون تحصيل حاصل، وتكون التنظيمات السياسية كبيرها وصغيرها قد بدأت تتجاوز أزمتها في سياق المعركة الوطنية.
أما إذا كانت أهداف التحرك فئوية وتأتي في سياق محاولات الخروج من الأزمة الخاصة، فإن ما يتلاءم مع هذه الأهداف الفئوية هو العمل المرتجل والمواجهات غير المدروسة التي تحدث خسائر في صفوفنا فقط، واستثمار الخسائر البشرية للإفلات من الأزمة حتى لو كان مؤقتا.
في حالة حدوث ذلك، فإن التفكك الداخلي سيستمر وستمضي مؤامرة تقرير مصير الشعب نيابة عنه عبر تصفية مكاسبه وحقوقه ومشروعه الوطني.
من أجل احتجاج منظم تشارك فيه كل قطاعات الشعب في الضفة والقطاع والقدس ومناطق 48 والشتات، فان ذلك يستدعي تحديد أهداف ملموسة قابلة للتحقيق، وقيادة ميدانية موحدة، وجهاز إداري فني وطني لتنظيم الاحتجاج ووضع الضوابط التي لا ينبغي تجاوزها، وهيئة خبراء استشارية لتقديم المقترحات وتقييم الأداء، وخطاب إعلامي واقعي شفاف يخاطب الداخل والخارج بما في ذلك المجتمع الإسرائيلي.
الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"