شمس نيوز/ صابرين عزيز
أبيض أسود، وقرية تقع غربي القدس تعرف بـ"دير ياسين"، بنادق كبيرة وقوات من جماعتي (أرجون وشتيرن) في التاسع من أبريل قبل سبعين عامًا، ثم بدأ الأبرياء يتساقطون، هذا ما وثقه التاريخ الأحمر من مجازر مع قوات الاحتلال الإسرائيلي الغادر لـ"معاهدة السلام" الموقعة قبل أسبوعين من المذبحة بطلب من المستوطنين.
كان المستوطنون، آنذاك، مكدسون في سفن الهجرة ليستقروا على أرضٍ لا يعرفوا ملامحها، وليستطيعوا الاستيلاء على أحلام الأرض أخذوا ينكلون بأهلها ويبترون رأسهم لبث الرعب في الأراضي الفلسطينية كافة، وبهجمة لص داهمت الجماعتان الإسرائيليتان القرية الصغيرة في الثالثة فجرًا.
وكما يجب أن يحدث، فإن أي صاحب حق يخرج للدفاع عن حقه، وهذا ما قام به القرويون في دير ياسين، مما دفع المهاجمون الاستعانة بتعزيزات من القدس، بعد أن سقط منهم أربعة قتلى، وما لا يقل عن 32 جريجًا.
عاد الزمن للخيام بينما أسير بين قطع القماش المقامة على حدود قطاع غزّة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، بفارقٍ كبير، بين جرحٍ غائرٍ في صدر جدٍ رأى مأساة التهجير، واشتياق حفيدة سمعت قصصًا ترى خيام العودة، بعد انطلاق "مسيرة العودة".
دون "سرّة القماش"، أو الطابو ومفتاح الدار، خرجنا نحن اللاجئون عائدون نحو أراضينا المحتلة ودير ياسين، نصبنا الخيام دون الهرب من مجزرة خوفًا من التنكيل بأبنائنا، بملابس ملونة وكاميرات تأخذ حقيقة أحلامنا في اندفاعها وابتسامتها، محملين بمأساتنا الأولى وكاميرات الغرب التي وثقتنا بالأبيض والأسود في بؤسنا..
وحتى لا ننسى التاريخ، فتحنا الصفحة لعام 48، عندما أطلق الاحتلال النار على أهالي قرية دير ياسين دون تمييز بين امرأة أو طفل أو رجل، ولم تكتف العناصر الإسرائيلية المسلحة من إراقة الدماء في القرية، آنذاك، بل أخذوا عددًا من القرويين الأحياء بالسيارات واستعرضوهم في الشوارع المحتلة وسط هتافات المستوطنون، ثم العودة بالضحايا إلى قرية دير ياسين وانتهاك جميع المواثيق والأعراف الدولية حيث جرت أبشع أنواع التعذيب.
وبينما أسير في ذكريات الأجداد، رأيت دخان يوم الجمعة الماضية، حينما أعلنها الشبان الثائرة على جرح مجازر الاحتلال "جمعة الكوشوك" واستحضرت تعليق الكاتب الفلسطيني الشاب عامر المصري قائلًا:" هذه الغيوم هي خسارات أنجبت خلال سبعين سنة، هي أرواح شهداء تصعد للتو إلى الله، هي غضب فتاة فقدت زوجها، وأم فقدت ابنها، وأطفال تعطل والدهم عن الحركة لبتر قدمه.."
وهي تصعد ألسنة اللهب السوداء إلى السماء، محملةّ بذكريات مراقة بالدماء والمجازر، ختم المصري تعليقه: "هذه الغيوم هي خسارتنا التي تتحول إلى انتصارات حين تصير غيومًا.."
وعن المجزرة البشعة، وصف مراسل صحافي عاصر المذبحة: "إنه شيء تأنف الوحوش نفسها ارتكابه لقد أتوا بفتاة واغتصبوها بحضور أهلها، ثم انتهوا منها وبدأوا تعذيبها فقطعوا نهديها ثم ألقوا بها في النار ".
ودون أن يجلس أجدادنا بيننا اليوم في الخيام والحديث معنا عن المأساة، أخذت الذاكرة ترصد ما سمعت وقرأت من أدلةٍ اعترف بها الاحتلال نفسه بها، فقد استخدام المهاجمون، يوم المذبحة، الأسلوب الوحيد الذي يعرفونه جيدًا، وهو الديناميت، حتى استولوا على القرية عن طريق تفجيرها بيتًا.. بيتا، ثم تنظيف المكان وجمع كل ما يتحرك على الحائط وإراقة دم الجماعة دون رحمة.
وعلى مدار يومين، كان الاحتلال قد تمكن من قتل 254 مدنيًا، بتعذيب وبتر وذبح الحوامل من خلال المراهنة على نوع الأجنة، وإلقاء 53 طفلًا حيًا وراء سور المدينة القديمة، وبالإضافة إلى اقتياد 25 رجالًا في حافلات ليطوفوا بهم داخل القدس طواف النصر على غرار الجيوش الرومانية القديمة، ثم إعدامهم رميًا بالرصاص.
ولتكتمل الجريمة مع اختفاء الأثر، ألقت القوات الإسرائيلية الجثث في بئر القرية وأُغلق بابه بإحكام، بعد تفجيرها لتضليل مندوبي الهيئات الدولية والإيحاء بأن الضحايا لقوا حتفهم خلال صدمات مسلحة، حيث كانت تهدف من وراء ارتكاب تلك المذبحة إثارة حالة من الفزع والرعب بين الفلسطينيين في القرى والمدن الأخرى في فلسطين حتى يتم لهم احتلالها بلا قتال.
وهكذا خرج الشهود من القرية إلى اللجوء ليخبروا الأحفاد عن مجازرٍ وقعت بحقهم، وعن شكل الخيام المتزاحمة التي لاقوها في الغربة، بعدما كان الرجل فيهم سيد قومه دون أن يُشعر الفقير منهم بمنة، أصبحوا يتلقون أكلهم من إغاثات دولية، لكنّ خيام العودة، أخذت عهد دير ياسين، وعادت تكرم سيدها، خلال مشاركتي في جلسة الأجداد في إحدى الأمسيات على الحدود الشمالية، رأيت ذلك حقًا.